فى الشيب والمعاش والمشافى وغُرف الإنعاش (2)

ونعود لما انقطع من حديثنا السالف مفردين هذا الحيز للمعاش وما بعد المعاش. والمعاش مشتق من العيش والعيش هو الحياة: عاش يعيش , معاشاً أو معيشاً بوزن مبيت كما فى المعجم.أما المعاش الذى نريد فهو المعنى الإصطلاعى ومعناه التقاعد عن العمل طوعاً أو قسراً ويكون بأجر قل أو كثر. فإن قيل إن فلاناً فى المعاش فمعنى ذلك أنه قد تركه طوعاً أوغصباً وأنه يتقاضى مبلغاً من المال على هذه الحال. والمعاش إصطلاح ملطف للتقاعد الذى هو القعود عن العمل وفيه معنى العجز عن القيام به. والمعاش يطلقفى بعضالبلدان العربية على الأجر الشهرى للموظف أو العامل فيقال المعاش الشهرى. وحتى نحكم وصل ما نحن بصدده بما انقطع من سالف القول , نعود لبيت أبى الطيب المتنبئ:
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبى ويُهرِمُ
و قبل أن نعيد القول فى معنى البيت لا يفوتنا الإشارة إلى أن الشيب الذى علا راس الشاعر ليس دالة على كبر السن فالشاعر يزعم أنه لم يزل فى ميعة الصبا وشرخ الشباب لكن قاتل الله الهم الذى عجل بمقدم الشيب وهزال البنية وذلك عين ما ذهب إليه أبو نواسحين قال:
وما إن شبت من كبر ولكن لقيت من الحوادث ما أشابا
ونعود لبيت المتنبئ إذ بقول البيت إن الهم يخترم أى يقتطع أو يستأصل من جسم الجسيم أى المكتنزالجسمحتى يغدو نحيفاً يشكو الهزال ولعل من يخترم قولنا ( خُرم) فى العامية أى ثقب . ولايقف أثر الهم عند هذا الحد من القسوة على الجسيم القوى الشاب بل يصل إلى الشعر الكائن فى مقدمة الرأس فيحيل سواده إلى بياض حتى يبدو ذلك الفتى الشقى بالهموم كالشيخ الهرم .ذلك حال الفتى القوى البنية الذى لم يشتعل راسه بشيب, يصيبه هم الفاقة وإنعدام العمل الذى يعينه على مغالبة الحياة أو هجر إمرأة أحبها له,فينتحل جسمه وتذهب نضرة الشباب من على محياه بل وينتشر الشيب باكراً بلا أوان على رأسه فيبدو كالشيخ الهرم! نقول ماذا لو أبتلى الشيخ الذى بلغ الستين بالهم , هم العيش وقد أحالوه إلى ما يسمونه “المعاش” أو ” القراش ” إن شئت والقراش فى فصيح اللغة هو المرآب أو “الجراج” فى عاميات عربية أخرى؟ فما من جسد قوى هناك يخترمه ذاك الهم فقد ذهبت به السنون وأما الشيب فإنه هناك منذ حين وإن حجبته الأصباغ إذ لا يصلح العطار ما أفسد الدهر. والمعاش المراد به العطية الشهرية التى تمنح للمتقاعد هى شئ يقل كثيراً عن الأجر الشهرى الذى نسميه ( الماهية) التى يتندر بها الظرفاءمنذ حين بأنها فى الأصل عبارة تساؤل “ما هى؟” فهى لا تسد رمقاً ولا تستر حالاً. كلما تفعله أنها تسهل عليك الإستدانة فهى مثل بطاقة الإئتمان. أم العاطل عن العمل لإنعدام فرص العمل أصلاً أو لمن بلغ الستين فكيف يستدين وهو بلا دخل. لذلك فالهم الذى يخترم ليس بسبب إنقطاع ” الما هى ؟” فقد قلنا إنها لا تدفع جوعاً ولا تستر عُرياً حتى لكبار الموظفين وإنما بسبب أن إنقطاعها يقطع طريق الإستدانة من المصارف والأفراد وحتى من الأحبة . والمعاش فى بلادٍ “حال زين” هو الجائزة الحقيقية بعد عمر طويل حافل بالعمل. ولما أرادت الحكومة الفرنسية رفع سن المعاش إلى أثنتين وستين عاماً بدلاً من ستين ثارت عليها مدن الجمهورية واريافها وقال المعاشيون ” يريدوننا ان نعمل حتى القبر؟” ذلك لأن المتقاعد يتقاضى نفس الراتب الذى كان يتقاضاه وهو على رأس العمل وذلك مدى الحياة. وراى المتظاهرون أن حكومتهم ولمتاعب إقتصادية تعانى منها البلاد أرادت حرمانهم من عامين من