عرض موجز لكتاب: موت الخبرة: الغارة علي المعرفة الثابتة المؤكدة، ومدي خطورة ذلك!

والكتاب من تأليف توم نيكلاس ، أستاذ العلاقات الدولية بكلية الحرب البحرية وكلية الدراسات الإضافية التابعة لجامعة هارفارد وهو خريج علوم سياسية وتخصصه الوظيفي حاليا هو أستاذ في مجال الأمن الوطني ،اختصاصي في شؤون الاتحاد الروسي والحرب الإلكترونية وله علاقات زمالة في عدد من مراكز البحوث الأمريكية المعروفة كما أنه يعد في زمرة المحافظين الذين عارضوا بشدة نسخة الرئيس السابق دونالد ترامب المحافظة في الحزب الجمهوري وأعلن مغادرته للحزب ليبقي مستقلاً . صدر الكتاب عن مطبعة جامعة أكسفورد عام ٢٠١٧ وهو يحوي ٢٥٢ صفحة من القطع المتوسط. والكتاب مكون من ستة فصول عدا المقدمة والخاتمة. وقد أجريت مع المؤلف لقاءات تلفزيونية عديدة لاستجلاء ما غمض من رؤي في الكتاب تجدونها علي اليوتيوب.
فصول الكتاب الستة مقسمة لتسليط الضوء علي أسباب الظاهرة ،ظاهرة الحملة المعادية للخبرة وللمعارف الثابتة علمياً في المجالات المختلفة و أسباب نفور العامة من المختصين وتناقص الثقة فيهم في المجالات كافة ، في الطب والهندسة والتأريخ والصحة العامة مع تعاظم ثقة زائفة في المقابل لدي العامة في أنفسهم وفي معلوماتهم وحصيلة ما يعرفون وتشكيكهم في إفادات كل مختص في أي فن من الفنون أو ضرب من المهارات .وتلك حالة يصفها بالنرجسية الضارة وتضخيم الذات غير المسبوق في الثقافة الأمريكية..
خصص المؤلف الفصل الأول للعلاقة بين الخبير المختص في مجال ما من مجالات الاختصاص وبين عامة المواطنين وأشار إلي كونها علاقة مأزومة محفوفة بالتشكيك من قديم لكن الأمر ازداد تعقيداً علي نحو غير مسبوق كما تقدم ، كما فصله في كل مجال في الفصول التالية ويري أن الأمر يعد أمراً خطيرا بحاجة إلي المعالجة.
الفصل الأول : الخبراء والمواطنون ؟

