سِفر الدكتور حسن بشير حول بحوث عبد الله الطيب فى مجمع القاهرة

أعارنى الأخ الصديق السفير يوسف سعيد مشكوراً كتاب الدكتور حسن بشير صديق: ” عبد الله الطيب : قراءة لبحوثه بمجمع القاهرة”.ولم ينس أن يذكرنى بلغة الدبلوماسية أن أعيد إليه هذا السفر القيم حال الانتهاء من هضمه بعد الإطلاع عليه مستخدماً عبارة العرب الشهيرة ” أحمقان: معير كتاب ومعيده!” والكتاب بما حوى من مادة ثمينة دسمة يجعل إعادته ضرباً من ضروب الحماقة! لكنى أطمئّن الصديق العزيز بأننى سارتكب تلك الحماقة. والقيمة الكبرى للكتاب تكمن فى التوثيق المتقن لجل ما دُون للعلامة الضخم الراحل البروفسور عبد الله الطيب فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة .ويحمد للدكتور حسن بشير صديق تحمل كظاظة البحث والتقصى والغوص فى إضابير المجلدات لإستخراج درر عبد الله الطيب وحفظها إرثاً ثمينا لا يقدر بثمن للأجيال اللاحقة. وتزداد قيمة هذا العمل لأنه من الأعمال  التوثيقية النادرة فنحن فى السودان لا نحفل كثيراً بالتوثيق لعلمائنا ولا زالت بداوة الحكاية غالبة على تناولنا للموروث. ويزيد من قيمة هذا السفر أيضاً الصلة الحميمة التى ربطت بين الدكتور حسن بشير وبين البروفسور عبد الله الطيب , حيث تتيح مثل تلك الصلة فهماً أعمق لمراد الأستاذ عبر الأسئلة والحوارات و إستجلاء ما غمض من روائعه. فالدكتور حسن بشير من تلاميذ عبد الله الطيب وعبد الله الطيب هو الذى أشرف على رسالته للماجستير والتى تمخض عنها كتابه ” المعلقات السبع دراسة للأساليب والصور” وقد طبع ثلاثاً . والدكتور حسن بشير (من ناس بربر) وهو رجل رقيق الحاشية طيب المعشر يألف ويؤلف لكنه لا يضع الندى فى موضع السيف إذ تذكر له المحافل غضبة مضرية وهو ينافح عن زملائه المعلمين فى دارهم بالخرطوم متصدياً بالحجة البليغة لوزير التعليم فى بداية سبعينيات القرن الذى تصرم منذ حين. وهو عالم نحرير ضليع فى علوم العربية وفنونها.
ولأن الكتاب ضخم يحتوى على 768 صفحة من القطع الكبير يتعذر إستعراضه فى مقالة واحدة, فإنى سأكتفى ببعض إشارات عامة ريثما تواتينى الفرصة لإستعراض محتوياته بالقدر الذى يحقق الفائدة المرجوة من ذلك.
يشير الكتاب الى ان البروفسور عبد الله الطيب المجذوب قد اختير لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة ممثلاً للسودان فى سنة 1961 ” ضمن كوكبة العلماء العرب التى أطلق عليها المجمعيون, العقد الذهبى وضمت مع شيخنا موضوع البحث الأساتذة: أحمد عقبات- اليمن وإسحاق الحسينى- فلسطين وأنيس المقدسى- لبنان وعبد الله كنون- المغرب وعلى الفقيه- ليبيا وعمر فروخ-لبنان وفدوى طوقان- الأردن ومحمد البشير الابراهيمى- الجزائر ومحمد بهجت الأثرى العراق ومحمد فاضل بن عاشور- تونس.” ورحب الدكتور إبراهيم مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية يومذاك بعبد الله الطيب بهذه الكلمات:
” زملاؤنا الجدد بين أديب ولغوى وفقيه وقانونى وعالم مؤرخ وصحفى وسياسى.., فالدكتور عبد الله الطيب رمز الشباب بين الخالدين. تخرج فى كلية غردون وجامعة لندن ورأس شعبة اللغة العربية بجامعة الخرطوم ودرّس فى معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن وصار الآن عميداً لكلية الآداب بجامعة الخرطوم.”
وبحسب الكتاب فقد كانت أول جلسة حضرها البروفسور عبد الله الطيب هى دورة مؤتمر مجمع اللغة العربية رقم (28) المنعقدة فى 12 مارس 1962 وآخر جلسة حضرها كانت فى دورة المجمع رقم (66) المنعقدة فى 5 ابريل عام 2000 للميلاد. ويعلق الدكتور حسن بشير على تلك الفترة الطويلة من مشاركات عبد الله الطيب بالقول: ” وبين رقمى الابتداء والنهاية تسعة وثلاثون مؤتمراً عاماً لمجمع اللغة العربية وقد كان لشيخنا حضوره الكامل المميز خلال الامتداد الزمنى بين البداية والنهاية, كان باحثاً وكان محاضراً وكان مناقشاً وكان ساعياً بالعربية تأصيلاً وتطويراً ومواكبة للعصر”.
