قلنا فى ما مضى ان الفتية أصحابنا قد انتقلوا مجددا الى ركن قصى آخر من أركان تلك المدينة الكبيرة التى كانت تكبر وتتسع فى كل اتجاه بلا حساب شأنها شأن كافة المدن التى يهبط عليها الثراء بغتة دون استئذان فتلتهمه بشراهة شائهة تتبدل فيها ملامح الشره فى كل حين فلا ترى فيه الا تخمة معيبة تخفى ما اعتاد الناس عليه من وسمه ورسمه. شخصت من قاع الأرض أبنية فخمة زاهية من الزجاج والصلب تروم السماء علوا و انتباه الناس انبهارا. ذلك كان فى قلب المدينة أما تخومها وأطرافها فقد ترهلت بما شاء الله من أطنان الأسمنت والحديد وبقية مواد البناء وبدت كبطن المتخم الأكول. لذا وللعجب كنت ترى غرفا بأشكال هندسية غير التى تواضع الناس فى حواضر العالم المختلفة على تشييدها اذ لا تخرج تلكم عن المربع أو المستطيل.( توجد بالطبع فى غير الحواضر وفى أرياف العالم الثالث وأحراشه القطاطى المصنوعة من القش وتلك التى صنعها الانجليز محاكاة لتلك من الآجر المحروق والجبس عند مسارات السكك الحديدية فى السودان وفى محطات قطاراتها. واستحدثوا فى مدينة ود مدنى( الدرادر) وهى غرف مستديرة تماما لعمال الصحة قبالة حى الحلة الجديدة أزيلت عندما اهتدينا الى ترك رزيلة تحميل البشر الفضلات الآدمية). أما فى ذلك الحى وفى تلكم المدينة فقد رأى أصحابنا عجبا من الغرف التى شيدت على أشكال يمكن أن يطلق عليها مجازا مخمسة مثل ( البنتاقون) أو مثلثة وهى على وجه اليقين – والله أصدق الشاهدين- لم تكن كذلك تماما! نعم كأنما بنيت بليل وعلى عجل مثل الدسائس والمؤآمرات! فى تلكم الأصقاع اهتدى أصحابنا الى بيت من غرفتين اثنتين تفتحان فى بعضهما البعض يفصل بينهما ممر صغير لا يتسع عرضه لأكثر من المترالواحد ولا يوجد به مطبخ لكنهم اتخذوا من مساحة لا يزيد عرضها عن نصف متر يوجد فى طرفها الآخر الحمام, مطبخا له وضعوا على منضدة هناك موقدا يعمل بالغازبعينين اثنتين. مع ذلك فقد سعدوا بهذا المسكن أيما سعادة اذ أنه موصول بشبكات المياه والكهرباء وبه مراوح معلقة فى السقف تدور بلا كلل مع تعاقب الليل والنهار والفصول وأهل الحى من مواطنى ذلك البلد يبادلونهم التحايا صباح مساء. ولو أنك تذكر ما قلنا فى حق البيت الثانى الذى كانوا يسكنون من افتقاره الى ذلك كله حتى لرد التحايا, للامست شغاف قلبك رعشة فرح لحالهم ولأيقنت كم حق لهم أن يفرحوا بما انتهى اليه ذلك الحال! ولأن المدينة اتسعت على عجل بحكم الضرورات لا وفقا للتدابير المدنية المدروسة فقد كانت أحياؤها الطرفية هذه متسخة تجوب أزقتها الضيقة المتعرجة جيوش جرارة من الذباب بسبب بقايا الطعام التى كانت تلقى أمام المنازل . وكان الضجيج طابعا مميزا لتلك الأحياء فقد كانت آلات شق الأرض الميكانيكية لدس (الكوابل) تحدث من الضجيج ما لا يطاق ومن الاجهاد لجسوم ناحلة تديرها أتى بها من جنوب غرب القارة الآسيوية ما يبعث على الشفقة. ولكن ومع مرور الأيام حورب الذباب والأوساخ وأصبحت تلك المدينة من أنظف مدائن الشرق. ترى متى تختف أكياس النايلون و(الأدبخانات) وزرائب الفحم والحطب من عاصمتنا الخرطوم نرجو أن ندرك ذلك الزمن قبل أن تدركنا المنايا. قال أستاذنا ان كلمة (كيبل) التى جمعها (كوابل) سالفة الذكر أخذها الفرنجة من كلمة (حبل) العربية والتشابه فى الجرس لا يخفى ولو أنك استبدلت حرف الحاء فى حبل بالكاف لأتضح لك وجاهة ذلك. وفى الشارع العام المفضى الى وسط المدينة مخابز حديثة وأسواق تزينها الثريات البراقة واللافتات المضيئة وبه أيضا معارض فخيمة لسيارات فارهة. خليق بذلك كله أن يدخل الى نفس من ترك بلده الناء ابتغاء عيش رغيد وحياة أفضل بعض العزاء بأنه قد خرج متغربا-على الأقل- الى فضاءات أفسح . لم يكن ذلك بأى حال حال الفتية أصحابنا كما أشرنا فى مستهل هذه الأوراق .
