جدل الدين والحداثة في كتاب جمال محمد أحمد: الأصول الفكرية للوطنية المصرية

الاهتمام بالأستاذ جمال محمد أحمد يجئ برغبة التعرف علي تصورات وأفكار الجيل الثاني من المثقفين الذين جاءوا بعد جيل الاستقلال، حول كيفية بناء الوطن ، والتماس أنسب الطرق للوصول للغايات في الحفاظ عليه سيما وهو بلد شاسع متعدد الأعراق يحتاج لصهر أجزائه في بوتقة الرابطة الوطنية التي لا يتمايز الناس فيها بعرق أو معتقد أو جهة ويتسع مضمار التسابق فيها للجهد والبذل والعرق في منظومة حقوق وواجبات متساوية في عالم كان وعراً كما هو الآن مشدوداً آنئذ لقطبين شرسين ،بلادنا احدي معتركات الصراع بينهما علي النفوذ والمواد الخام. ذلك لعل البحث يفضي لما قد يفيد اليوم في تحقيق المقاصد. ومهمة التعرف علي تصورات ذاك الجيل ليست سهلة وتستدعي بالضرورة اختراق الهالة التي أحيط بها بعض رموز ذلك الجيل ومنهم بلا جدال الأستاذ جمال محمد أحمد، لتبلغ غايتك من البحث وتحصل علي ملموس من فكرة محورية مفيدة للشخص لعلها ضاعت في خضم العراك السياسي أو لدور باق قام به ظل ذخراً للأجيال التاليات تتم رعايته والحفاظ عليه. ولعمري فإن جدوي البحث الوعر يستدعي اختراق الهالات لأن الكثير منها صنعته العواطف أو ألق الزمن أو مثابرة الراغبين منهم في وهج الأضواء الساطعة والصيت الحسن.
وللأستاذ جمال إسهامات في ميادين الدبلوماسية فقد كتب كتاباً عن الدبلوماسية السودانية ومارس العمل الدبلوماسي سفيرا ووزيرا للخارجية وأرخ في اطار جهد الدبلوماسية السودانية لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية وله كتب وبحوث في الفكر والأدب والسياسة.
والكتاب موضوع هذه الإضاءة عنوانه ” الأصول الفكرية للوطنية المصرية” أصله رسالة لنيل درجة الماجستير قدمت لجامعة أكسفورد باللغة الإنقليزية وبطلب منها، بالكتابة عن الليبراليين العرب. قام المعهد الملكي البريطاني بطباعته عام ١٩٦٠ ثم عام ١٩٦٨ في طبعة ثانية. وقد قام بترجمة الكتاب للعربية الدكتور محجوب التجاني محمود. يقع الكتاب المترجم في ١٧٠ صفحة من القطع المتوسط وهو من منشورات اللجنة القومية لتخليد ذكري الكاتب جمال محمد أحمد. الطبعة الأولي ١٩٩٦.
ولقد فضلت كتابة هذه الإضاءة للتعرف علي جذور تلك الحركة لذاتها ولما ترتب عليها باعتبار تأثير مصر علي محيطها العربي والإسلامي ولتأثيرها المؤكد علي نشأة الحركة الوطنية السودانية الحديثة في عشرينيات القرن العشرين لدرجة أقضت مضاجع حكومة الإنقليز في الخرطوم وأثرت في سياساتها تجاه السودان ومستقبل السودان.
استهل المؤلف موضوعات الكتاب بمقدمة، الأستاذ ألبرت حبيب حوراني وهو بريطاني من أصل لبناني درّس في جامعة أكسفورد. وقد بذل المشورة للمؤلف في تحويل الأطروحة إلي كتاب كما ذكر المؤلف نفسه. لقد أوجز السيد حوراني محتويات الكتاب بادئاً بالإشارة إلي كون مصر هي أول دولة في العالم العربي تتعرض للحداثة الأوروبية وتحاول الولوج إلي عالمها ، فقد برز السؤال الجوهري عن كيفية تحقيق ذلك، مثلاً : هل تخلع رداءها كاملا وترتدي معطفاً وقبعة أم تمازج بين ذلك وبين الجلباب والعمامة والملائة العربية؟ جدال وصراع وعراك أحيانا بين المدارس كما سنري لم يزل قائماً.. يقول حوراني ،” من بعد اضمحلال الخلافة العباسية في بغداد، انتقل إلي القاهرة مركز ثقل الفكر الإسلامي والثقافة العربية وصارت جامعة جامع الأزهر دارا للعلوم التقليدية، الدين واللغة. بعد ذلك في القرن التاسع عشر ، كانت مصر مسرحاً لتجربة تهم كل الأقطار العربية والمسلمة ولأنها كذلك أصبحت مركز الأدب العربي الحديث .كانت التجربة واعية بذاتها ودالة علي ذلك. ووسط المسلمين المصريين ….كان السؤال بارزاً ومثاراً للجدل: بأي شروط يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءاً من العالم الحديث؟” ص١٧ و١٨. أجاب حوراني بأن الذي تولي الإجابة علي السؤال هو الإمام محمد عبده وأن ذلك يتم فقط في رؤية الإمام، بالتوفيق بين ثوابت الإسلام وبين الحداثة الأوروبية. قال ” كان ذلكم بالفعل هو العمل (الذي) نذر له محمد عبده حياته وهو موجد هذه الجماعة ، أهم مفكر أنجبته مصر.” ثم أشار إلي القول بأن ما فعله جعله ” بطل كتاب السيد أحمد .(أي جمال محمد أحمد)” ص١٩ أي الكتاب موضوع هذه المقالة.