وقد قسم الدكتور حسن بشير البحوث وفق محاورها الموضوعية الى أربعة عشر محوراً  ويشتمل كل محور على عدد من البحوث. والمحاور هى: محور فن الأدب ومحور فن الشعر ومحور دراسة النصوص الأدبية ومحور دراسة السيرة الأدبية للأعلام ومحور النقد الأدبى القديم ومحور فى النقد الأدبى الحديث ومحور فى اللغة العربية وتاريخها ومحور فى الموازنات اللغوية ومحور فى فن التعريب ومحور أطلق عليه  بين اللغة والأدب محور فى التحقيق الصوتى والصرفى والنحوى وآخر فى موسيقى القوافى. ثم خصص فصلاً فى الختام سماه ” مذكرة الختام.”
وفى خضم هذا البحر الذاخر من المحاور تجد بحوثاً غاية فى الأمية والتشويق معأ فهناك فصل فى نقد افتتان الأدباء العرب بالشاعر الانجليزى تى. إليوت وما ذهب إليه عبد الله الطيب من تأثره ومحاكاته لكثير مما جاء فى شعر الجاهليين وكأنه يقول إن ما جاء به إليوت إنما هو بضاعتنا ردت إلينا. وفيها فصول كذلك عن صلة العامية بفصيح اللغة .
وقد استرعى انتباهى ما قاله عبد الله الطيب فى طبيعة الشعر العربى واختلافه عن شعر الفرنجة بل قال ان نثر الجاحظ والتوحيدى والصاحب وأضرابهم يعد شعراً عند الفرنجة:
” قلنا إن النثر العربى له مذاهب فى الإيقاع تشبه أشعار الافرنج. وزعمنا أن الجاحظ والتوحيدى والصاحب وأضرابهم عمدوا إلى أشكال فى الصياغة قربية من أشكال الشعر الأفرنجى. ونحسب أنهم لو وقعوا فى لغة إفرنجية لعدوا بصنيعهم هذا من شعرائها. على أنا نعلم أنهم لم يوصفوا فى اللغة العربية بنعت الشعراء ولو على سبيل المجاز ولم توصف أساليبهم بأنها من قريض الشعر ولو على سبيل التوسع. ذلك بان الذوق العربى لم يكن يرى إيقاع النثر داخلاً فى حيز الوزن والعروض مهما يبلغ من درجات الإتقان والرنين.”
كذلك استوقفنى مقاله فى كلف البشر والعرب بخاصة بالتعبير عن عاطفة الشوق والحنين والتى وصفها بانها من أعمق المعانى الإنسانية:
” الشوق والحنين من أعمق المعانى الإنسانية وأشدها لصوقاً وعلوقاً بالنفس: وحياة البداوة مما يزيدهما ويقويهما لأنها تقوم على الفصيلة والأسرة والدار والوطن, وحياة الصحراء أشد إيغالاص فى هذا المعنى من سائر أصناف الحياة البدوية لشسوعها وانجرادها وجدبها وقوة إتصال الذاكرة والوجد بمواضع الاستقرار فيها. ولا يزال أخو الصحراء أبداً يلتفت بقلبه الى مكان إقامة تركه وراءه ويتطلع الى آخر ينتظره من أمامه. وما الدنيا إلا معالم بين هذين الطرفين.”
وفى بحوث البروفسور عبد الله الطيب فى مجمع القاهرة التى أحصاها الدكتور حسن بشير فصل بعنوان :” خواطر عن أسماء بعض الأماكن فى بلدنا” ذكر منها بلدة (الأضية) فى كردفان وقال أنها كلمة عربية الأصل إذ هى تصغير ل(أضاة) ومعناها البحيرة. وعن مدينة النهود قال ان كلمة (نهود) مرادفة فى العربية لكلمة (نهوض) أى ينهد أو ينهض منها بعد النجعة والسفر. واستشهد على صحتها ببيت أبى تمام:
لم يغز قوماً ولم ينهد الى بلد  إلا تقدمه جيش من الرعب
وعن (الحصاحيصا) قال هى إما  تصغير لكلمة حصحاصة وهى الحصاة وإما من تمحص وتحقق فى الأمر . ونقول فى العامية “فلان حصحاص وحصيحيص بالتصغير.”
ولعلنا نعود الى ذلك كله بشىء من التفصيل والإبانة بمشيئة الله تعالى.

تعليقات الفيسبوك