خاطرة في موقع المولد النبوي من الحضارة الإنسانية !!

قبيل من الناس اختاروا العيش في أرض فسيحة يحدها البحر الأحمر غرباً وخليج اشتجروا علي اسمه هل هو عربي أم فارسي. والعالم يصر علي الأخيرة في وصفه لغة باللسان أو رسماً علي الخرائط، شرقاً. والأصل في أسماء الجمادات أنها اعتباطية لا تعبر عن حقائق. وكان أحد الملالي ، لعله اسمه الطبطبائي قد اقترح منذ عقود خلت، فك الاشتباك بتسميته الخليج الإسلامي. ويحدها من الجنوب القصي بحر آخر هو بحر العرب وهو بعض المحيط الهندي وتمتد الرقعة من هناك شمالاً حتي أقاصي الشام في سورية . وهذه الرقعة الواسعة من اليابسة التي يحيط بها الماء من ثلاث جهات تعد عند الجغرافيين شبه جزيرة، تسمت باسم سكانها أو تسموا هم بها لا فرق، فهي شبه جزيرة العرب.
أرض جرداء منذ أن جاء إليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من مكان في الشام في معية زوجه التي أهديت له في بقعة في وادي النيل رجحوا أن تكون في بلاد كوش السمراء ، إنها السيدة هاجر أم إسماعيل. قلنا جرداء وذلك معني ما وصفها القرآن به، “ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم “(سورة إبراهيم الآية ٣٧). في جنوبها جبال عاليات شاهقات مخضرة يتحدر منها الماء وتزدهر فيها الحياة .قامت في ربوعها حضارات عظيمة وكذلك في شمالها. لذلك انقض عليها الأقوياء، وكذلك يفعلون، ففي الجنوب جاءت الحبشة وجاءت بيزنطة بالنصرانية وجاءت فارس بدياناتها المتعددة. وفي شمالها جاء الروم وفي بلاد الرافدين تغلغلت فارس أيضاً . وقامت هناك ممالك صغيرة تتبع لهؤلاء وأولئك : غساسنة ومناذرة ، ممالك بالاسم ليست سوي شرطيات وأعين لأغراب علي الأهلين ! أما جل تلك الأرض الواسعة الفسيحة الممتدة بين الشرق و الغرب، خارج التخوم الجنوبية والشمالية، فقد ظل الجوع والفقر المدقع يتخطف أهلها وتتوالي عليهم غارات جياع مثلهم فكانت تحيتهم فيها لبعضهم بعضا مفعمة في طياتها بالدعاء وبالرجاء وحسن الفأل، “أن أنعم صباحاً ” أو “أنعم مساء “حيث كانت الغارات تكون في هذه الأوقات. دعاء مخيف كأنه يغلف الخوف والإشفاق بالرجاء تعني : وقاك الله شر الهلاك في تلكم الأوقات، ذلك علي ما في الصباحات الندية من صبا نجد الرطب الفواح بعبير الأحبة والمعشوقين والمعشوقات . كفعلهم علي الدوام يرصعون المخاوف المستكّنة في بطون الكلمات بالرجاءات وملامس الحرير عل وعسي ! فيسمون الصحراء بالمفازة وهي مظنة الهلكة والفناء يدرأون وقع الاسم الغليظ المخيف بنقيضه من حسان النعوت ! تري أمن ذاك ولدت فصاحتهم ؟!نقول لعل وعسي لأن الأماني قد تعين علي التشبث بالحياة لكنها لا تغير حقائق الوجود. فهبوب الصبا عند السحر لا تدفع عنهم غوائل غارات الغزاة والنهابين الذين ينقضون عليهم كجوارح الطير وكالوحوش الكاسرة فيشتتون الشمل الذي كان مجتمعاً ويسبون الحرائر من النساء ويعملون في الرجال ذبحاً وتقتيلاً ويتخذوا من الصبيان عبيداً كالماشية والأنعام:
قال أبو الطيب يصف شيئاً من ذلك:
فصبحهم وبسطهم حرير ومساهم وبسطهم تراب
ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خضاب
فربق أو قرية كانت آمنة مطمئنة البارحة أصبحت أثراً بعد عين، بقيت منها دمن من أثافي وبعرات تستدر الدمع من العين حزناً علي جناية كانت هناك ذهبت دون عقاب!
