قلنا فى البدء ان( أرصد) كان دنقلاويا يتدفق نبلا. والحق أن فى الدناقلة دماثة خلق ولين عريكة وهم يألفون ويؤلفون.
ودنقلا أو (ضنقلا) بلدة رغم أن اسمها مشتق من قبيلة الدناقلة النوبية أو ربما نسبوا هم اليها الا أنها شأن المدن الأخرى تضم أجناسا من كافة قبائل السودان. بها شايقية وعبابدة وجعافرة وأشراف ومغاربة. وقد ذكر أمين الريحانى فى سفره الضخم “ملوك العرب” أن أم الأمام على الادريسى آخرملوك اليمن الادريسى الذى كان يضم عسير وجيزان والذى التقاه عشرينيات القرن المنصرم , من عائلة محمود الطويل فى دنقلا. ودنقلا الحديثة ليست هى دنقلا التاريخية التى كانت عاصمة لمملكة المغرة المسيحية بل كانت تلك فى الغدار وهى التى تعرف بدنقلا العجوز. ولأن الولاية الشمالية بحدودها الحالية كانت تسمى مديرية دنقلا خلال العقدين الأولين من حكم التركية السابقة فقد ظلت المنطقة كلها ولعقود قريبة خلت تحمل اسم دنقلا ولم يكن غريبا على أيامنا أن ينسب أهل العواصم الكبيرة فى أنحاء السودان المختلفة كل من جاء من المنطقة الواقعة وراء مروى الحديثة بأنه من ” ناس دنقلا” بقطع النظر عن القبيلة التى ينتم اليها. وقد علمت مؤخرا أن سكان قرية “الدناقلة” القريبة من حنتوب فى ولاية الجزيرة ومنهم أعلام معروفون فى دروب الحياة والتخصصات المختلفة جاءوا أصلا من منطقة الغدار وهم بديرية دهمشية تشدهم أواصر دم الى المرحوم الفريق الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية. وفى مناطق من النيل الأبيض مثل الكوة والقطينة عشائر استوطنت قدمت فى الأصل من مناطق البديرية وتخوم مناطق الشايقية تنسب الأجيال اللاحقة من ذراريهم نفسها الى الدناقلة ربما بتأثير التسمية القديمة للمنطقة فقد قسم السودان اداريا على أيام حمدارية على خورشيد أغا الى أربع مديريات هى سنار , كردفان, بربر ودنقلا. ولذات السبب ذكر القس سبنسر ترمينغهام فى كتابه الخطير الذى لم يجد حظه من الدراسة والاهتمام ” مقاربة مسيحية للاسلام فى السودان” مدللا على شدة التداخل بين الشمال والجنوب قبل مجىء المستعمر- والذى كان سيفضى الى تجانس أكثر بين شطرى القطر- الى أن التجار “الدناقلة” حولوا أسواق (واو) و(ملكال) الى أسواق مثل أسواق الشمال تماما مشيرا فى ثنايا الكتاب الى تدابير اتخذت لاحقا أوقفت ذلك التأثير. والشاهد أن التجار المشار اليهم جاءوا من أماكن شتى فى الشمال ولم يكونوا من قبيلة الدناقلة وحدها.وليس هدف هذا الاستطراد التقليل من تأثير الدناقلة فى بلورة الثقافة القومية المشتركة بين أهل السودان بأى حال فقد أسهموا فىذلك بقدر واف لا ينكر وانما أردنا فقط الاشارة الى الأثر التاريخى فى ظاهرة اطلاق الجزء على الكل لا غير.
