حول الإستفتاء وروىء الآخرين!!

هذا استعراض سريع ونظرة عجلى على المتاح لنا مشاهدته على شاشات التلفزة أو الاطلاع عليه قراءة من التغطيات الخاصة بأمر الإستفتاء على مصير جنوب السودان والتى باتت تملأ حيزًا مقدرا فى الوسائط العربية على وجه الخصوص كون السودان عضواً فى جامعة الدول العربية ولما ليجرى على ترابه من تأثير على منظومة الأمن العربى بصورة خاصة. ولا تتاح لنا لللأسف فرصة لمتابعة اهتمام الجوار الافريقى بهذه القضية حيث نحن. أما التغطيات الغربية فهى لم تزل أسيرة الصورة النمطية الثابتة لما يحدث فى السودان والتى لا تخلو حتى فى نظر المنصفين فى الغرب من التحامل والغرض. فالمشكلة فى منظورهم قضية صراع بين شمال عربى مسلم وجنوب زنجى مسيحى وأن صراعا بين الشطرين استغرق زماناً هو الأطول فى تأريخ الصراعات المشابهة فى القارة السمراء راح ضحيته نحو مليونى نسمة من الأنفس وأنه انتهى بموجب اتفاق تم فى 2005 وأن آخر حلقاته سيكون استفتاء الأرجح أن ينتهى بانفصال الجنوب عن الشمال. هكذا فى أغلب التغطيات على طريقة من أوجز قصة يوسف عليه السلام بانها قصة صبى ضاع من أهله ثم أُعثر عليه! لكن النشطاء ومنظماتهم بقوا على حالهم فى معاداة السودان بقطع النظر عن أى تطورات ايجابية تحدث فيه, يحرضون الحكومات فى الغرب من وقوع عدوان من الشمال يحول بين الجنوب وبين الاستقلال ويقترحون تدابير احترازية توقف العدوان المتوهم عند حده وقبل وقوعه بمزيد من التضييق على الشمال! أما أقنيتهم الفضائية فآخر ما وقفت عليه منها تغطية مطولة فى تلفزة البى بى سى لزيارة قام بها لاعب السلة السودانى لوال دينق لمسقط رأسه من الولايات المتحدة فى مدينة واو فى غرب الاستوائية حيث بنى هناك مدرسة . ورغم أن البرنامج لم يتضمن أحاديث صريحة حول الاستفتاء الا أنه استند- بذكاء- على كون أنه قد بات فى حكم المؤكد أن يصبح الجنوب قريبا دولة مستقلة. احتوت التغطية على افادة تطمينية من وزير إعلام حكومة الجنوب الدكتور بارنابا دينق بأن طرفى اتفاقية السلام ملتزمان بعدم العودة للحرب. لكن رئيس حكومة الجنوب أشار بوضوح الى نتيجة الاستفتاء فى إجابة على سؤال عن مشكلات ما بعد الإستفتاء التى ستواجه الجنوب بأن الجنوب سيتجاوز صعاب الميلاد تماماً كما الطفل يولد صغيرا لا يقدر على المشى ثم يشتد عوده فينطلق فى الآفاق الفسيحة.
لكن الذى استرعى انتباهى بالفعل هو التغطيات التى جاءت فى جل القنوات العربية :”الجزيرة ” بالطبع والتى أتاحت منذ الانتخابات الماضية معرفة واسعة لمشاهديها بتعقيدات الأوضاع فى السودان ثم قناة” النيل” الفضائية والفضائية السورية وكذلك قناة” العالم”. حملت هذه التغطيات معرفة حسنة بأوضاع السودان –تتفاوت بالطبع بين قناة وقناة- وإشفاق مدهش بالمخبؤ فى رحم الغيب لأكبر الدول العربية مساحة وربما مواردا. والدهشة محزنة كونها تشىء بمعرفة للمخاطر جاءت متأخرة فأصبحت كالعلم الذى لا ينفع. هذا رغم أن عدداً من المثقفين والمفكرين العرب قد أقروا بصراحة بالتفريط العربى على كافة الصُعد رغم أن زرقاء اليمامة ظلت تنبه منذ عقود الى التربص الذى لم تكن تخطؤه عين بصيرة. وتحذيرات ومشاهدات زرقاء اليمامة المبكرة هى ما عناه زميل لنا فى دمشق يجيب على سؤال يحمل اللوم والألم معاً : أين كنتم إزاء كل هذا منذ البداية؟ مشيرا الى أن السودان قد أشرك الأشقاء منذ البداية بما علم وتيقن.