والجوع الكافر كان سمة دائمة كما الفقر المدقع. وصفه الحطيئة بدقة من عان مرارته وخبر شره:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف لها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الإنس وحشة يري البؤس فيه من شراسته نعما
وأفرد في شعب عجوزاً إزاءها ثلاثة أشباح تخالهم بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة وما عرفوا للخبز مذ خلقوا طعما
قصة هي قصة جل من حملتهم غبراء تلك الجزيرة أو شبيهة الجزيرة: رجل معدم يستأنس بوحشة الصحراء مع عجوز هي زوجه وأم ثلاثة صبية أو ربما صبيات وصبية يبدون في هزال الأشباح، حفاة عراة لم يطعموا عجيناً كان يطهي هكذا في قلب الجمر لا يحويه طاجن أو قدر (الحوار عندنا) ،ولعلهم لم يذوقوا منذ أن خلقهم الله خبزا من القمح.
وكانوا يستبضعون، بسبب الغارات والفجرات بحثاً عن صناديد أشاوس يحمون الديار والأعراض فإذا لم يكن في القبيلة أقوياء التمسوا فارسا مغوارا من بضع فارس من قبيلة أخري فيرسل الرجل منهم زوجته إليه لتضاجعه ،شيء كتحسين النسل، حتي إذا استيقن من حملها من ذاك الفارس عاود معاشرتها ونسب المولود إلي نفسه! وكانت لهم حانات برايات في ظاهر القري يُعاقرُ فيها الخمر ويمارس فيها الزني ومن الزني برزت أسماء اشتهرت منهم زياد بن أبيه. روي أصحاب السير أن زياداً تحدث حديثا بليغاً في حضرة عليّ وعمر وأبي سفيان. فأعجب حديثه علياً. فقال أبوسفيان لعليّ أيعجبك قوله؟ فأجاب عليّ بأن نعم . قال أبو سفيان هو ابن عمك! قال عليّ لم لا تنسبه إليك فأشار أبو سفيان إلي عمر (أمير المؤمنين يومئذ): أخشي أن يخرق علي هذا إهابي! أي بالجلد.
وللإنصاف لم يكن الاستبضاع هو النكاح الوحيد السائد بين العرب بل كان ضرباً من أنواع أخري عديدة من النكاحات ( الرهط، والمخادنة والمضامدة والبدل ) التي أبطلها الإسلام . وكان النكاح الشرعي الممارس حتي اليوم ممارساً في الجاهلية أيضاً ويسمي (نكاح البعولة) وهو أن يخطب الرجل إلي الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها وهو ما أقره الإسلام زواجاً شرعياً. ويبدو أن الشبيه بالزني كان مستهجنا عند الكبراء من القوم لذلك قالت هند بنت عتبة في بيعة النساء متسائلة في استنكار ” أو تزني الحرة!”. . ولعل الأمر كان كذلك في كثير من جاهليات الشعوب جميعاً وبلا استثناء وهو موجود اليوم بشكل مقزز لا طلبا للفوارس ولكن طلباً للذة الجنس فيما يعرف بحفلات تبادل الزوجات في الغرب ! وهو زواج البدل في تلك الجاهلية التي سبقت.
وكانوا من شدة فقرهم يقتتلون علي اتفه مقتني أربعين حولا بسبب ناقة كناقة البسوس التي كادت تفني بكرا وتغلبا . ولشدة ما كاد يفنيهم القتل التزموا تحريم ما حرم الله من القتال في الشهور الحرم الأربعة والتي يبدو أن تحريمها الذي أكده القران بعد مجئ الإسلام كان مما بقي من دين إبراهيم . “إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم”. (التوبة ٣٦). وإذا ضاق الحال بأحدهم قتل فيها ثم قال “سبق السيف العزل !”
