خاطرة فى الخير والجمال

قالت لي الشقراء تسألنى بلسان اصطكت فيه الحروف واستعصت على التبيان من فرط الفارق بين لغة بنى الأصفر وبين لغة الضاد التى تجهد النفس منذ حين لإتقانها , ولِما شاب نطقها من ثأثة خفيفة تستطاب إذا خرجت من ثغر يحمله وجه ملائكى جميل كوجهها وفى ذلك بعض إلتماس للبراءة كما تلتمس لدى الأطفال فلا تعجب لإحتفاء الغربيين بالقطط والكلاب فاغلب الناس عندهم كما كانوا عند المتنبئ قد نبذوا الحفاظ فمطلق ينسى الذى يولى وعاف يندم : قل لى بربك ما الفرق بين الطل والطلل و الطلاوة .قلت وأنا أسعى متنقلاً بين رياض المعاجم صغيرها وضخامها كأن كلينا قد اقتحم الدغل يرى فيه بعين الخيال, خضرة الجنة الشاخصة على الربوة العالية بأشجارها السامقة الغارقة فى البهاء الأخضر تترقرق على صفحة أوراقها بلورات الماء كأنها جمان من قوارير. قلت بعد التأمل: الطل أيتها الحسناء هو هذا الندى الذى ترينه فى مثل هذه الصباحات الندية, بشيراً بالِرى ودالة على الحياة والنماء والسؤدد. وهو بتلك الصفات مركب سريع ومطية ذلول إلى مديد الفال وعريض الآمال والرغآئب الحسان فيما تشتمل عليه الحياة وما تلذ به من شمائل الأحياء. وما ذاك يا عزيزتى إلا الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما فى سامراء أو فى البان جديد أو فى أى بقعة مخضرة تنعم بمصادر المياه تتمايل أغصانها ويتردد فى محيطها النغم الحنون تشدو بها العصافير والطيور زاهية الألوان والفراشات . وفى القديم قالت صبية مثلك أخذ بلبها مثل الذى أصف , فغردت:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نظرنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وكانت قد أسلمت للتو فقلت لها أما قرات قول الخالق العظيم يحث الناس على الصدقات والبذل بلا مَن ولا أذى للضعفاء وأصحاب الحاجات يشبه ذلك بتهاطل الغيث كثيره وما قل منه على حديقة غناء مرجوة العطاء:
” ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير.”( البقرة 265 ). وقالوا الطل هو ايضاً قليل المطر وتقدير المعنى أن من ينفق كثيراً يكون للجنة بمثابة المطر الوابل أى الكثير الذى ينتج عنه مضاعف الثمار وإن أنفق قليلاً من سعته بما يكفى ُقُبل ذلك منه وأثمر عطاؤه القليل أجراً وبركة زادت من حظوظه فى أخراه إن صوب رميه لما بعد الموت ووقف حياته كلها غراساً لتلك الغاية. فالطل قليل المطر أو هو الندى تراه على صفحة الأوراق الخضراء فتسر نفسك به يسرى عنها ما فعله بها جفاء الحبان وجحود الجاحدين ولؤم اللئام من الناس فيبعث فى نفسك الأمل والإقبال على الحياة وينفخ فى ذاتك رغبة فى خيرية تنفع الناس كل الناس الذين يشاركونك الإنسانية والحياة على هذا الكوكب الجميل.