استهل هذا الفصل بمقتبس لخبر من مجلة ساخرة كوميدية تسمي البصل يقول: ” مدينة واشنطن العاصمة: مشيرين لسنوات من الإحباط جراء نصائح جادوا بها لم تفهم أو شوهت أو أهملت ببساطة فإن أكبر خبراء أمريكا في المجالات المختلفة قد قدموا استقالات جماعية هذا اليوم الاثنين.”
بالطبع لا صحة لذلك لكنه تسليط للضوء علي موضوع هذا الفصل من الكتاب بهذه الطريقة الدرامية والمكتوبة بصيغة الأخبار والبيانات الصحفية في الولايات المتحدة تحديدا. يقول نحن نعرف أولئك المواطنين فقد التقيناهم جميعاً فهم زملاؤنا في العمل و هم أصدقاؤنا وأفراد عائلاتنا. هؤلاء جميعاً فيهم الشاب الحدث والشيخ الكبير الهرم وفيهم الغني والفقير والمتعلم وآخرون سلاحهم جهاز كمبيوتر محمول أو بطاقة عضوية في مكتبة عامة يجمعهم أمر واحد: هم مواطنون عاديون يحسبون أنهم يملكون كنزاً دفيناً من المعارف جميعاً! وأنهم أكثر معرفة من الخبراء وأوسع معرفة من البروفسورات وأنهم أعمق معرفة من الكتل البشرية الساذجة التي يسهل خداعها، وأنهم هم المفسرون الذين هم علي أتم السعادة والاستعداد لتنويرنا عن كل شيء من تاريخ الامبريالية وحتي خطورة أمصال التطعيم.
عمد هنا إلي تعريف مراده من الكتاب بتعريف المشكلة بأنها ليست مجرد عدم اكتراث المواطن العادي بالحقائق والمعارف الثابتة التي لا يساور الشك أحدا في صدقيتها بل تكمن الأزمة في عداوة شديدة إزاء المعارف والحقائق المثبتة. ويقول هذه ظاهرة جديدة في الثقافة الأمريكية وخطيرة. إذ تغدو الحقيقة عند الناس مجرد رأي . فرأي الآخر ينبغي أن يعد صالحاً وإن لم يكن أي تصبح الحقائق الثابتة ومثار جدال بين الناس. ويقول إن رفض الحقائق الثابتة علمياً يعد للأسف لدي قطاع من الناس بمثابة بطاقة معرفة عميقة لحاملها و مظنة علم غزير . ويضرب لذلك مثالاً حول زوبعة أثيرت حول لبن الأبقار غير المبستر أي الخاضع للمعالجة عبر عمليات تنقية وتعقيم. يقول فشا في الناس أن اللبن الطازج المحلوب للتو من ضرع الأبقار أفضل غذائياً وأحسن مذاقاً، قالها كبير طهاة في احدي المطاعم في بوسطن فانتشر الخبر وأقبل الناس علي اللبن الطازج اقبالاً كبيرا حتي اضطرت الجهات الصحية لتحذير الناس بأن منتجات الألبان غير المعالجة تعرض من يتناولها ١٥٠ مرة أكثر للإصابة بالأمراض بسبب الباثولوجين المسبب للأمراض. يجئ الرد من العامة بأن لماذا نصدق الخبراء والأطباء وقد أخطأوا من قبل في شأن البيض والزبدة ؟ عندما أكدوا ضررها ثم اتضح أت لا ضرر من تناولها ؟وعليه فإنهم دوماً مخطئون!

لذلك يقوم بتعريف الخبراء بأنهم ” هم الناس الذين يعرفون في موضوع بعينه أكثر مما نعرف نحن جميعاً وهم من نرجع إليهم طلباً للنصح في التعليم أو نلتمس عندهم الحلول في أمر من أمور المعارف البشرية. تذكر أن ذلك لا يعني أن الخبراء يعرفون كل شيء تريد معرفته في ذلك الشأن. فقط يعني أن الخبراء في موضوع بعينه وفي حدود اختصاصهم، هم الأقلية التي تكون معرفتها هي التي يعتد بها – أي هي الصحيحة والدقيقة أكثر من أي شخص آخر.”( ص ٣٠).
يقول إن الشهادات والدرجات العلمية في أي ضرب من المهارات، في التعليم ،في الطبابة، في التمريض وغيرها هي لوازم تفصل بين الهواة والمحترفين وهي ناجحة في رفد الحياة بالمؤهلين أصحاب العلم والتجربة. صحيح أن البعض ينجحون في اجتياز الامتحان ويحصلون علي الوظائف لكنهم يظلون هناك دون ابداعات حقيقية. وهنا يورد عبارة شهيرة للأديب ارنست همنغوي عن الكتابة فيقول، ” الجدية الحقة أساس متين في فن الكتابة أما الشرط الآخر لها للأسف هو الموهبة”! بمعني أن العلم بالتعلم أما التفوق والتميز يأتي بالموهبة.