كانت فيهم شراسة أشبه بشراسة مخلوقات الأدغال التي تحركها غرائز حب البقاء الخالية من العواطف والعقول . وإن كنت تتابع أفلام برامج الطبيعة والحيوان الوثائقية ، ستدرك ما أرمي إليه:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ذلك مع أن أم القري أو عاصمة العواصم التي شمخت بسبها أنف قريش ،مكة المكرمة ،استمدت ألقها بسبب الدين مصدر مكارم الأخلاق ومستودعها الذي جاء به إبراهيم عليه السلام. طال العهد بزمانه فتنكبوا الطريق واتخذوا أصناماً لصالحين من الخشب والحجارة والتمور لتقربهم لرب إبراهيم فأصبحت الحفاوة بالحرم والدين الذي ابتناه كحفاوة النصاري بأعياد ميلاد نبي الله عيسي عليه السلام في زماننا هذا، احتفالية ليس بينها وبين الدين والسماء من سبب إلا قليلا .وتوشك أعياد المسلمين اليوم أن تكون مثل ذلك أو لعلها علي التحقيق قد أصبحت كذلك. قال الله تعالي في ذلك ” وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية.” ( الأنفال ٣٥) صفير وتصفيق لعراة كما ولدتهم أمهاتهم. ّهذا الحال أبلغ ما يوصف به أنه جاهلية بالفعل وإن تميزت ببعض الفضائل هي نفسها بقايا فشائل سماوية جاءت بها أديان سلفت.
هكذا وصف جعفر بن أبي طالب ذلك الحال البئيس أدق الوصف لملك الحبشة (النجاشي) أصحمة بن أبجر:
أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف.” ثم :
ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
قالها جعفر في نثر جميل أخاذ ” فكنا علي ذلك حتي بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلي الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.”
لله دره من حصيف قد أحسن السفارة فبدأ بمقاصد الدين في ترسيخ مكارم الأخلاق والتي لا يأباها ويعافها إلا فاسد الطوية مجبول علي حب المنكرات ،وختمها بحق الله في التوحيد والإفراد بالعبادة التي تذكر العابد أن تلك المكارم من رب السماء وأن الاستمساك بها هو تحقيق معني الخلافة في الأرض وهو بالتالي الجالب لرضا الرب المحقق لجوائزه في الخلود في النعيم السرمدي ،كما قالت الراوية أم المؤمنين أم سلمة تحدثنا كيف ألحق ما قال عن مكارم الأخلاق بالشعائر والواجبات ” فعدد عليه أمور الإسلام”. والمقاصد البعيدة يرعاها من عمر قلبه بالإيمان فأخبت وأناب. قال النبي للرجل الذي قال إنه قد أصبح مؤمناً حقاً. ما حقيقة إيمانك؟ قال الرجل واسمه حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني أنظر إلي عرش ربي بارزاً وإلي أهل الجنة يتزاورون فيها وإلي أهل النار يعذبون فيها. فقال صلي الله عليه وسلم: عبد نور الله قلبه. ثم قال : يا حارثة عرفت فالزم! ألم يقل كذلك “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”؟ وهي التي فتحت مغاليق قلب الرجل العظيم ملك الحبشة الذي عرف بها قبل هذه الهجرة فذاع صيته في العالم القديم بأنه لا يظلم عنده أحد؟! نعم انفتح للحق قلبه بالغايات البعيدة ،التي جاءت علي لسان جعفر الطيار، في حفظ الحياة علي هذا الكوكب في خفارة المثل والأخلاق الكريمة .قال النجاشي :يا عمرو ،مخاطبا رسول قريش: انطلقا والله لا أسلمهم إليكم أبدا.
وفي مدي ثلاث وعشرين سنة يكتمل بناء الإطار الخاتم لمسار البشرية وتنقطع الرسالات السماوية عن الأرض فيقف الرسول الكريم في حجة الوداع مذكرا بما كان في العقدين ونيف التي مضت مبتدأ بما ابتدأ به رسوله إلي النجاشي، مكارم الأخلاق : ” أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا: أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلي أن تلقوا ربكم….” ثم حرم دماء الجاهلية والربا وغير ذلك من الخبائث.. ؤأنزل الله الآية مصداق ذلك فقد كملت رواية السماء للناس أجمعين حينها وإلي نهاية الحياة والأحياء علي الأرض ،”اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.”( المائدة ٣).