والطلل ايتها الشقراء, من ذات المشكاة مشتق من عين الجذر اللغوى فهو بقية قليلة من عمران دام ثم اندثر. بقية ديار خربها الزمن أو خربها أشرار حصروا الفهم فى الحياة والوجود فى قاصر علمهم وضيق آفاقهم فأحاطوا بمعاول الهدم مدنيات كانت قد إزدانت بالعمران والبهاء والنماء ونبض الحياة فجاسوا خلال الديار هدماً وتقتيلاً فأصبحت اثراً بعد عين. الطلل قد يكون كوخاً تهدم أو حطام حضارات سادت ثم بادت. لذا فالطلل نذير الشؤم ومساكن البوم وخرائب تتخذها الغربان سكنا يشيع فى نفوس الأحياء معنى الكآبة والفناء. أما ترين كم أبكى العاشقين والحالمين وفجر فى النفوس الأسى والأشجان؟ وبعضهم من فرط ما أحزنهم وأشاع البكاء الصريح والمستتر فى دواخلهم, حيّوه لأنه فقط قد أحيا ذكرى حبيبة :
دمن ألم بها فقال سلام كم حل عقدة صبره الإلمام
ولقد اراك فهل أراك بغبطة والعيش أخضر والزمان غلام
أعوام وصل كان ينسى طولها ذكر النوى فكأنها أيام
لله در أبى تمام. وقال عنترة يحيى الطلل:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وأجاد الوصف قائل اليتيمة حين وصف حال الأطلال وقد تعاقب عليها الزمن خيره وشره وبما تهاطل عليها من صنوف الغيوث والمطر حتى غدت كالخرق القديمة لم يجد فى عرصاتها سوى البقر الوحشى وذكور النعام يكللها السواد, فأبكاه ذلك بالدمع السخين ينهمر كالمطر على الخدين:
هل للطلول لسائل رد أم هل لها بتكلم عهد
أبلى الجديد جديد معهدها فكأنه ريطة جرد
من طول ما تبكى الغيوم على عرصاتها ويقهقه الرعد
وتلث سارية وغادية ويكر نحس خلفه سعد
فوقفت اسألها وليس بها إلا المها ونقانق ربد
فتناثرت درر الشؤون على خدى كما يتناثر العقد
إيه .. يا للمشاعر إن فاضت عن حب وحنين!
والطلاوة يا سيدتى بالفتح تنتسب إلى الطل والطلل بنسب فالطَلا بالفتح من كل شئ هو القليل أو الصغير وطلا الظبى صغيره ويطلقون على الحمل فى الحجاز لفظ (الطلى) أى الكبش أو الخروف. والطلاوة بالفتح عذوبة فى القول تأخذ بمجامع القلوب. وقد وصف المغيرة بن شعبة القرآن بأن له لطلاوة وما هو بقول بشر. فقالت قريش تستنكر مقالته وتراه قد استكثر فى مدح الحق المبين كما يفعل من عرف الحق : ” صبأ والله الوليد فلتصبأن قريش كلها!” أى كفر بآلهتنا وآمن بمحمد (ص) .أثاروا بتلك العبارة شيطانه فانقلب على عقبيه فوصف القرآن بالسحر. “فعبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلى قول البشر” (المدثر الآيات 22-24).
تهلل وجه المليحة بالبشر وافتر ثغرها عن درر منظومة كأحسن ما يكون النظم فذكرتُ بذلك , سيما وأنا لم أزل فى خضم الأحاديث عن الجمال فى الطل والطلاوة , والشئ بالشئ يذكر , بيت المتنبى:
كم شهيد كما قتلت شهيد ببياض الطلى وورد الخدود
قالت –ولا تعجب فقد كانت تطرب لأشعار العرب إذا صاحبها الشرح – : ” ونحن وربما سائر البشر يأخذ بألبابنا كل ما دق وصغر من الأحياء , من الأناسى والحيوان فنقول (كيوت) تختلط فى مشاعرنا المحبة له والرحمة به ألا يمسه سؤ ولعل ذلك حماية له وهو فى ضعفه أودعه الخالق فى عواطفنا حتى نترفق به حتى يقوى عوده.”
غمرتنى سعادة عذبة بدخول هذه الفتاة حمى الدين من باب الرحمة والحب والإنسانية. ما اروع أن نوقن أن الله جميل يحب الجمال فنشيع فى الحياة الأمل ونزرع على حوافها الخير والسلام والمحبة.

تعليقات الفيسبوك