الفصل الثاني وعنوانه: كيف أصبحت المخاطبة بين الناس مرهقة وبلا جدوي؟

هذا فصل يوضح أن الغاية من كل تحاور أصبحت هي الانتصار للنفس و ادعاء كل متحاور أنه ليس الغبي في هذا الجدال أو ذاك. ويتميز هذا الفصل بتحليلات ترجع إلي علم النفس في تفسير الظواهر كرغبة الإنسان الطبيعي كحيوان اجتماعي أن يتمتع بالقبول وألا يُظن به الغباء . تحدث مثلاً عن دراسة قام بها عالمان في جامعة كورنيل تعرف ب ” تأثير دانينق وكريقر” وهي دراسة تؤكد فرضية وجود أناس أقرب إلي الغباء أطلقا عليهم أسماء أقل حدة مثلاً : “غير مهرة” أو “ليسوا أكفاء”. تقول الدراسة أن مشكلة أولئك لا تكمن فقط في أنهم يصلون إلي خلاصات خاطئة ويعتمدون استناداً عليها خيارات سيئة بل إن عدم الكفاءة هو الذي يحجب عنهم ادراك القصور الذي يعانون منه.” ويعزي ذلك لافتقارهم لما يعرف بامتلاك صفة ادراك ما وراء المعرفة ( ميقا كوقنشن). وهي الخاصية التي تجعل السوي يدرك خطأه وجانب القصور في نفسه فيصحح ذلك. هؤلاء من أكثر الناس جدالاً لأنهم لا يعترفون بالقصور والنقص. هذا الفصل تحتشد فيه الكثير من نظريات تحليل السلوك الإنساني مثل الميل للاعتراف بما يتوافق مع الهوي بالبحث عن ما يدعم معتقدات بعينها من الأشياء كالاعتقاد الذي كان سائدا بأن كل أعسر (أشول) شرير فإذا حدث أن ضبط مجرم قتل نفساً فذلك يقوي حجة من يحمل ذلك الاعتقاد. وهو اعتقاد فاسد بالطبع..
قال نحن جميعا أميل لما يوافق مخاوفنا أو أهواءنا وذكر مثالاً طريفا لعمه الذي يعيش في اليونان. قال أصابه مرض يتطلب علاجه في لندن ولكنه كان يعاني من فوبيا الطيران. قال حاول الوالد إقناعه بأنه لما كان لكل إنسان يوما بعينه يفارق فيه هذه الفانية فإنه من المحتمل” أن لا يكون يوم موتك هو يوم توجهك بالطائرة إلي لندن “. قال عمه ، “هذا صحيح فماذا لو كان هو أوان موت قائد الطائرة التي ستحملني إلي هناك!”

الفصل الثالث عن ” التعليم العالي : الزبون محق علي الدوام! ”

