تركنا فى المرة الفائتة أولئك الفتية سارية , اصيفر , المهندس أمين وعرضى الذى انضم اليهم مؤخرا يكابدون الصعاب من أجل الحفاظ على البيت البائس الذى اهتدوا اليه عبر المشقات والحيل فى ركن قصى من أركان تلك المدينة الخليجية الكبيرة. جاءهم مرة (عمك تنقو) زائرا وقد أخذ منه الاعياء والتعب كل مأخذ فالمسافة بين ذلك البيت والمواصلات العامة نحو كيلومترين على الأقل ولما كانوا شبابا غضا قد اعتادوا على قطع المسافات الطويلة فى أحياء الخرطوم مشيا على الأقدام لم يكن ذلك ضمن منغصات عيشهم فى ذلك البلد الا أن (عمك تنقو) كان كهلا فضلا عن كونه كان موظفا لا بأس بجملة أحواله قبل مغادرة السودان شق عليه المشوار والغوص فى أذقة تتلوى التواء الثعابين. قال ساخطا قبل أن يفتحوا له الباب ” لا حول ولا قوة الا بالله! بالله البيت دا لقيتو كيف؟” أى أى شيطان مريد قد دلكم على هذه “الوكرة”.
لم يبدل ذلك الشيخ المتربص الذى ذكرنا فى الحلقات الفائتات نظراته المتشككة فى هؤلاء الشباب الذين يخرجون باكرا فى كامل زينتهم الى حيث يعملون ثم يأتون بعد الظهيرة ثم يعاودون المداومة الى أعمالهم الى ما بعد العشاء الآخرة, لم يبدل شزر النظر اليهم الا حين لمس فيهم استقامة فكانوا اذا أتوا الى البيت لم يخرجوا منه متسكعين فى عرصات الحى لا يخرجون منه الا الى أعمالهم أو الى مسجد قريب فى الحى. حتى احتياجاتهم اليومية كانوا يأتون بها من خارج الحى فى طرق عودتهم الى المنزل. لم يكن تجهم الشيخ يعنيهم فى شىء كما لم يتجشموا مؤونة التفكير والمسألة عن سبب ضنه عليهم بالردعلى تحاياهم المغتضبة بل كانوا على عكس ذلك يشعرون بشىء من الالفة عند رؤيته فهو أو أحد أسلافه القريبين قد قدم لا محالة من مكان ما من القرن الافريقي. لأنه اذا أزال غطاء الرأس الخليجى عن رأسه ألفيته يشبه تماما فلانا فى السجانة أو فى الأملاك فى مدينة بحرى أو فى حى العشير فى ود مدنى فقد كان فى لون( الشوكلاتة) الداكنة بملامح حامية وشوارب كثة ولحية عانق فيها البياض السواد يكسو محياه وقار أبوى بائن.عجيب أمر التواصل الانسانى وأعجب منه الحواجز التى يصنعها الانسان بينه وبين أخيه الانسان. علموا بعد حين أن الشيخ الوقور هو شيخ الحارة وقد اختاروا دون سابق تدبير منهم أن يحترموا غيرته على المحارم فى حيه وأن يردوا على شكوكه بلسان الحال لا بلسان المقال على طريقة اخوة يوسف: ” تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الأرض. ” فهم ان فاتهم أدب الدين ذكروا خلق صاحبهم أبى الفوارس عنترة فى عفافه من مجرد النظر الى حليلة الجار! ورغم أن الشيخ قد أبقى على نظراته الصارمة الا أنه قد كف عن ملاحقة خالة سارية بالتبنى سائلا عن أوان مجىء عيال الأخير الذين كانوا حتى ذلك الوقت فى غيابات الغيب الذى لا يعلمه الا الله جل وعلا. كف الرجل عن الملاحقة ولما دخلت البلاد فى أحد الأعياد الدينية غاب الفتية عن دارهم أياما ولشدة هوان مقتنياتهم فيه تركوه مفتوحا بلا أقفال. ولما عادوا وجدوا الشيخ قد اشترى من حر ماله أقفالا أحكم بها مغاليق الباب. هرول مسرعا نحو سارية يسلمه المفاتيح معنفا فى أبوة حانية كيف جاز لهم أن يتركوا الدار مفتوحا بلا أقفال!
انصرف الفتية الى حياتهم فى المهجر. أرصد الذى ظل فى دار أبى” مركوب” فى الطرف الأقصى من المدينة كان يعمل فى ذات المكتب الذى يعمل فيه أصيفر والحق أنه قد سبقه اليه بنحو أكثر من عام بل هو الذى سعى الى توظيف اصيفر فيه فقد كانا صديقين منذ أيام الدراسة.
كان محيط العمل مستقرا وان لم يخل من منغصات سببها اختلاف الثقافات ولكن أجواء العمل على الجملة كانت نقية مواتية فعلى كثرة شكايات المغتربين من المعاملة الا أن الفتية موضوعنا لم يجدوا من أهل البلاد الا الاحترام وحسن الضيافة. ضاق بعض العامة فى ذلك البلد فى البدء من هذه الهجمة الشرسة من الهجرة وعبر بعضهم عنها بعفوية وحدة فى المركبات العامة الا أن رجلا مثل سارية لم يكن يسكت على الضيم : ” جئنا لأنكم فى حاجة الينا والى غيرنا” أو ربما قال لأحدهم ” سل سفيركم فى بلدنا لم منحنا التأشيرات” وتجى الاجابة على شائكلة: ” سفيرنا حمار لا يفهم شيئا!” أو لا تأتى غالب الأحيان.وسارية هذا رجل دمث الأخلاق شديد التهذيب حلو المعشر لكنه كان لأول العهد بالغربة ساخطا أشد السخط على المحيط الجديد وعلى الظروف التى ساقته اليه. وفى سارية دعابة وسرعة بديهة وسخرية قاتلة أحيانا. اتفق مرة أن تصادف موعد خروجه وأصيفر الى الدوام الثانى مع اذان المغرب وظل اصيفر يحثه على الاستعجال للخروج ليدركا الصلاة فى مسجد كان امامه كثير السهو. يقرأ الفاتحة سرا فى صلاة المغرب ثم يفيق من سهوه ليتلو سورة القارعة بقاف الجاحظ الذى نستخدمه فى عاميتنا فى تلفظنا بكلمة( قال). رد سارية على اصيفر بهدؤ : لا تقلق سندرك هذا الامام ولو فى سجود السهو!