أعمارهم يستحقون فيها أجورهم بلا عمل. والناس فى تلك البلاد ينتظرون المعاش فرحين متهللين لأنهم يحققون عنئذ ما لم يتمكنوا من تحقيقه أثناء حياتهم العملية , فينخرط بعضهم فى تعليم لم يكملوه ويسافر بعضهم إلى أماكن فى العالم حلموا برؤيتها وهكذا. وأعرف رجلاً باع بيته واشترى “كرفاناً” أى بيتاً متحركاً يقطره بقاطرة يجوب به وزوجته قارة أمريكا الشمالية لما تبقى من عمريهما! أما معضلة معاش منسوبى الخدمة المدنية فى هذا البلد ترقى إلى درجة الفضيحة.والتسمية نفسها, المعاش, مثل نعت الصحرء ب “المفازة” كماكانت تفعل العرب وهى لمن لا يرتب أمر إجتيازها بما يلزم مهلكة, أومثلما يتحاشى أهلنا النطق بشياطين الجن فيقولون “ناس باسم الله”! فالمعاش هنا فى حقيقته “ممات”. ملاليم لا غير .وأبناؤنا لا يعرفون “مليم”وجمعها “ملاليم”وهى الوحدات الأصغر المكونة للقرش. (ترى هل يعرفون القرش؟ إنه ليس ذلك الحيوان البحرى القاتل!).ونقول ممات لأنك لو تخيلت شيخاً جاوز الستين يسكن أطراف الخرطوم يستخدم وسائط النقل العامة حتى يصل إلى حيث يقبض معاشاً لا يكفيه لثلاثة أيام وهو يئن من وطأة أمراض السكر والضغط و تصلب الشرايين ومن وطأة ديون متراكمة ومن هم تغطية نفقات العيش والدواء ومراجعة طبيبه كل حين مضافا إلى ذلك حسرات السنين التى قضاها فى الخدمة.لك ان تتخيل كيف يكون حاله لو إنتهره موظف صغير هناك وطلب منه العودة لاحقاً لخطأ فى وثيقة يحملها أو لإختلاف طفيف فى اسمه الرابع. اغلب الظن ان تصيبه ذبحة او سكتة قلبية تحمله إلى إحدى المشافى إن وصل ذووه فى الوقت المناسب أو كان يملك تأميناً صحياً. وقد ينتهى به الأمر إلى غرفة الإنعاش.وقد يجعل الله له الموت راحة من كل شر. أما إذا كان طويل العمر ولم يمت فهم سداد مستحقات المشفى وغرفة الإنعاش سيحاول أن يخترم جسما مثقلاً ب “الخروم” والجراح أو قد لا يجد جسما يخترمه فينقض على عظام نخرة متهالكة.
وأزمة ( المعاش) فى الأصل هى أزمة الخدمة المدنية فى هذا البلد وبالتالى هى أم الأزمات. فكل الدراسات تؤكد أن مرتبات العاملين فيها حتى من هم فى أعلى درجات السلم الوظيفى , وكلاء الوزارات, لا تكفيهم رواتبهم الشهرية أى وهم على رأس العمل وقبل أن يتقاعدوا. فكيف يشرف جهاز الخدمة المدنية على إدارة الدولة ومشاريع التنمية فيها؟ أليس الوضع معكوساً هنا وأنت تروم إحداث تنمية تعود على الناس بالخير الوفير والعيش الكريم ؟كمن يحاول البدءببناء السقف قبل الأساس. ” لا يستقيم الظل والعود أعوج.”
ولقد أدركنا زماناً كانت الوظائف كافة تحقق على الأقل حد الكفاية من العيش دون عناء. وكان الحرص على تعليم الأبناء هو الحرص على الإلتحاق بالوظيف الحكومى بعد ذلك. وعندى أن العمل على إعادة الإعتبار للخدمة المدنية يعد لازمة ضرورية للنهضة ولتحقيق الطموحات الوطنية وبدون ذلك ستستمر الشكوى بلا طائل من فشل كافة الجهود فى إستقطاب الإستثمار الخارجى بسسبب العطب المزمن والكساح الذى تعانى منه الإدارة أو بيروقراطية الدولة. وريثما يكتمل ذلك أجعلوا المعاش مساوياً لآخر راتب تقاضاه من بلغ سن التقاعد مع مجانية العلاج والتنقل بنصف القيمة فى المركبات العامة. وإن كان البر بالوالدين ملزماً للابناء فعلى الوطن دين مستحق على من تقعدهم السن عن العطاء. روى أصحاب السير أن عمر رأى يهودياً شيخاً يتكفف الناس فى طرقات المدينة فأمر له بنصيب ثابت فى بيت المال يغنيه عن السؤال وقال قولته الشهيرة ” أكلنا شبيبته ولم نرع شيبته!”.

تعليقات الفيسبوك