يتناول هنا كيف أصبح التعليم العالي مساهماً في قتل الخبرة وتشكيك العامة في جدواها . يقول: إنه لا يزال مدافعاً عن التعليم العالي في أمريكا وأن الجامعات الأمريكية بما في ذلك مناهجها الخبيثة في الدراسات النظرية (رأي أستاذ محافظ) لا زالت هي الأفضل في العالم ومع ذلك فإن التوسع الذي شهده التعليم العالي بعد الحرب العالمية الثانية أضر كثيرا بفاعليته وجعل الجامعات وحتي الكليات الصغيرة تتوسع فيه أكثر بلا ضرورة بغية التربح الذي جعل العلاقة بين الطالب والجامعة تماثل علاقة الزبون في حقل التجارة بالتاجر وأن الزبون (الطالب هنا) هو الأهم. هذه العلاقة السلعية جعلت الجامعة أو الكلية كمنتج قد حطمت قيمة الشهادة الجامعية وأفقدت ثقة عامة الناس في جدواها. وأصبح الطلاب يختارون الجامعات لاعتبارات غير التميز الأكاديمي. ” وعن دور الجامعة أو الكلية يقول، هي” في أفضل حالتها ينبغي علي الكلية أن تخرج خريجين بخلفية معقولة في مجال تخصصهم مع عزيمة لديهم علي مواصلة التعلم علي مدار حيواتهم مع القدرة علي أن يجعلوا لأنفسم أدواراً صالحة كمواطنين .” (ص٧٣). فالجامعات قد غدت تعني بتحقيق الأرباح وتتنافس علي ذلك.
وانتقد بشدة بعض وسائل تقييم أداء الأساتذة من قبل الطلاب المعمول به في الجامعات الأمريكية لكونه يساهم في تقليل الاحترام للأستاذ وهو احترام مفقود أصلاً و يجعل من الأستاذ و الطالب سواسية كما لو كانا زميلين!
علي ذلك فالطلاب قد غدوا بالنسبة للجامعة مجرد زبائن تحرص علي رضاهم. وإن اشتجر خلاف بين الطالب والأستاذ فالأستاذ هو المخطئ لأن الطالب هو الزبون الذي يدفع للجامعة. وتحدث بتفصيل هنا عن التضخم المصاحب لمنح الدرجات اعتمادا علي إحصائيات ودراسات. وأشار إلي التساهل في منح الدرجات فدرجة (أيه) أصبحت هي الغالبة و يحتج كثير من الطلاب إن لم يمنحوها يجادلون الأساتذة في سبيلها بمعارفهم من الانترنت. وتحسر علي عقود مضت كانت فيها الدرجة (سي) مقبولة وموضع احترام ومحط غاية يسعي لتحقيقها الطالب المجتهد! وتحدث بحسرة عن الضعف الذي حاق بالمؤسسات والجامعات ذات الصيت الحسن التي تعتبر في قمة الهرم.
الفصل الرابع بعنوان: ” دعني أقوقل ذلك؟: وكيف أن هذه المعلومات اللامحدودة قد زادت غباءنا؟ يقر ابتداء بدور الانترنت في توفير المعارف وزيادة فاعلية التواصل لكنه ساهم في توسيع الشقة بين أهل الاختصاص وعامة الناس فالذي يصاب بألم في صدره لماذا يتكبد مشقة الذهاب للطبيب وتحديد موعد عنده والانتظار ما دام بوسعه استشارة قوقل والحصول علي الدواء بسرعة فائقة؟ ويقول إن كثرة المواقع علي الانترنت مربكة ومضللة . لقد كان عددها في العام ١٩٩٤ لا يتجاوز الثلاثة آلاف فأصبحت في العام ٢٠١٤ أكثر من بليون موقع! يقول لحسن الحظ بينها مائة ألف موقع مفيد هي صفحات الجامعات ومواقع مراكز البحوث وجميع مؤسسات الأخبار في العالم لكن المشكلة أن البحث عن المفيد ممض في ثنايا هذا الركام الغث الذي يساهم فيه كل من هب ودب، العباقرة وأغبي الأغبياء علي حد سواء.
.لقد جعل الفصل كله تبياناً لآثار الانترنت الكارثية واسهامه المدمر في قتل الخبرة ونشر نظريات المؤامرة ونسب الكثير من الأقوال لغير قائليها وضرب لذلك مثلاً بعبارة للرئيس الأسبق ابراهام لينكلن تحذر من تصديق كلما يرد في الانترنت علماً بأن الرجل قتل في القرن التاسع عشر وقبل اختراع الانترنت. وتحدث عن صورة لجنود أمريكيين وهم يصلون، صلاة المسلمين زعم من وضعها أن أوباما ألزم الجيش الأمريكي كله بالصلاة في عيد من أعياد المسلمين علي ذلك النحو وعلق بأن الصورة قديمة لجنود مسلمين في الجيش الأمريكي التقطت وهم يؤدون الصلاة. وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم.
ويتساءل في عنوان جانبي في هذا الفصل :ما حجم المزيف في الانترنت؟ (يجيب) كل شيء!
يقول ، عكس ما كان ينشر من المزيف في الصحافة الورقية فإن المزيف إلكترونياً يبقي موجودا ويمكن استرجاعه في كل وقت!