خلت أجواء العمل كثيرا من التحاسد والتباغض الذى يجده موظفو الخدمة المدنية فى مواطنهم الأصلية حيث يرتبط التنافس والتباغض بل والحسد المفسد لأجواء العمل بمعايير الترقيات والعلاوات التى لا تخلو من مضحكات مبكيات ومفارقات عجيبات لا تخفيها التأكيدات بحيدة اللوائح والنظم المسكينة التى تخضع لتفسيرات أقوام قل أن تخلو نفوسهم من الشنآن الذى يضع أقواما ويرفع آخرين. فالأجانب هناك متعاقدون لا يوجد معترك يتقاتلون عليه ويتحاسدون الا الكد الكليل الذى يضمن بقاء بعضهم على رأس العمل أكثر من غيرهم. وقد تتصارع الجنسيات على الاستحواز على الوظائف فى المكان المعين فيكون التباغض جماعيا لا فرديا على العرقيات والألوان والجهات والجنسيات. كان أحد هؤلاء الفتية (مكونا) كما يقول الأشقاء فى مغرب الوطن العربى (تكوينا) بيروقراطيا صارما فى السودان فكان يسوؤه الطريقة التى كان يدير بها صاحب العمل الذى انخرط فى العمل معه أعماله. كان يسميها طريقة (أهالى). سم ذلك الرجل ان شئت (حتريش). وكان صاحبنا يأتى ضجرا متبرما من ذلك (الخمج) الذى يدير به (حتريش) أعماله. ولما أعيت الحيل اصيفر فى اقناعه بأن الرجل حر فى ادارة أعماله بالطريقة التى يعرفها والتى تروقه وقطعا أن أعماله تدر عليه الأرباح التى يهدف اليها, التمس الفكاهة فى التسرية عنه فكان كلما رآه متجهما أنشأ محاكيا ألحان:
الشغل بالى أنا بريدو! لعلها للجابرى :
البريد حتريش أنا بريدو!
فينفجر صاحبنا ضاحكا وقد سرى عنه حتى ترك حتريش فى نهاية المطاف وشأنه وأصبح مديرا لمؤسسته.
ولكن تظل الغربة استثنائا فى حياة الناس فالأصل أن يعيش المرء بين من هم على شاكلته من الناس يشاركونه التكوين المادى والنفسى , الشكل والمضامين يأنس بألوانهم وألسنتهم وطرائق معاشهم فلا ينكر منها شيئا. جاء فى الحديث الشريف : ” من بات آمنا فى سربه معافا فى بدنه يملك قوت يومه فقد حاز الدنيا.”ولا يتحقق استقرار المرء النفسى والاحساس بالأمان الا فى محيط القوم والأهل والعشيرة فى الوطن لذلك بدأ الحديث بذلك. ذلك أصل العيش الا أن يجور السلطان ويضيق وعاء الأوطان. ولما توعد عمر سيدا من سادات العرب بالاقتصاص منه لأعرابى من عامة الناس لطمه لأنه قد وطأ ثوبه فى الطواف من غير قصد , التحق ذلك السيد بملك الروم متنصرا مستنكفا مساواته برجل من عامة الناس.. لكن لم يرغ له رغد العيش فى الغربة بعيدا عن قومه فأنشأ أبياتا حسان حن فيها الى ربعه وندم على التحاقه بالفرنجة متمنيا لو أنه ظل – على حد قوله- ثاويا فى ” ربيعة أو مضر.”
جمع أرصد واصيفر الى جانب حب الأدب وحفظ الأشعار مهارة فى فن الطبخ . وفى أرصد بعض دماء من شمال الوادى فكان أكثر الماما وتذوقا لأطباق وفدت على السودان من هناك فكان اذا انقضى دوام الظهيرة اقترح على اصيفر أن ينصرفا معا الى احد البيتين القصيين ليعدا طبقا من المحشى أو الكفتة! يقال للمحشى فى الجزائر “الضلمة” بضم الضاد وهى كلمة تركية. واتفق أن جاء مالك الدار ليتحصل على الايجار فألحوا عليه أن يشاركهم الغداء ففعل وقال مقرظا طبخهم خالعا عليه من النعوت ما رآه معبرا عن اعجابه: ” والله طبخكم أفضل من طعام المطاعم فى الأسواق!” وما درى أن ذلك من قبيح النعوت عند السودانيين فجدا تنا كن يمسكن بتراقينا العارية من اللحم ليدمغن “أكل السوق” بسىء الصفات!
وشيئا فشيئا تراجع الحديث لدى الفتية عن ضرورة العودة الى السودان اذ بدأت أجساد النحفاء منهم تكتنز باللحم وبدت على محياهم جميعا آثآر النعمة والدعة والراحات. تلكم كانت ارهاصات ببداية صفحات جديدة فى مسيرة اغترابهم. ذلك سيكون موضوع أحاديث قادمات ان شاء الله.
عابر خليج! – 3
0