والتحق النبي بالرفيق الأعلى بعد أن بدل حال الجزيرة البائس فأصبح المسافر بين صنعاء وحضرموت آمناً لا يخشي إلا الله والذئب علي غنمه. وجاءت التحية معبرة عن ذلك الأمان تبدأ بالسلام .وأنطلقت أول صيحة تقع علي سمع الدنا ” كلكم لآدم وآدم من تراب” ولا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود ولا لأسود علي أبيض إلا بالتقوي. “كيف لا وذاك صريح التنزيل ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم.” فأصبح أرقاء الأمس، بلال وسلمان وصهيب يقدمون في الدخول علي النبي علي أبي سفيان بن حرب سيد قريش وعمومة النبي. بل أصبحوا ولاة وقادة للجيوش. وتعلم الناس للمرة الأولي أن الحكم يكون بشوري لا تفرق بين سادة وعبيد كتلك التي كانت في أثينا حتي قال رجل من عامة الناس مستنكرا عندما أكره معاوية الناس علي بيعة يزيد ” تريدونها هرقلية؟ كلما مات هرقل قام هرقل؟!”
وانتشرت الرسالة في الآفاق وبلغت مبلغ الليل والنهار ،مصداقاً لقول النبي ” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار”. وانصلح حال الدنيا وخلال عقود قليلة اجتاح الإسلام شبه جزير أخري هي آيبريا زهت فيها الحدائق وعلت القصور وسمقت الجامعات تعلم الرياضيات والفلسفة والعلوم والمعمار حتي أن رجلا حاول الطيران .فكان ذلك كله بذرة الحضارة والرقي الذي تعيش بعض حسناته البشرية اليوم.
ولكن هل انتهي الشر ؟ وهل دام الخير الذي ذاقه الناس في العقود الثلاثة التي تلت وفاة النبي؟ ألم يقتتل الناس علي الحكم وعلي الضياع والجاه ؟ نعم قد فعلوا …فعلوا الأفاعيل واستكثروا من النعم والجواري والضياع وعادت العصبيات البغيضة والتباهي المنتن بالعرقيات، ربيعة ومضر وقيسية ويمانية وموالي من كل الأعراق وسالت دماء عزيزة وأزهقت أرواح بريئة. حذرهم من ذلك كله يوم قال: ” فو الله ما الفقر أخشي عليكم ولكن أخشي عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت علي من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم”.
ألم تتبدل الموازين يوم قال شاعرهم :
و لا تحسبن المجد زقة وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن تري لك الهبوات السود والعسكر المجر
أعجب إن شئت كيف يكون المجد في حد السيف والفتك به ؟ ويولد لعلي الحسن سبط النبي فيسميه أبوه حرب فيقول جده الرسول لا بل هو الحسن وترزق فاطمة مرة تالية فيسرع علي ليسميه حرب فيقول المصطفي بل هو الحسين. ويقول سعيد بن المسيب بن حزن التابعي الجليل أن جده وفد علي النبي فقال يسأله ما اسمك ؟قال حزن والحزن بالفتح ما غلظ من الأرض فأراد النبي أن يغير اسمه إلي شيء جميل فقال لا بل أنت سهل . قال الرجل لا أغير اسما سمانيه أبي. قال سعيد وهو أعلم أهل الأرض يومئذ معلقاً علي ذلك “فما زالت الحزونة فينا إلي يومنا هذا!” أي صعوبة الطباع!
و لكن الأصوب ألا تعجب فلم يتعهد الله لهم ولا نبيه بديمومة الخير إلي أن تقوم الساعة لكنه بيّن لهم سبيل الحفاظ عليه. قال لهم إنهم في دار ابتلاء ” الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.” وزود النبي عليه السلام حذيفة بن اليمان بأسماء منافقين في مدينته الطاهرة المطهرة. منافقون ويتنزل الوحي وتتداعي المعجزات ؟! فكيف في غياب ذلك كله ؟
معني الحرية الإنسانية أن تختار ” وهديناه النجدين”، ” قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.” ” إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”. ذلك تفسير ما جري وما سيجري حتي قيام الساعة.
وهذا عندي معني المولد وعظمته. فالإطار العام قد وضع بمولده الميمون صلي الله عليه وسلم ،تتطور في داخله البشرية بحسن التجارب والاعتبار لا تلغي فيه العقول ولا يُستخف فيه بعبر التجربة الإنسانية من أين جاءت .ومن هنا تنفتح ساحات الحوارات جميعاً بحثاً عن أرشد الطريق للرقي وتحقيق العيش الكريم في الإطار الفضفاض الذي اختارته السماء لأهل الأرض. ليت الاحتفال بمولده يستصحب هذه المعاني جميعاً ويكون محطة لجرد الحساب واستدراك ما فات وإصلاح ما اعوج من الحال.