الفصل الخامس : عن جديد الصحافة الجديدة ( الصحافة بمعني الإعلام بوجوهه جميعاً)

وهو جدير بالقراءة لما حوي من تأريخ تطور الإعلام الأمريكي من الصحافة الورقية إلي الإذاعة ثم التلفزيون فالقنوات الثلاث حتي ظهور CNN وإعلام الكيبل علي مدار الساعة ثم مجيء الاعلام الالكتروني. يقول إن وقوع الأخطاء قبل الوسائط الجديدة كان موجوداً ولم تخلقه الوسائط الجديدة لكن الوسائط الجديدة كثرت وتكاثرت بما فاقم من المشكلات وزاد في إرباك الناس. يقول في عام ١٩٦٠ كانت هناك ثلاث قنوات تلفزيونية وثمان إذاعات (راديوهات) وصحيفة واحدة. وفي عام ٢٠١٤ يعد متوسط القنوات في البيت الأمريكي ١٨٩ قناة أضف إليها ما يصل عبر الهاتف الجوال والكمبيوتر وأن متابعة ذلك تستغرق أكثر من ١٥ ساعة يومياً. قال ذلك يماثل قولك أن الأمريكي يملك اليوم خيارات واسعة من المطاعم ومنصات الأطعمة الخفيفة والتي تبلغ أكثر من ثلاثمائة ألف مطعم . إلا أن ذلك لا يعني أن صحة الأمريكي اليوم أفضل مما كانت عليه في السابق. إن الثروة وتطور التكنولوجيا قد قلل من الحواجز في صناعة الصحافة فتعددت في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي مما يؤدي إلي ما يمكن توقعه منطقياً : زيادة الوسائط تعني زيادة توظيف الإعلاميين و زيادة المنافسة بين الوسائط وزيادة المنافسة تؤدي لتصنيف الناس سياسياً وديمقرافياً للحصول علي مشاهدات أو مستمعين أكثر مع طلب المواطن الأمريكي لوجبات إعلامية خفيف وسريعة وممتعة في ذات الوقت. ذلك كله يؤثر تأثيراً كبيراً علي جودة المادة ورصانتها وعلي كفاءة الإعلاميين الذين تقتضيهم هذه الكثرة الهائلة. أمر آخر هو أن وسائط مثل التوتير والفيس بوك تتيح للمتلقي التدخل في المادة الموجهة إليه فيتدخل بسرعة بالاحتجاج والتصويب وبالمزاج الذي يرومه في نقل الوسائط للمواد . هذا الأمر أدي إلي خلط الخبر بالترويح وجعل الوسائط تتحسب لأمزجة المشاهدين والمستمعين علي طريقة (ما يطلبه المستمعون!). لذلك وبسبب هذه السرعة في التلقي والسرعة في الإعداد تؤكد الدراسات أن شباب اليوم أكثر جهلاً من آبائهم من المعارف العامة وأكثر لا مبالاة بمعرفة ما يدور في العالم وبالتالي أقرب للوقوع فرائس سهلة لنظريات المؤامرة والصيحات الشعبوية والعنصرية.

الفصل السادس وعنوانه : “عندما يكون الخبراء علي خطأ؟”