ظل (أرصد) قابعا حيث هو فى البيت الأول . و(أرصد) رجل محافظ قنوع يمقت التغيير لذلك ظل حيث هو فى ذلك الصقع البعيد الذى ابتدرنا بوصفه هذه السلسلة. وان كان ثمة ما يميز ذلك الحى الأول فهو لسان من البحر أبى الى أن يخترق حرم المدينة ممتدا فى جوفها سمى الحى باسمه وكان به مطعم حسن يديره طاقم من أبناء الصومال كانوا يعاملون أصحابنا بحفاوة بادية. وكان النادل فيه شاب حدث السن خفيف الروح ما أن يبدأ فى ترديد ما فى المطعم من أطباق حتى يشرع (عبد العزيز) فى الضحك فان أتى على ذكر الأرز قائلا : ” وفى رووز وحاكيك” قهقه عبد العزيز بصوت عال حتى تدمع عيناه. والحاكيك أقراص من طحين القمح المبشور(كالقراصة) تدهن بالسمن والعسل.لأهل الشمال خبزة قاسية تصنع من طحين القمح تخبز على الجمر يقال لها (الحوار) تؤكل بالسمن والعسل وتعرف عند العرب( بخبز الملة) بضم الميم. وتكسر الميم فى لهجة الشايقية. وفى مناطق أخرى من السودان يقال (الملالة) وهى الرماد الحار ويطلق مجازا على الرمل الحار وعلى مطلق الحر. قال الحطيئة فى قصيدته التى مطلعها:
وطاو ثلاث عاصب البطن مرمل ببيدا لم يعرف لها ساكن رسما
………… ما اغتذوا خبز ملة وما عرفوا للبر مذ خلقوا طعما
وقد سمعت لغير تنصت منى شيخة من عندنا تجادل حمالا عند موقف حافلات الديوم الشرقية فى الخرطوم فى أجرة حمله متاعها. فلما أكثر عليها قالت : ياوليدى ما فضل لى الا حق المواصلات. قال: أنا مالى ومال المواصلات؟ قالت كالهامسة: ايه الملة! ولحسن الحظ لم يسمع الرجل او لم يع ما قالت.
اذن فالبيت الجديد قد ضم من أولئك النفر (اصيفر) , (سارية) والمهندس (أمين) وانضم اليهم (كمال) وخلق كثير آخر لا يحصيه العد يأتون ويروحون اما منتقلين الى طرف قصى فى المدينة يجاور أماكن عملهم أو الى مدن نائية قصية تضرب اليها أكباد الابل موحشة قاسية أصابت بعضهم بالجنون فعادوا الى ذويهم فى السودان غصصا فى الحلق وحسرات فى القلوب. لقد ضم البيت للمرة الأولى شباب من أبناء الطبقة الوسطى من كبار الموظفين الذين لم يجلسوا القرفصاء عند طست يغسلون ملابسهم أو يعالجونها بعد الجفاف بالمكواة. والأشقاء فى المغرب العربى يقولون “يحدد الملابس” أو ربما قالوا “الحوائج” أى يستخدمون “الحديدة” فى كيها! أصر أحد نزلاء ذلك البيت من الضيوف على اعداد العشاء يوما فطال مكثه فى المطبخ الصغير الذى أوجدوه من العدم ثم فاحت رائحة حريق فوجدوا المسكين يعالج بيضا على النار بلا زيت! واعتذر بأنه لم يكن يعلم أن البيض يطهى بالدهن!! وكانت نوبة الطبخ يوما على احدهم فلما قدم القوم من أعمالهم يتضورون جوعا استبشروا خيرا برائحة (الكستارد) وحمدوا لرفيقهم أن تفضل عليهم تلك الظهيرة بصناعة “الحلو” فالمؤمن حلوى. لكنهم سرعان ما فوجئوا بطعم ورائحة “الحلو” فى طبخة “مسبكة” من لحم الدجاج الحنيز تخالط الملح