عهدنا الاحتفال به كما هو اليوم لم يتغير فيه شيء وكان الأجدر أن يتغير ويواكب ما استجد في حياة الناس. كنا نمسك بجلباب الوالد رحمه الله ونتجه إلي ميدان عبد المنعم، ذلك المحسن حياه الغمام ، كنا وكان الوالد يخشي علينا الضياع في الزحام ويتجه بنا صوب الصاري يعجبه رقص رجل يقال له ود البربر يتفنن في الرقص علي أنغام المديح الذي لم نكن نعرف له معني ثم نصيب شيئا من الحلوى وأحصنة وعرائس ونعود أدراجنا. جئنا مرة بعد أن كبرنا قليلا مع الأصحاب وغشينا سوق الزلعة الذي ذكره المجذوب في قصيدته الرائعة في المولد:
وهنا في الجانب الآخر سوق
هو سوق الزلعة
قصدناه نلتمس شيئا من حلوي تبيعها نساء طاعنات في السن بيض البشرة ،يسمون تلك الحلوى الشبيهة بحلوي (الكاسترد) بالبالوظة. وترتفع في المكان أدخنة برائحة الشواء لعل المكان كان يحوي مطاعماً تبيع الطعام .وربما عرجنا علي مسرح العرائس لعله كان لخضر الحاوي رحمه الله. عنّ لي قبل سنوات أن أزور احتفالات المولد في موقعه الجديد في ميدان (الليق ) كما كان يطلق عليه ، ميدان روابط فرق الدرجة الثالثة لكرة القدم ، والذي يقع شرق مدارس عبد المنعم ومدرسة النهضة لحاج كامل الأحمدي في مقابل قشلاق البوليس وشمال حي السجانة. اتجهت لبعض الخيام تقدم فيها دروس وخرجت مسرعاً إذ لم يستهويني فيها شيء ومرة أخري وفي سنة تالية مررت علي الاحتفال في ميدان الخليفة في أمدرمان. كانت تتداخل فيه أصوات الوعاظ بسبب مكبرات الصوت وقل أن تخرج بفائدة إلا أحياء الذكري البعيدة والاستمتاع ببعض مديح غني بالمعاني والرقائق لكن جل الخطب كانت تبدو وكأنها (مطاعنات) ودعايات وردود علي الخصوم . ليتنا طورنا هذه الاحتفالات لعروض تستهوي الشباب بوسائل التقانة الحديثة وليت ساحات الاحتفال عنيت بالأطفال بعروض من الكرتون وأفلام قصيرة عن سيرة المحتفي بميلاده عليه الصلاة والسلام ومسابقات تمنح فيها جوائز لهم .وكذلك لماذا لا تتسع هذه الساحات لحوارات للكبار عبر محاضرات وندوات جادة ولا بأس ببقاء الوعظ والمديح فمن المديح ما يدعوك إلي التأمل والاعتبار كرائعة محمد المهدي مجذوب التي أبدع عبد الكريم الكابلي في مجاراة ألوانها العديدة المتنوعة لحناً شجياً بما جسدها قطعة تنبض بالحياة ، ابتدرها المجذوب بالدعاء والاستغفار منتقلاً إلي الثناء علي الله مقراً بالإعجاز المفضي للإيمان العميق يقود خطاه عقل متأمل وعاطفة جياشة وذاك جماع اليقين عقل وعاطفة حية:
صلي يا رب علي المدثر
وتجاوز عن ذنوبي
وأعني يا إلهي بمتاب أكبر
فزماني مولع بالمنكر
درج الناس علي غير الهدي
وتعادوا شهوات وتمادوا
لا يبالون وقد عاشوا الردي
جنحوا للسلم أم ضاعوا سدي
أيكون الخير في الشر انطوي
والقوي خرجت من ذرة
هي حبلي بالعدم
يا سلام!
وصلي الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين.

تعليقات الفيسبوك