وقد أورد فيه المؤلف أخطاء الخبراء حيث أستعرض فيه أخطاء وقعت بالفعل لكنه فرق بين الخطأ الذي يقع من غير قصد علي اعتبار أن الاختراعات والاكتشافات في العلوم الطبيعية والوصول لحقائق ثابتة فيها تكون مشروعات معقدة تبني علي مراحل دقيقة بعضها فوق بعض وصولاً للغاية المنشودة فيعتريها في بعض مراحلها القصور والخطأ كما في الطب مثلاً وأورد أمثلة لذلك وقد تقع في تقديرات السياسة مثلا فتأتي علي غير التوقعات. فرق بين ذلك بين التدليس المتعمد الذي قد يقوم به خبير في مجال من المجالات بقصد الشهرة لنرجسية زائدة أو لشقف بالأضواء أول لأنه قبض مالاً لقاء ذلك أو أصاب منصباً جراء ما زعم. ذلك كله يقع لكنه قليل ومحدود ويمكن كشفه ومعالجته خاصة في المجالات التطبيقية وأن ذلك لا يعني بحال أن غير المختص أنسب للعمل من الخبير المختص. ضرب مثلاً بتوقعات أخطأ هو نفسه فيها إذ توقع قبل انتخابات روسيا عام ٢٠٠٠ أن فلادمير بوتن الذي لم يكن معروفاً سيقود روسيا إلي ديمقراطية حقيقية لكن العكس هو الذي حدث. تساءل ” لماذا أخطأت أنا التوقع ؟ ” قال ذلك سؤال لا يزل يمتص جل وقتي و اقتضي مني ومن زملائي المختصين في الحقل الروسي مراجعات ومناقشات . هل خدعنا بيوتن في عام ٢٠٠٠ أم أنا كنا محقين في التفاؤل؟ و هل تغير بيوتن في مسيرته وأضاع تلك الفرصة أم أن أمراً خفياً حدث في الكرملين لم يطّلع عليه الناس قاد القيادة الروسية برمتها في طريق الأوتقراطية واعتماد الصدام في علاقات روسيا الدولية؟ ذلك لا يعني الشخص العادي غير المختص فهو يتوقف عند خطأ الخبراء عندما لا تسير الأمور علي النحو المرغوب. قال ولا يعني ذلك أنني لا أعرف الشأن الروسي وأن غير المختص يمكن أن يصلح مستشاراً في الشؤون الروسية أو يتولى تدريس فصل دراسي عن الشأن الروسي. ربما توقع متشائماً أن يصبح بيوتن متسلطاً لكن ذلك لا يجعله مستشاراً فتلك مصادفة لا تستند إلي توقعات تبني علي معرفة بروسيا.

الخاتمة مفيدة جداً تشير إلي مسؤولية المواطن العادي وتذكره بأن الخبير لا يصنع السياسات ولكنه يشير بها علي السياسيين وأن يتعين علي المواطن الاهتمام بالشأن العام ليقوم بانتخاب الصالحين. وتحدث مطولاً عن الخبراء في النظام الجمهوري في أمريكا فهو نظام تمثيلي يقوم فيه الناخب بإختيار الحكام ويستعين الحكام بالخبراء في المجالات المختلفة. الشعبوية تكرس في الواقع النخبوية التي يشكو العامة منها لأن الحفاوة بالجهل لن تطلق قمرا اصطناعياً للاتصالات ولن تعرف علي الحقيقة مناقشة حقوق الأمريكيين في الخارج أو توفير الأدوية الفعالة للمواطنين وهي أعمال صعبة لكنها حتي لدي أبسط مواطن تعد من المسلمات التي لا غني عنها تصنعها الخبرة. إن الخبراء عندما يواجهون بشعب لا يعرف كيف تصنع معظم الأشياء تضعف صلاتهم بالمجتمع ويقصرون الحوارات بين بعضهم بعضاً فقط بدلا أن يكون التواصل مع أولئك المواطنين.
وقام هنا بتحليل أثر الشعبوية ونظرية المؤامرة في صعود دونالد ترامب وفي تصويت البريطانيين دون روية للخروج من الاتحاد الأوروبي رغم تحذيرات الخبراء والتي رد عليها السياسي البريطاني مايكل قوف المؤيد للخروج بقول في ما معناه : إن مشاعر الناخب البريطاني أكثر أهمية من حقائق الخبراء!

وبعد….. تري كم دراسة جادة قد أعدت في عالمنا الفقير لمناقشة هذه القضية وكم حجم الضار الذي لا نفع فيه الذي تحمله تقانة الاتصالات المتطورة عبر الانترنت والوسائط التي بات لا يحصيها العد قد تسرب إلينا في المجالات كافة فطفق يقتات علي خير عندنا ليحل محله! ما أحوجنا لوقفة نميز فيه الصالح من الطالح والغث من السمين…..

تعليقات الفيسبوك