والأبازير. فحاروا فى أمرهم ونظر بعضهم الى بعض وظنوا أن البقر قد تشابه على صاحبهم فنثر( الكاسترد) المسكين على طبخة الدجاج على اعتباره نوعا من البهار لكنهم فوجئوا بصاحبهم يتبسم فى غبطة وهو يزدرد اللقمة تلو الأخرى شارحا أصل الحكاية بأن أمه الحنون ( مساها الله بالخير) كانت تضيف الكاسترد على الطبيخ حتى يثخن قوامه!! وكانت تلك سانحة للتندر بصاحبنا حتى غضب بأن الأقدار وحدهاهى التى حملته من (آفاقه) البعيدة فى الزمن والمسافات معا الى دنيا الناس المعاصرة!أما صاحبنا ابن (الأكابر) فقد اختار غسل المواعين لأنه لا يحسن غيرها ورغم أنه رجل خلوق( وابن ناس)الا أنه خرج يوما من المطبخ متضجرا مغاضبا يحمل حلة غلى اللبن فى يده شاكيا متسائلا كيف ينفق الوقت كل يوم فى نظافتها ثم يجدها محروقة تماما صبيحة اليوم التالى! لغز أشكل عليه فهمه فتطوع سارية الساخر دوما بفك رموز اللغز العويص ضاحكا ” ببساطة لأن أصيفر ينفق من الوقت فى حرقها كل يوم مثلما تنفق أنت من الوقت فى حك حريقها حتى يشرب الشاى مقننا”!!
كنا قد قلنا أن النعمة قد بللت يباس بعضهم من الناحلين منهم ممن تأبت أجسادهم على الزيادة بينما اكتنز بعضهم لحما وشحما وتراجع الحديث عن العودة الى البلد وانطفأت جذوة الحديث عن السياسة وسلك الحديث مسلكا جديدا فكان فى محاسن النساء والتزويج. ويخطى من يظن أنهم قد تحدثوا عامهم ذاك فى غير النساء والبناء بهن. ورسموا من الصور والأخيلة لشريكات العمر ما لا يوجد الا فى الجنان بين الحور العين. فمن فارعة الطول ممشوقة القوام فى لون العسجد وشفق المغارب آآه الى خضراء فى لون الليمون :
خضرتك ليمونة وتينة بل زيتونة والاله يرعاك
والعرب تطلق على الأسمر الداكن السمرة صفة الخضرة فتقول فلان أخضر . ونسب الى الفضل بن العباس بن عتبة بن عبد المطلب شعرا قال فيه :
أنا الأخضر من يعرفنى أخضر الجلدة من بيت العرب
يتحاشون النسبة الى السواد كما يتحاشون النسبة الى البياض فيقولون فلان أحمر وكانوا ينفرون من الشقرة ويطلقون على الأوربيين : بنو الأصفر.أما البياض فمستحسن عندهم فى النساء.
وفرق بين خضرة الليمون وخضرة البشرة وفرق بين بياض الورق والجليد وبياض( الخواجات) لكنها مصطلحات قبلها الناس على علاتها.
وذكر لى الصديق هاشم الامام أنه وقف فى كتاب ” الروض الأنف” على وصف لاحدى جدات الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية أمه من بنى زهرة فى المدينة المنورة بأنها “زرقاء” قال الشارح أنها ضاربة الى السواد ومعنى ذلك ان لوصف “أزرق” أساسه من الصحة. وبمناسبة أخينا هاشم – حفظه الله فى غربته- فقد قال أيضا ان أبا العلاء المعرى ذكر فى ” رسالة الغفران” أن العرب كانت تطلق على مطلق البخور ” الدخان” وهوصنيع أهلنا فى السودان مع (الشاف والطلح) واقترح على أن أضيف ذلك الى كتابنا فى العامية “أشتات”.