وقلنا فى البدء أيضا أن (أرصد) كان ذواقة محبا للأدب. وكان ان راق مزاجه تقمصته روح (انطونيو) صديق القيصر الذى تآمر مجلس الشيوخ على عهد الامبراطورية الرومانية فى روما على قتله بما فيهم صديقه( بروتس) المقصود بالعبارة التى قالها القيصر وهو يحتضر فذهبت فى الناس مثلا حتى زمان الناس هذا “حتى أنت يا بروتس!” فتحمرعيناه وتتحرك سبابته فى كل اتجاه وهويتلو عليهم مرافعة انطونيو فى الدفاع عن يوليوس قيصر فى مسرحية شكسبير ” يوليوس قيصر” التى كانت مقررة عليهم ضمن منهج الأدب الانجليزى. والمرافعة قطعة بديعة فى الأدب والسياسة معا. قال 🙁 درسناها على يد استاذ انجليزى فى ثانوية دنقلا خفيض الصوت شديد الحياء يدعى Mr. Key. كان الأشقياء من التلاميذ ينادونه من بعيد بمقابل كلمة مفتاح فى رطانة الدناقلة : ” يا مستر كشر!”) وكشر ( بضم الكاف وفتح الشين) أصبحت مصطلحا دالا على المفتاح مثل أجزاء الساقية لذلك تستخدم فى مناطق الشايقية والبديرية وربما حتى فى مناطق الجعليين . والكشر هو مفتاح باب الحراز يصنع من الخشب وهو آلة محكمة الصنع وعجبنا لوجوده فى :ابروف” على أيامنا يحكم اغلاق أبواب “الحراز” التى كانت منتشرة ربما فى غير “ابرووف” من أحياء أمدرمان القديمة. لا نرى ان كانوا يطلقون عليه الكلمة النوبية “كشر” ام لا!
جلس أرصد واصيفر وأستاذ اللغة العربية الضليع(ح ب ص) الذى نال اجازة الدكتوراة فى الأدب العربى لاحقا من احدى جامعات مصر وكان قبل ذلك تلميذا للبروفسور الرائع الراحل عبد الله الطيب نضر الله ثرى قبره فى احدى عشيات تلك المدينة الكبيرة على أكواب الشاى الممزوج بالحليب يتسامرون فى الشعر فقادهم الحديث الى سينية البحترى التى مطلعها:
صنت نفسى عما يدنس نفسى وترفعت عن جدا كل جبسى
وتماسكت حين زعزعنى الدهر التماسا منه لتعسى ونسكى
قيل ان البحترى قالها تمهيدا لوصفه ايوان كسرى وتسرية عن ضيق انتاب نفسه. والبحترى شاعر من الطبقة الأولى قيل فى حقه ” المتنبى وأبو تمام حكيمان والشاعر البحترى.” لقد كان ملازما للخليفة المتوكل حتى عند اغتياله بمؤامرة دبرها ابنه. ولما عابوا عليه تقصيره فى الدفاع عن صاحبه وولى نعمته أنشأ يقول:
لو كان سيفى ساعة الفتك فى يدى درى الفاتك العجلان كيف أصاول
حجة لم ترق لأستاذنا فى ثانوية مدنى الحكومية كما أوردنا فى رسائل الذكريات فعلق ساخرا ” ما تصدقوش يا أولاد دا أطلق ساقيه للريح!”
وعلى ذكر سينية البحترى أشار( اصيفر) عندئذ الى أن الشاعر أحمد شوقى قد جارى البحترى بسينية مطلعها:
اختلاف النهار والليل ينسى اذكرا لى الصبا وأيام أنسى
فأشار( ح ب ص) الى سينية الشابى التى يقول فى مطلعها:
أيها الشعب! ليتنى كنت حطابا فأهوى على الجذوع بنفسى
ليتنى كنت كالسيول اذا سالت تهد القبوررمسا برمس
الى أن يقول
فى صباح الحياة ضمخت أكوابى وأترعتها بخمرة نفسى
ثم قدمتها اليك فأهرقت رحيقى ودست يا شعب كأسى
والشاعر أبو القاسم الشابى شاعر رقيق الحاشية مسكون بالأحزان حتى عند التعبير عن فرحه ودعوته الناس الى اطراح التشاؤم والاقبال على الحياة . تأمل رنة الحزن المصاحبة لكلماته المترعة بالأمل:
فى فجاج الردى قد دفنت الألم ونثرت الدموع لرياح العدم
فالفجاج الضيقة والردى والدموع والرياح المسفة أليق بالمناحات منها بالأهازيج الفرائحية التى تستشرف الآمال وترجو مديد الفال. وللشابى سينيات أخرتتزاحم وتختلط فى خضمها الذاخر الأفراح والأتراح معا. انصت اليه ان شئت يقول:
ينقضى العيش بين شوق ويأس والمنى بين لوعة وتأس
الى أن يقول:
لم أجد فى الحياة لحنا بديعا يستبينى سوى سكينة نفسى
فسئمت الحياة الا غرارا تتلاشى به أناشيد يأسى
والعقل المتقد والعاطفة الشاعرة فى صيرورة دائمة دائبة بحثا عن المثال لا تكفان عن ذلك البحث الكليل فى الناس والأشياء لذلك يكون الفرح والحبور لديهما استثناء لا قاعدة . ألم يقل المتنبىء:
ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم
ويعجب الحصيف وبأسى لكثير من الزيف الذى يكتنف الحياة يتمثل بعضه فى أقوام لهم فى الصيت والوجاهة باع طويل لا يدرك ولكنهم كالخشب المسندة أجسام بلا أحلام فلا يبلغ ذلك الحصيف من مغزى تلك المعرفة من الدروس والعبر الا حافة الغثيان أو قاعها ربما! وقد ظن صاحب لى بادى ذى بدء أن كلمة “سذاجة” ومشتقاتها من صنع أولئك الذين قصرت هممهم عن بلوغ الكمال الانسانى والخيرية المطلقة حتى لقنته الحياة دروسا قاسية ردته الى بعض الاعتدال والواقعية بعيدا عن الافراط فى حسن الظن فى بنى آدم حيث ذكر ( بضم الذال وتسكين الراء وكسرها) أن فيهم هابيل وقابيل معا؟ أو لم يقل أبو الطيب ايضا:
ولما صار حب الناس خبا جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمى أنه بعض الأنام
واتصل حديث أصحابنا تلك الليلة حتى بلغوا أرض الهند والسند. تلى أرصد أبياتا فى غاندى ظنها للأستاذ عباس محمود العقاد وهى فى الحقيقة لأحمد شوقى تقول:
سلام النيل يا غاندى سلام من الهند الى السند
…………………………أتى الحاوى من الهند
وضحكوا كثيرا عند ذكر الحواة والهند وذكروا فيمن ذكروا حواة مشهورين على أيامهم مثل خضر وداعة الله والد الموسيقار المبدع عبد اللطيف خضر وقالوا انهم رأوا آلة الأوكورديون للمرة الأولى عنده عندما كان يجوب مدارس العاصمة ينشر الفرح و المرح والسرور فى قلوب التلاميذ مثلما يفعل ابنه الموسيقار الآن. ولما كان أرصد يظن أن القصيدة للعقاد ولما كان صاحباه يجهلان أنها لشوقى فقد انصرف الحديث الى شعر العقاد وكيف أنه أنزل الشعر من عليائه فى الأبراج العاجية الى الأزقة الضيقة والأسواق الصاخبة ليعبر عن وجدان الناس عوضا عن محاكاة الأولين شكلا ومضمونا. عند ذلك ذكر أرصد ديوان العقاد “عابر سبيل” واختار أبياتا من قصيدة فيه بعنوان شرطى المرور لم يبق فى ذاكرة الرواى منها الا قوله:
أنا راكب رجلى فلا عتب على ولا ضريبة
وعندى أن العقاد شاعر بلا جدال تدل على ذلك الكثير من قصائده منها تلك التى يؤديها الفنان عبد الكريم الكابلى: شذى زهر ولا زهر…..وفيها يقول:
رددت الخمر عن شفتى لعل جمالك الخمر
وأجمل من ذلك بيت الشاعر الغنائى الفحل محمد يوسف موسى فى رائعة سيد خليفة ” يا صوتها لما سرى” حيث يقول فى شحنة هائلة من التطريب:
سكرا ولا كأسا ترى! سكرا ولا كأسا ترى!
ولعل عددا من زملائنا وأصدقائنا الذين سبقناهم بعامين فى ثانوية مدنى منهم الشاعر سيد الخطيب والشاعر محمد طه القدال والأستاذ عبد المنعم الأمين عبد الرحيم قد وقفوا على جماليات من شعر العقاد لم نقف عليها نحن على يد أستاذنا الفذ بركات جمعة رحمه الله والذى علمنا منهم أنه كان يحفظ دواوين العقاد عن ظهر قلب.والعلامة عبد الله الطيب لا يروقه شعر العقاد وأحسب أنه على الجملة لم يكن متحمسا للعقاد نفسه كمفكر وأديب لسبب لا نعرفه رغم أن العقاد كان محبا للسودانيين وقد مكث شهرا فى الخرطوم واعترف أن مراجع كتابه “عبقرية عمر” والذى يعد أفضل مافى سلسلة العبقريات قد حصل عليها من مكتبة السيد على الميرغنى كما أن اعجابه بمعاوية نور واعترافه بفضله ودرايته معلوم لدى الكافة. تجد تفصيلا لزيارة العقاد للسودان ان شئت فى كتاب حسن نجيلة” ملامح من المجتمع السودانى” ويبدو أن هوى عبد الله الطيب كان مع الدكتور طه حسين ولا ننسى انه قد قدم لسفر البروفسور الأهم ” المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها.” لكن عبد الله الطيب لا يشك فى شاعرية العقاد لكنه لايجد فيها سلاسة السجية ولا عذوبتها وللمفارقة ذلك ما يعاب على شعر البروفسور عبد الله نفسه بل يذهب البعض الى أنه مجرد نظم وفى ذلك الحكم قسوة لا تخفى. قال فى المرشد: ” وقد كان العقاد رحمه الله شاعرا ناثرا وفى شعره ونثره كليهما خشونة كما فيهما جد وصدق وأثر قراءة ونصب.” ولعله قال فى “من نافذة القطار” : والعقاد شاعر يقرض بالمنشار. وعرض به فى قوله:
والشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمن!
