سفر الجراد !

سكنت الريح تماماً وبدت كثبان الرمل الحمراء المحيطة بالقرية إحاطة السوار بالمعصم وتلك التى تسللت إلى أزقتها الضيقة وكذلك الدور والحقول وبساتين النخيل والفاكهة الممتدة على شاطئ النيل, بدت جميعاً كلوحة عظيمة ساكنة علقت على جدار صلد لا تكاد تسمع لها ركزا. أما الشمس فقد استبدت كعادتها هذا الأوان من الزمان فأرسلت حممها الحارقة إلى هذه البقعة الوادعة من الأرض فأحالت المكان إلى لظى حقيقية أو بلغة الأهلين إلى “هجيرى تقلى الحباية!”. أما السراب فقد بلغت به السعادة حداً جعله يضاهى النيل سعة ولوناً كاللجين تراه إذا أجلت النظرإلى الخلاء بعيداً عن النيل فى إتجاه العتمور. فى هذه الساعة من النهار يترك الناس كثير الحراك ويخلون الساحة للشيطان فهذا فى مبلغ علمهم أوان مقيله “مقيل الشيطان” . وإذا حزب أحدهم أمراً اضطره أن يمتطئ صهوة حماره فى هذه الهاجرة المهلكة قالوا له مستنكرين:
” ماشى وين فى الهجيرى دى .. قول باسم الله!”
والناس إذا وافتهم هذه الساعة وهم عند حقولهم الخضراء عند البساتين قرب النيل تفيأوا ظلال النخيل يلعبون (الطاب) ويحتسون أقداح الشاى الحلو المغموس فى النعناع الأخضر.أما إن وافتهم فى دورهم فيلزموها حتى تنجلى غائظة الحر وترحل الشمس عن كبد السماء فى إتجاه الغروب.
لكن النسوة فى (فريق الدوم) تحلقن ذلك النهار حول (السرف) ضاربة الودع (الوداعية) التى حلت ضيفة على الفريق منذ البارحة. وقد وسع ظل الدومة العظيمة الشامخة فى وسط حوش عبد العزيز نسوة الفريق جميعاً. وطافت فناجين القهوة المحلاة بالسكروالمعطرة بمسحوق الزنجبيل على الحضور مثنى وثلاث ورباع. أما حديثات السن من النساء وبعضهن عرائس فقد حضرن خصيصاً فى معية أمهاتهن يستكشفن الغيب عن صنيع أزواج بنوا بهن ونالوا العسيلة منهن ثم غابوا مجدداً فى المهاجر فى أطراف السودان المترامية يلتمسون الرزق أو طاروا إلى بلاد النفط. أما الشيخات والمكتهلات فقد جئن يلتمسن عند سحر الودع معرفة حال الأبناء ومتى سيرسلون المصاريف. وفى وسط أولئك جلست النعمة (أم الرشيد) وتلك كنيتها , واجمة وشاردة فهى ربما الوحيدة فى النسوة التى لم تكن تنتظر من رشيدها الغائب درهماً ولا ديناراً بل كانت تنتظر بشرى أو بعض بشرى ترد غربة وحيدها (الرشيد) الذى غاب أربعاً من السنين كاملة أو (حُدُس… مُدُس..) كما يحلو لها أن تقول.
ومثل الرشيد يفتقد. فقد افتقده الناس جميعاً منذ أن قذفت به الهجرة إلى ما وراء الحدود. كان (زيناً) كما يقولون لين العريكة سباقاً إلى المكرمات من قبيل أولئك الذين يشمرون عن سواعد الجد عند الملمات فتراهم فى الهاجرة الحارقة يحفرون القبور لمواراة الموتى وفى خضم الأعراس وغمار الترانيم تجدهم يجلبون الماء (يكفون) الأضياف دونما طلب من أحد. وإذا أغار النيل على القرية ليلاً والناس نيام , موسم فيضانه, برز له الرشيد وصحبه وألفيت الرشيد علماً بينهم يأمر مزمجراً كالأسد ( يا شقى الله يقلعك.. قوام….).
