عبقرية السمو فوق المرارات!!

أحببت أن أشرك القراء الكرام والقارئات فى حوار ثر, كامل الدسم, جرى بين علمين من أعلام الثقافة فى الولايات المتحدة الأمريكية بقى تأثيرهما حتى بعد أن طواهما الموت, حول العرق وما فعله بانسان الولايات المتحدة لحقب طويلة من مظالم وجرائم وما خلف من مرارات. ويدور الحوار حول مدارات عقلانية لتحرير الأجيال الحاضرة واللاحقة من مرارات تلك الحقب بل ومن حرقة الشعور بالذنب من جرائر صنعها الأجداد ليس للخلف أياد فى صنعها.

والعلمان هما السيدة البيضاء( مارقريت مييد) الأنثربولوجية الأشهر, ذائعة الصيت والتى رفدت أعمالها وأبحاثها فى الثقافات المختلفة فى( سماوا) وفى( غينيا الجديدة) فى الباسفيكى, الفكر الليبرالى المؤكد( بكسر اللام) لقيم المساواة العرقية والمناويء للعنصرية بمعين لا ينضب من الاستنارة والنبل أسهم بلا شك فى صناعة مستوى التعايش العرقى فى الولايات المتحدة والذى وان لم لم يبلغ غاياته فى المساواة المطلقة بعد, لكنه بلغ شأوا مكن رجلا أسودا من أب أجنبى أن يعتلى سدة الرئاسة هناك. والعلم الآخر هو الرواى المبدع الأسود( جيمس بولدوين) وقد كان ناشطا فى حركة الحقوق المدنية, جمع بين صداقة رائدها وحامل شعلتها القس الدكتور مارتن لوثر كينج الصغير فى اطارفلسفة النضال السلمى الخالى من العنف وبين الخطيب الأسطورة المسلم مالكولم اكس المؤمن برد الصاع صاعات. ثم سكب مراراته وجراحاته كأسود عانى الأمرين من التفرقة العنصرية فى روايات مثل : ” لو كان شارع بيلف قادرا على الكلام!” أى لنطق بالحقيقة الشاهدة على براءة بطل الرواية الأسود الذى لبس( بضم اللام كسر الباء بعد تشديدها) زورا جريمة اغتصاب لم يرتكبها. ومثل ” اصعد للبوح بها على قمة الجبل!” و ” بلد آخر!”. ثم ضاقت به بلده الممتدة على رقعة من الأرض تبلغ مساحتها أربعة ملايين من الأميال المربعة ليستجير بمدينة باريس وليكتشف ان كان سيعامل هناك كانسان وحسب بلا تعريفات اضافية.

جرى الحوار الذى لا نملك الا أن نتخير بعض أجزائه لضيق الحيز المتاح لمقالة فى صحيفة سيارة, بين القامتين فى عام 1971 على مدى سبع ساعات عبر ليلتين متتاليتين ومد ثورة شباب الستينات بدأ رحلة الجزر وآل امر أمريكا يومئذ الى المحافظين من الجمهوريين.

جيمس بولدوين: كل الناس تعلم كم مكث الانسان الأسود فى هذا البلد (أمريكا). كل انسان يعلم الى أى مدى ينخرط الانسان الأسود فى بقية مكونات الانسان الأمريكى وفى الحياة الأمريكية. هذه ليست بأسرار. وعليه فان المسألة لا تكمن فى جهل البيض فى أمريكا بهذه الحقيقة. المشكلة تكمن فى خوف البيض فى أمريكا من الانسان الأسود.

مارقريت مييد: أجل, أعلم ذلك.

جيمس بولدوين: هذا ما يعقد المشكلة ويجعل الأمر هستيريا مغلقة صلدة لا سبيل الي علاجها . وبهذه الصفة يصعب على العقل استيعاب ذلك. كأنما المشكل برمته جرح غائر,غائر شديد الغور قد أصاب الجسد كله ولا أحد يجرؤ على القيام بجراحة للكشف عليه من الداخل والعمل على علاجه واغلاقه بالغرز.

مارقريت مييد: لقد استرعى انتباهى فى كتاباتكم اشارتكم الى أن أمريكا متفردة لانظير لها خاصة عندما قلتم انه لا يوجد “زنوج” خارج أمريكا. انى أعى تماما ما ترمى اليه بهذا القول. الذى قلته صحيح تماما. لكنك لم تقل شيئا عن جنوب افريقيا. ( كان ذلك أيام نظام الأقلية البيضاء.)

جيمس بولدوين: أنا لم أتناول جنوب افريقيا قط لأننى لا أعرف شيئا عن مجتمع جنوب افريقيا ولم يتسنى لى زيارة ذلك البلد. التقيت ببعض الناس من هناك منهم من راق لى ومنهم من لم يرق لى.

مارقريت مييد: لكن من الأشياء العجيبة أننى أجد فى نبرة بيض جنوب افريقيا حينما يقولون “بلدى” ذات النبرة التى أجدها عندك عندما تقول ” أنا أمريكى”.