ومما وقفت عليه حوار أجرته قناة” العالم” الفضائية قبل أيام قليلة مضت بين منسوبين أثنين أحدهما للمؤتر الوطنى والآخر للحركة الشعبية لجنوب السودان:
تحدث منسوب المؤتمر الوطنى عن الروابط التى لا تنفك بين المواطنين فى شمال القطر وجنوبه : تحدث عن المصاهرة وعن المراعى المشتركة وعن..وعن.. مما جعل المذيعة تتساءل فى دهشة شديدة ما المشكلة اذاً؟ وفيم الاستفتاء أصلا (أى اذا كانت العلاقة بهذه الحميمية)؟ ولم تحصل على إجابة بالطبع؟ وأشار آخرون الى لافتات رفعها متظاهرون فى ولاية الوحدة جنوبى السودان نقلتها قناة” الجزيرة” ينادون بإنفصال الجنوب تقول ” الوحدة مع الشمال تعنى العبودية السياسية”.
ونقل بعض هؤلاء ممن باتوا يتتبعون قضية الاستفتاء إستغرابهم لحوار مع أحد الاخوة الجنوبيين المحسوبين على تيار التشدد فى الحركة الشعبية فى الدعوة للانفصال وهويتحدث عن ظلم الشماليين للجنوبيين وأنهم ينعتونهم بأخس النعوت وأن الجنوبيين فى الشمال يعاملون فى واقع الأمر ليسوا كمواطنين من الدرجة الثانية بل هم ربما فى الدرجة الرابعة والخامسة بعد لاجىء الدول المجاورة! ثم انبرى بعد قليل و بنفس الحماسة يدافع عن بقاء نحو مليونين منهم فى الشمال حيث هم بل وأحقيتهم التلقائية فى الجنسية والمواطنة؟ تساءل آخر لماذا يريد هذا المناضل لمليونين من أهله وعشيرته البقاء على تلك الحالة المذرية من الاضطهاد والتفرقة التى وصف, بينما يذهب هو الى أرض الكرامة والحرية مواطناً من الدرجة الأولى؟! وعلق آخر ساخراً أليس الأمر الطبيعى والمنطقى أن يفعل كما فعل موسى عليه السلام عندما طلب من فرعون أن يرسل معه بنى اسرائيل؟ وأضاف: هل يريد هؤلاء الانفصاليون أن يمنحهم الشمال الاستقلال على طبق من ذهب دون تبعات؟
وكان الخبراء قد تحدثوا أيضاً عن قطاع النفط وأن نفط الجنوب لا سبيل اليه الى الأسواق الا عبر الأنابين الناقلة والمنشأءات الموجودة بنسبة مائة فى المائة فى الشمال وأن اقامة خطوط ناقلة جديدة عبر كينيا يكلف نحو ستة عشر مليارا من الدولارات ونحو خمس أعوام من الزمان لاكماله فضلا عن ذلك فإن ذلك النوع من النفط يحتوى على مادة الشمع وأنه يتجمد فى أقنية النقل ان تأخر ليومين أثنين كما أنه قد يفسد الابار ان بقى فيها لأكثر من اسبوع بعد انتاجه.