أما الحقول فقد عرفت بأسه يضرب أديمها بقوة الفأس حتى إذا اطمأنت نفسه لما أنجز, استراح واقفاً على إحدى ساقيه معتمداً على الفأس صادحاً بغناء شجئ يودعه اشواقه التواقة إلى بنت الحلال وبيت الحلال ومديد الفأل:

يا صبى العين تعال قولى
بلادك وين تعال قولى
نسافر وين تعال قولى

وقاوم الرشيد فى بداية الأمر رغبة جامحة للسفر إلى بنادر السودان يلتمس فيها رزقاً أوفر وحياة أيسر لكن عشقه للبلد إلى حد الجنون كان أكبر من كل رغبة, فقد امتزج فى أغواره البعيدة حتى أصبح جزءا منها. منظر النيل نهاراً والشمس فى كبد السماء كسبائك الفضة يتلوى ثم يستقيم تدفقاً واختياراً وفى الليل يراه مغموساً فى ضؤ القمر كالذهب المسال تحف به فى حفاوة وإلفة الجروف وبساتين الفاكهة وحقول القمح والبرسيم وكثبان الرمل الحمراء. لقد أصبح الرشيد جزءاً من تلك اللوحة الرائعة حتى ليكاد الناس يعتبرونه من ثوابت الطبيعة والموجودات فيها ولا يتصورون القرية دون وجوده فيها وهو من جانبه ظن أنه لو خرج منها يكون خروجه من عالم الحياة والأحياء.وفوق ذلك عز عليه أن يهجر أمه نعمة بت الشيخ وأباه التوم ود جبارة الله. لذلك كله صرف الرشيد خاطرة السفر من ذهنه رغم أن أترابه من الشباب (الترابلة) بدأوا يتسللون من القرية لواذاً بحثاً عن وفير المال فى البنادر وخارج الحدود وبدأ بعضهم يعودون فى الإجازات محملين بالحقائب وأجهزة الراديو وآلات التسجيل ويرفلون فى الجلابيب البيضاء الزاهية والعمائم المطرزة الأطراف وشرعوا فى بناء الدوروغرس النخل والفاكهة فى حقولهم.
لكن صمود الرشيد أمام إغراءات الهجرة اهتز يوم أن فاتح ابوه التوم ودجبارة الله أمه ذات ليلة بأن ابن خالته عمدة القرية قد ألمح إليه برغبته فى أن يتزوج الرشيد بنته (زينة) وساق أسباباً بين يدى تلك الرغبة منها إعجابه بمرؤة الرشيد ودماثة خلقه وحبه للناس فوافقت النعمة على تلك الزيجة على الفور لما رأت فيها من التشريف والوجاهة لأسرتها الصغيرة وللرشيد. وصادف ذلك هوى عند الرشيد ف (زينة) اسم على مسمى خَلقاً فهى (بيضاء مثل الرئم زينها عقد!) وخُلقاء تضرب بها القرية المثل فى الحياء والعفاف وكمال الأخلاق. لكن خبثاء المدينة والعيابين رأوا في هذه الزيجة دليلاً آخر على جشع العمدة وشراهته فى الإستحواذ على الأطيان فى القرية سيما و للرشيد أطيان ونخل وفير ثم إنه وحيد أبويه. لكن أم زينة لم تكن راغبة فى إقتران ابنتها بمزارع فى القرية فغالت فى طلبات تعجيزية دفعت بالرشيد إلى الهجرة إلى الخارج بحثاً عن عمل يؤهله للزيجة الرفيعة.
وعاد الرشيد بعد عامه الأول من المهجر محملاً بالهدايا مدخلاً الفرح إلى نفوس كثيرة فى القرية وأصلح من شأن دارهم الفسيحة التى تتوسطها النخلة الضخمة المركبة كقطعة من غابة بها ستة نخلات متهيأ للزواج فى العام التالى. ثم عاد إلى مهجره إلى حيث يعمل. ولم يمض طويل وقت حتى تهامس الناس بان أم زينة تهئ الأجواء لفسخ خطبة الرشيد من زينة رغبة فى تزويجها من ابن أختها الموظف الكبير فى دواوين الحكومة فى أحد بنادر السودان فقد لاحظوا أنها تفتعل ملاسنات لا تليق كلما جمعتها المناسبات بأم الرشيد فى مكان. وسرعان ما أصبح الهمس كلاماً والشائعة حقيقة فقدجاء العمدة ذات صباح ليبلغ ابن خالته والد التوم أن ابنه الرشيد قد تأخر كثيراً وأنهم قد قرروا تزويج زينة من ابن خالتها. وزفت زينة إلى عريسها الجديد ذات ليلة كسيفة دامعة العين فقدهيات نفسها بان تزف إلى ابن البلد الأصيل , الرشيد, فتى أحلامها ومنية أيامها.
وسارت بالخبر الحزين الركبان وسرعان ما بلغ الخبرمسامع الرشيد فى غربته التى كانت غايتها الظفر بزينة حليلة له وأم عيال. فغامت الدنيا فى عينيه وبكى بكاء الأطفال ناعياً إلى نفسه القرية التى أحبها وترعرع فى عرصاتها وبين أكنافها وسكب فى عروقها من دمه وعرقه ومشاعره الكثير. بكى أمه وأباه واستحال حبه إلى القرية وأهلها , ذلك الحب الذى كان يعطى للغربة والكد والعرق مذاق الشهد, إلى أسى حارق وخيبة قاتلة ونقمة ضروس فكأنما القرية كلها قد تنكرت لحبه وجمائله عليها فغيبت فى خاصرته خنجرا مسموماً, والغضب الجارف يذهب العقل ويقتل الحكمة. وأدار الفتى ظهره للبلد كلها ولكل رمز أو حس يذكره بها وتحت جنح الليل البهيم غادر مهجره إلى مهاجر بعيدة لم يطأ أديمها أحد من قبيل السودان أو هكذا ظن الرشيد. وانقطع خبره وتصرمت بذلك الإنقطاع الأسباب التى تشد أبويه إلى الحياة.