جيمس بولدوين: نعم هذا صحيح لكن لسبب بغيض لكنى أتفهم ذلك ربما لأن أن البيض أيضا أقلية فى جنوب افريقيا.

( كأنه يقول ان وجود البيض فى محيط هادر من الأفارقة فى القارة السمراء يعد نشازا يستلزم من الأبيض فى جنوب افريقيا ضغطا أكثر على كلمة (بلدى) تأكيدا بأنه رغم ذلك ينتم الى ذلك المكان وذلك لا يخفى من خلال نبرات صوته كما هو الحال بالنسبة للأسود فى قارة بيضاء أسسها البيض عبر الأطلنطى هى أمريكا)

مارقريت مييد: ولأنهم لا يملكون بلدا غيرها.

جيمس بولدوين: لقد ارتحلوا الى ذلك الجزء القصى من الدنيا ليس أمامهم الا البحر واذا جاءهم الهولوكست أقول اذا جاء فليس باستطاعة أحد مساعدتهم .

مارقريت مييد: حقا لقد حصروا أنفسهم منقطعين عن العالم.

جيمس بولدوين: وأنا أفهم عندما يقول الأبيض هناك ” هذا بلدى” يعنى أنه ولد هناك وأنه عانى الصعاب والموت من أجل ذلك المكان مثلما هو حال البيض فى جنوب الولايات المتحدة . لقد أقاموا نظاما (عنصريا) هناك فى جنوب افريقيا قد يبقى عشر سنوات أخرى أو عشرين على أكثر تقدير لكنه لا محالة زائل. نمط الحياة جميعا الذى أقاموه زائل. ( دام عشرين عاما بالفعل بعد ذلك الحديث ثم زال).

مارقريت مييد: انى أتذكر صبيا تزوج أبوه ثانية بسيدة لها ولد فى سن ذلك الصبى. واضح أن لا قرابة تربط الصبيين وانما هو اخوة بالتبنى فقط. بعد ذلك ولدت الزوجة الجديدة ابنا من صلب الزوج والد ذلك الصبى. عندئذ قال الصبى : ” الآن أشعر بشعور مختلف تجاه ابن زوجة أبى فقد أصبح لنا أخا مشتركا.”

جيمس بولدوين: بالفعل ذلك الوضع الجديد يصنع فرقا هائلا.

مارقريت مييد: ها… كما ترى فأنا حسب بالغ علمى ليس فى سلالتى العرقية أسلاف سود. ولكن فى سلالتك أنت أسلاف بيض.

جيمس بولدوين : نعم.. نعم بالتأكيد.

مارقريت مييد: فعليه… أنا وأنت لدينا أخا مشتركا.

جيمس بولدوين: نعم صحيح ان لدينا أخا مشتركا ولكن تكمن المأساة فى حقيقة أن معظم البيض ينكرون ذلك الأخ.

مارقريت مييد: هناك نوعان من المأساة: هناك مأساة تكمن فى انكار الاخاء عندما تكون رابطة الدم بعيدة قد مضى عليها عشرة آلاف عام أومائة ألف عام. بمعنى أن علاقتى وعلاقتك بسكان غينيا الجديدة هى من نوع هذه العلاقة التى مضت عليها آلاف السنين كوننا ننتم لأصل واحد هوالجنس البشرى. انكار هذه العلاقة يعد مأساة . النوع الثانى من المأساة أن تكون العلاقة بين الناس قرابة وثيقة الى درجة أنه يعبر عنها بأنها رابطة دم ثم ينكرونها.

جيمس بولدوين: ذلك ما أعنيه عندما أتحدث عن الأمريكى الأسود الذى يطلق عليه “أسود” أو ” زنجى”.

تحدثت مييد باسهاب عن حقيقة أن معظم السود يحملون دماء بيضاء فى عروقهم ( عبر التسرى والاعتداءات فى الاقطاعيات الزراعية فى الجنوب الأمريكى) ورأت أن عليهم أن ينتسبوا لها( بتتبع نسل أقربائهم من البيض) كى تكون من المشتركات بينهم وبين البيض وضربت مثلا بالسيدة “تاون” اول سيدة سوداء تنتخب فى المجلس التشريعى لولاية أتلانطا وكيف ان أول ما قامت به هو أنها أخذت أطفالا سودا وذهبت فأخذت صورة لها ولهم أمام صورة جدها الأبيض الذى كان أحد حكام تلك الولاية قبل عقود خلت. وترى مييد أن ذلك أجدى فى تسريع الاندماج من عمل المنظمات الراديكالية الشبابية ك “القوة السوداء”. ورغم أن بولدوين اتفق معها على عدم جدوى الصيحات الراديكالية وعدها نوعا من ردود الأفعال على سلوك البيض الذى دمر كبرياء السود الا أنه يرى أن الأجدى والأهم أن تعدل أمريكا البيضاء سلوكها وأن تقبل بأخيها الأسود. ثم احتدم الخلاف بينهما حول التعامل مع التاريخ. مييد ترى ألا يحاسب الحاضر بجرائر الماضى وأن ذلك يعتقل حركة التاريخ فى الماضى ويعرقل التسامح الانسانى بينما ظل بولدوين يقف لفترة طويلة من الحوار فى محطة أن التاريخ هو الحاضر وأنه لابد من التكفير عن سوءات ما مضى. واليكم هذه المقتطفات:

مارقريت مييد: لقد ارتكبت خطأ فى حق ابنتى الصغيرة فى مرة من المرات. كنا نتجه معا الى مكان ما لكنها هرولت فجأة وصعدت الى شجرة صنوبر. قلت لها أنزلى من على تلك الشجرة ولا تأكلى أشواكها الحلوة كالهنود( أى الحمر). قالت لى ولماذا ياكل الهنود الحمر تلك الأشواك؟ قلت لها للحصول على( فايتمين سى) لأنهم لا يملكون أى أشجار برتقال ذلك لأن البيض المهاجرين قد استولوا على أراضيهم .. قالت ابنتى وهل أنا بيضاء ؟ قلت: أجل. فصا حت: لكننى لم استولى على أراضيهم ولا أحب أن يستولى عليها أحد!! ولو أننى قلت لها ان المستوطنين الأوائل استولوا على أراض الهنود لما تساءلت ابنتى: وهل أنا من المستوطنين الأوائل!؟ لكننى أكسبت الأمر تصنيفا عرقيا عندما قلت أن الرجل الأبيض قد فعل ذلك.

عاد فى معرض الحوار بولدوين ليجرم ذرارى الآباء الذين كانوا أحياء يعقلون عندما ألقت أمريكا القنابل الذرية على هيروشيما قائلا : ” ما كنت لأسامح أولئك الآباء الذين سمحوا لذلك أن يحدث.”( فى مقاربة لتجريم أجيال البيض الحاضرة بجريرة استرقاق السود وجلبهم الى العالم الجديد قسرا).

مارقريت مييد: قبل ذلك يتعين عليك أن تسأل نفسك هذا السؤال: كم كنت تملك من القوة لكى تمنع ذلك من ان يحدث؟ معظم الأمريكيين لم يكن فى مقدورهم تحمل أى مسؤولية عن حدوث ذلك لأنهم لم يكونوا على علم بما يحدث. اننى لا أتحمل جريرة عمل تقوم به الحكومة الأمريكية عندما لا أكون على علم بانها تقوم به. وعندما تقول ان أولئك الأطفال الذين كانوا فى سن 15 عندما القيت القنبلة يلومون آباءهم بزعم أن أولئك الاباء ( لمجرد أنهم أمريكيون) قد صنعوا تلك القنبلة اقول ان أولئك الأطفال مخطؤون لأن آباءهم لم يصنعوا تلك القنبلة ولم يكونوا على علم بالقائها على بشر. أنهم يصبحون مجرمين اذا علموا بها ولم يفعلوا شيئا لمنعها.

جيمس بولدوين: الذى عنيته هو أن كبارنا هم الذين صنعوا هذا العالم الذى نعيشه.

مارقريت مييد: لكنه ليس من صنع جيل واحد انه صناعة مئات الأجيال.

ورغم أن هذا الحوار الطويل لم يفض الى اتفاق فى نهاية المطاف حيث ظلت تصر مارقريت مييد على مسؤولية الجميع فى العمل على تغيير الأوضاع ومعالجة ما تبقى من أخطاء التاريخ لخلق حاضر أفضل ومستقبل متميز للأجيال القادمة , ظل جيمس بولدوين يائسا من حدوث أى تغيير نحو الأفضل فى بلده . قالت له يلزمك أن تعمل من أجل التغيير لأن “أمريكا بلدنا والاتحاد السوفيتى وربما قريبا جدا الصين هى فقط البلدان التى بامكانها تدمير كوكبنا تدميرا كاملا ” وذلك يحتم علينا أن نعمل على اصلاح الأمور فيها لكى لا يقع ذلك من أجل مستقبل أطفالنا وأحفادنا فى هذا البلد, وأيضا لأن أحبابك هنا ليس بوسعهم الهروب مثلك ( مما قد يجدونه جحيما مثلك) للعيش فى باريس فضلا عن كونك تعيش هناك (راضيا آمنا) بأموال تجنيها من ثمن كتابات تروق للناس هنا فى بلدك . معنى ذلك أنهم يستمعون اليك فلتحرص على اسعادهم فى بلدهم بالعمل على التغيير.

وبعد … لا توجد ثمة مقارنة فيما يتعلق بالعلاقات الاثنية فى بلدنا السودان وبين ما كان عليه الحال فى أمريكا قبل عقود خلت. ثم اننا لسنا بحاجة الى أخ مشترك نحكم به رباطنا فنحن جميعا عرب وغير عرب فى هذا السودان نحمل دماء افريقية بلا جدال فنحن أشقاء علينا أن ننهى خلافاتنا فى هذا الاطار و بهذه الروح. وأخيرا.. هل قرع هذا الحوار أجراسا فى الرأس والوجدان؟ أرجو ذلك.

نقلا عن يومية الرأى العام

تعليقات الفيسبوك