ولقد تابعت بعقل مفتوح من واقع حرصى كمواطن ما نقلته قناة السودان الفضائية و القنوات التى ذكرت من حوارات بين شريكى نيفاشا بالاضافة الى حوارت أجريتها مع نفر مستنبر من الإخوة الجنوبيين حول طروحاتهم الداعية للانفصال فلم أجد فيها منطقاً مقنعاً يُستند اليه خاصة بعد انفاذ اتفاقية السلام الشامل سيما وقد أكدت المفوضيات المستقلة وآليات التحقق من انفاذ نصوص ذلك الاتفاق كما أسلفنا فى مقالة سابقة أن نسبة التنفيذ تقارب الامتياز فى كثير من الأحيان مع وجود عثرات هنا وهناك وربما أخطاء لشريكهم وتباطؤ فى تنفيذ بعض ما اُتفق عليه. لكن ذلك كله لا يرقى الى درجة زعزعة الثقة وزرع الشكوك بين الفريقين بما يفضى الى تمزيق الوطن, حتى ذريعة عدم إنفاذ قوانين التحول الديمقراطى التى أشار اليها الأستاذ أتيم قرنق فى الحوار الذى جرى بينه وبين الدكتور ابراهيم غندور الذى أدار دفته الاعلامى اللامع الأستاذ ضياء الدين بلال على الفضائية السودانية, لا يصلح حجة تساق فى تبرير الانفصال على أهمية التحول الديمقراطى كسبيل وحيد لاستقرار البلاد., خاصة وأن تلك القوانين قد أجيزت فى البرلمان باتفاق الشريكين وأنه بامكان الحركة الشعبية أن تقيم الحجة على المؤتمر الشعبى عبر نضالاتها مع حلفائها ان نكص عنها أو تلكأ فى انفاذها كلها أوبعضها. وتلك هى كظاظة النضال السياسى الشريف. ونكرر القول بأن الاتفاقية لا نص فيها على التحول الى السودان الجديد الذى سعت اليه الحركة فى نهاية فترة الانتقال بل نص بروتوكول ما شكوس على قيام دولة بنظامين وترك حسم الصراع الايدولوجى وصراع الرؤى والبرامج للنضال السياسى السلمى بعد تحقيق الوحدة التى جعلها الاتفاق أولوية وغاية يسعى لتحقيقها الطرفان. نعم هناك مرارت ومظالم تاريخية لونت علاقة الشمال والجنوب بالتوجس والشك وهو ما سعت الاتفاقية لمعالجته فى أناة وتؤدة . واشارة الأستاذ أتيم قرنق فى الحوار المشار اليه بأنه لا يجد نفسه فى التلفزيون القومى اشارة بليغة وصحيحة عبر عنها كثيرون قبله لكن تلك غاية –غاية ان ترى كل مكونات شعبنا نفسها على صورة واحدة – لم تكن مطمحاً سهل التحقق خلال ست سنوات لذلك أقامت الاتفاقية حكومة فى الجنوب بصلاحيات واسعة ليعبر عن اشواقه وخصوصياته الثقافية كما يشتهى ريثما يصلب عود المشتركات الوطنية . وقمين بالنظام الإتحادى أن أحكمنا صياغته وتطبيقاته أن يمكّن مكونات السودان فى الشمال والشرق والغرب من التعبير عن ثقافاتها ثم تتلاقح تلك المكونات لخلق ثقافة جامعة بعد حين يجد كل منا نفسه فيها وليس هكذا على الفور اختزالاً لقرون من الخصوصيات الثقافية بأى حال!
همس مشفق آخر من أولئك المتابعين لتلك الحوارات بأن عجز الاخوة الجنوبيين الداعين للانفصال فى الحوارات التى شاهدوها على شاشات التلفزة أو قرأوها عن تقديم حجج مقبولة ومعقولة للمطالبة بالإنفصال, تدل على واحد من أمرين لا ثالث لهما : إما أنهم لا يعلمون دواعى الانفصال أصلاً وهذا خطير ينذر بأن السودانيين جميعا مساقون الى مصير مجهول أو أن أولئك الاخوة يعلمون ولا يقوون على البوح بذلك . قال فى إضافة هامة ” وهذا ما يثير إشفاقنا ويجبرنا على القول إن وراء الأكمة ما وراءها ! والا فيم هجوم حركات دارفور المسلحة الأخير إنطلاقاً من الجنوب؟! أهو الإنقضاض المنتظر على الشمال وإقامة وحدة بمواصفات أخرى؟ ” هذه تساؤلات جريئة إن لم تحصل على اجابات فإنها جديرة بأن توضع بجدية ومسؤولية فى الإعتبار.
ونجدد القول بقناعتنا بضرورة اتاحة الفرصة لكل مواطن ليدلى بدلوه حول مصير بلد هو مصيره الشخصى ومصير ذويه أيضاً بلا حجر ولا إكراه و دون أحكام تصدر على النوايا, لكن أملنا أن لا يغرى منعطف الاستفتاء بمزيد من الصراع على السلطة واللجؤ الى العنف المسلح كوسيلة لحسم الصراعات السياسية وفرض الرؤى بالقوة فالوطن المثخن بالجراح قد يتسرب من بين أيدينا جميعاً ولات ساعة مندم.

تعليقات الفيسبوك