ساءت حال التوم ود جبارة وهده المرض فكثر سعاله خاصة إذا جن الليل وعاف اللحم عظامه ومع ذلك كان والحمى تشتعل فى جسده الناحل يسرى عن زوجه النعمة التى كانت كثيرة البكاء على ولدها قائلا:
” يا ولية أصبرى ما خاب من صبر والساوها الله بتبقى …”
كان ذلك يعزيها أحياناً فتستغفر وتمسح دموعها:
” ونعمة بالله…”
لكنها كانت أحياناً إذا تأملت كلمات زوجها الشيخ وقارنت بين مقاله وحاله البئيس وكيف أن المسكين فى مرضه هذا أكثر حاجة منها إلى عون الرشيد وعطفه , ضاعف ذلك من أحزانها وتفجرت فى نفسها دفقة واحدة كل ينابيع اليأس والقنوط والأسى فعلا نحيبها ببكاء حار تنفطر له الأكباد فإنها حينئذ لا تبكى الرشيد لكنها تبكى أباه الشيخ المشرف على الموت. وكان التوم يبكى لبكائها فى نفسه بلا دموع ثم يجمع ما تبقى فى روحه من جلد حتى ينتصب قاعداً على حافة السرير متوسلاً:
” يا بت الناس وحدى الله… البكى دار يجيب شنو…”
وسرعان ما تسرى الحمى فى جسده العليل وتستبد به ذات الرئة اللعينة فيستسلم لها متهالكاً على السرير راقداً بلا حراك إلا حركة صدره فى مقاومته الضعيفة للداء الخبيث القاتل.
جلست النعمة وسط النسوة مهومة بعيداً عما يحيط بها باحثة فى العوالم الفسيحة عن المكان الذى عسى أن يكون الرشيد قد انتهى إليه لكن تسفارها فى الخيال لم يطل فقد صاحت (السرف) الوداعية بصوتها الغليظ الأجش: “أصدق يا ودع” إيذاناً ببدء مسعاها فى إستنطاق الودع الرجم بالغيب. فانصرف إنتباه النعمة إلى الرمل المسوى بعناية أمام السرف. وببراعة وثقة أرسلت المرأة حبات الودع فى الهواء فشخصت الأبصار وهى ترقب هبوطه على صفحة الرمل المعد لذلك هاتكاً حجب الغيب فى ظن أولئك النسوة. وتساقط الودع متقارباً إلا من حبة واحدة نأت بعيداً دققت فيها السرف النظر ثم نظرت بمؤخرة عينيها إلى النعمة أم الرشيد لتقول بكلمات محسوبة وصوت مسموع:
” يا ربى الوحيد الجاي دا منو..؟”
عند ذلك إنتصبت النعمة أم الرشيد واقفة وهى تصيح :
” يا هو الرشيد.. الرشيد جايى يا ناس..”
ودست فى يد الوداعية نقوداً ثم انصرفت و دخلت على زوجها الممدد تحت ظل النخلة العظيمة فى وسط الحوش وهى تصيح:
” الرشيد جايى… الرشيد جايى…”
بحلق الرجل بعينيه الغائرتين رافعاً راسه وفرائصه ترتعد :
” القال منو يا مرة… القال منو..؟”
أجابت: ” السرف الوداعية شافتو فى الودع….”
تهالك الرجل فى يأس معاوداً رقاده:
” يا ولية..أنتى عقلك راح.. ودع شنو. الرشيد سافر سفر الجراد والجراد ما عد يجى…”
وقبل المغيب بقليل ارتفع البكاء الحار والعويل الذى يدمى القلوب من ساحة حوش التوم ودجبارة الله أبو الرشيد فقد فارق الشيخ الحياة عصر يومه ذاك. وبكى الصغار.. وبكى الكبار… النسوة والرجال.. بكوا أسرة بكاملها كانت تمد القرية كلها بأسباب ومعانى الحياة. بكوا التوم صمد الساقية الحازم .. المنصف الذى لا يحابى فى الحق أحداً وبكوا الرشيد زينة شبابهم الذى ابى أن يعود. كانوا جميعاً يبكون من قلوبهم إلا النعمة أم الرشيد التى ظلت تخاطب الجسد المسجى:
” لا…. لا… قلت لك لا تموت ..الرشيد جايى….”
ثم أنشأت تضحك بهستيريا عجيبة وتمزق ثيابها .. ثم خرجت تصيح وهى عارية تماماً
” الرشيد جايى يا ناس… الرشيد جايى..”
وطفرت من عين العمدة دمعة حرى أسالتها حسراته وتبكيت ضميره وهو ينظر إلى هذا المشهد الحزين:
” لا حول ولا قوة إلا بالله…. لا حول ولا قوة…. النعمة جنت يا جماعة…. النعمة جنت.!!”

تعليقات الفيسبوك