علق عبد الله الطيب مستكثرا على العقاد هذا التشبيه : ” استغفر الله العظيم!” وهذا استغفار تجريمى كالموسيقى التصويرية فى صناعة الأفلام. ولم يسترسل العلامة فى ذلك اذ لم يفت على رجل فى علمه أن الرحمن المعرف بالألف واللام هو فاطر السموات والأرض لكن ” رحمن” يجوز أن تطلق على غيره سبحانه مع ندرة ذلك ربما لمخافة الناس الوقوع فى براثن الشرك. وقد وصف ابنى قبل حين شخصا نعرفه بأنه ” طيبان” وكانت تلك المرة الاولى التى أسمع فيها الكلمة فلم أشأ احراجه فهو من( بدو العولمة) وعزمت على السؤال عنها وهالنى أن وجدتها تجرى على كل لسان بين الشباب! وحفظنا ونحن صبية حكمة مموسقة للعقاد تقول:
صغير يطلب الكبرا
وشيخ ود لو صغرا
ورب المال فى تعب
وفى تعب من افتقرا
فهل حاروا مع الأيام
أم هم حيروا القدرا؟
وأشار عبد الله الطيب الى سرقة العقاد لبيت من شعر الفرنجة : يقول العقاد:
أيذوى الصبا منا لأن منعما من الناس بسام الثغور غرير!
قال عبد الله الطيب على طريقة “اضبط!” ” الله أكبر” قال(شكسبير….)
Shall I Wasting In Despair
Die because a woman is fair
أو هكذا حوت الذاكرة
قلت ليت السرقات الأدبية كانت بهذه الدقة وهذا الجمال! جادلت صاحبى الأستاذ هاشم الامام محى الدين فى ثانوية مدنى وكنت انافح عن شاعرية العقاد مدللا على ذلك بالبيت التالى:
ترفق يا نسيم ولا تكدر نعاس النهر بالهمس الضعيف!
قلت أين الخشب الصلد- مشيرا لعبارة البروفسور عبد الله الطيب- من رجاء متوسل لنسيم هو بحكم التعريف وطبائع الأشياء غاية اللطف ومنتهاه , بألا يكدر مياه نهر صافية ساكنة تغالب النوم! قال هاشم “تلك فلتة واستثناء لا يقاس عليه!”
بعد ذلك تلى عليهم الدكتور (ح ب ص) أبياتأ ذوات قافية سينية من نظمه تتغنى بجمال الخرطوم قال انها كانت ضمن مسابقة لاختيار أفضل قصيدة عن العاصمة الخرطوم أعجبت عبد الله الطيب وان لم تفز بالجائزة , سقطت من ذاكرة الراوى. غير أن الدكتور ذكر أيامه الخوالى فى قاهرة المعز وذكر أستاذا له قال انه يعز السودانيين ودلل على ذلك ببيت من الشعر أثار جدلا استحوز على ما تبقى من تلك الليلة الأدبية يقول:
كالقوم فى السودان فيهم سمرة ويعد واحدهم بألف يهودى!
لم ترق المقارنة لأرصد وأصيفر وخلصا الى أنها تدل على نقيض ما رمى اليه مواطننا ابن النيل حيا بلاده العظيمة الحيا. وأدرك النعاس الطيور المهجرة والمهاجرة وهى غريبة بعيدة عن أوكارها فاستسلمت للنوم.
عابر خليج! – 5
0