ونعود الى حديث أصحابنا فى النساء فنقول ان فى الرجال نرجسية وشوفونية بغيضة فهم يتشهون أجمل نساء العالمين كأن البائسات لا يملكن ذات الحقوق فى التشهى وحب الجمال. قال المتنبىء:
منى كن لى أن البياض خضاب فيخفى بتبييض القرون شباب
ليالى عند البيض فوداى فتنة وفخروذاك الفخر عندى عاب
وهو مطلع القصيدة التى حوت البيت الذائع الصيت:
خير مكان فى الدنى سرج سابح وخير جليس فى الزمان كتاب
تمنى المتنبىء فى بيته آنف الذكر والذى تلاه لو أن البياض كان خضابا مثل السواد ليغيب به الشباب فيبدو المتخضب به كالشيخ فتزهد الحسان فيه وينصرفن عنه .
وزعم أنه كان يتمنى المشيب فى الليالى التى كان فيها رأسه فتنة للنساء لحسن شعره وسواده حيث كن يفتخرن بوصله ولكن ذلك الفخر عيب عنده. ألم يقل آخر:
اذا شاب رأس المرىء أو قل ماله فليس له من ودهن نصيب
ذاك من غرور الرجال واعجابهم بأنفسهم.
كذلك كان حال أصحابنا حيث أسرفوا فى التمنى ورسموا فى الخيال لوحات لنساء لم تلدهن حواء. ومن طريف ما كان أن أحدهم أنصت فى جلال يستمع لأولاد حاج الماحى فى مديح مجد أمير المؤمنين على رضى الله عنه يقول:
أسد الله البضرع ينهر فى المجمع
كم عوقا فاسرع من شوفتو اتفرزع
وفى (كسرة) جميلة منغمة تمضى القصيدة فتذكر الحور العين فى الجنة التى عرضها السماوات والأرض:
نجلس معاهن فى جنة النضير
ننظر الهن سبحانه القدير
هتف صاحبنا كالذى يحدث نفسه:
” نجلس معاهن… ايوة دا الكلام…” واذا بالرجل الذى ظنوه هائما فى المعالى القدسية , مستغرق فى أحاديث الزواج ومتعة الليم الحسى حتى النخاع. ولله فى خلقه شؤون.وقد شاقتنى (جبرة) امرأة عربية معتدة بنفسها وببنات جنسها فأنشأت تقول وهى فى عصمة أمير كالحجاج بن يوسف الثقفى وقد كرهت عشرته واستحقرت صحبته ورأت أنها أعلى منه شأوا وأرسخ منه فى الفخار قدما:
وما هند الا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فان نتجت مهرا كريما فبالحرى وان يك اقراف فما أنجب الفحل
( وما حدش أحسن من حد) كما يقول الأشقاء فى شمال الوادى. والاقراف يكون من الأب فى عالم الخيول أى ان كانت المهرة مثل هند عربية أصيلة والزوج غير ذلك من فصيلة أخرى غير العربية يكون المولود (اقراف) وان كان الأمر معكوسا يكون الناتج (هجينا)! وقد وصفت هند زوجها الحجاج بأنه بغل لكنها أسرفت فى الظلم اذ جعلت صلاح ونجابة ومحتد المولود ان حدثت فحرى بذلك أن يكون بسببها وان جاء شقيا (عوقا) فلأن أباه البغل أى الحجاج!فسمع الحجاج ما قالت فأرسل رسولا يبلغها بطلاقها ودفع اليها مائة ألف دينار مؤخر صداقها فأهدتها لرسوله فرحا بطلاقها. (والجبرة فيك بتخيل) يا هند!
وفى أبيات حاج الماحى آنفات الذكر كلمة عوق: كم عوقا فسرع من شوفتو اتفرزع.
والعوق فى الفصيح الرجل الذى لا نفع فيه وهومما اختصت به العامية السودانية . وتحرير معنى بيت حاج الماحى أن الامام على طالما أخاف رجالا خفاف العقول سرعان ما هربوا وتشتت شملهم بمجرد رؤيته رضى الله عنه.
باب المدينة
البيعجب نبينا
أبو الحسين
فارس حنينا
الكيفرينا دقق طحينا
وكم عوقا فسرع من شوفتو اتفرزع
عابر خليج! – 6
0