هذا السؤال ، حول كيفية التعامل مع الحداثة الأوروبية كان هو محور الجدل الذي قامت عليه الأصول الفكرية للوطنية المصرية.
اعتبر الأستاذ جمال في مقدمته أن احتلال نابليون لمصر كان بمثابة مبتدأ لعلاقة جديدة بين أوروبا والشرق الأدنى. وفي خضم دهشة متبادلة بين نابليون وبين المصريين ؛ ظهر شاب طموح من الحامية الألبانية استطاع بعد سنوات قليلة من الفوضى أن يستأثر بحكم مصر في العام ١٨٠٥ هو محمد علي باشا بدعم وتأييد شيوخ الأزهر الذين قادوا أول انتفاضة ضد الغزو الفرنسي عام ١٧٩٧ كان في قيادتهم الشيخ عمر مكرم. كانت صلة محمد علي واهية وشكلية بالسلطان العثماني في الآستانة الذي حاول صرفه عن ولاية مصر بتوليته ولاية الحجاز لما كان يعرف من طموحه اللا محدود.
عبر المؤرخ الجبرتي عن إعجابه بالعلوم التي جاء به الفرنسيون ولم يكن وحده بل كان ذلك حال مجموعة من شيوخ وطلاب الأزهر منهم الشيخ محمد حسن بن محمد العطار (١٧٦٦-١٨٣٥) الذي” قذف بنفسه في أحضان الفرنسيين ” بعبارة المؤلف، مقابل تعليمهم العربية. ونهل من معارفهم وأسباب تقدم بلادهم. وكان يقول، ” علينا أن نأخذ من أوروبا كل العلوم التي لا توجد في بلادنا.” يقول أحمد أمين إن الشيخ العطار هذا قد تأثر به لفيف من شباب الأزهر منهم رفاعة رافع الطهطاوي الذي أصبح أحد أعلام الثقافة في مصر و الذي ابتعث لاحقاً إلي فرنسا(١٨٢٦إلي ١٨٣٠)ثم أوكل له محمد علي باشا بعد عودته ،إدارة مدرسة اللغات التي يصفها المؤلف بأنها “لعبت دورا مركزيا في تشكيل العقل السياسي لمصر ولمدي أقل للدول العربية الأخرى.” ص٣٢. ( قارن ذلك بتأثير ترجمات دار الحكمة في بغداد في عهد المأمون الخليفة العباسي). ويري المؤلف أن أهم إنجازات محمد علي باشا علي الإطلاق، هي اهتمامه بتطوير التعليم في مصر . وعن مدرسة اللغات يقول إنها أعطت العالم العربي مترجمين مثل محمود أبو السعود ومحمود عثمان جلال. وترجم الطهطاوي وتلاميذه ٢٠٠٠ كتاب وكتيب. و عن الطهطاوي ذكر أنه كتب أهم كتاب عن أوروبا هو (التلخيص، “تلخيص الابريز في تلخيص باريز “(باريس)) الذي قري علي محمد علي باشا فأمر نظار المدارس بقراءته علي التلاميذ. ويتضح من العنوان انبهار الشيخ الأزهري بباريس( فالإبريز هو الذهب الخالص). وهو كتاب يحوي انطباعات الطهطاوي عن كافة أوجه الحياة في باريس ونظافتها وعن الطب فيها و عن حرية الأديان فيها وعدم تدين الفرنسيين و عن المآكل والمشارب والاختلاط بين الرجال والنساء . نفاه الخديوي عباس عام ١٨٥١ إلي السودان وكان حانقاً بسبب ذلك النفي فوصف البلد وأهله بما لا يليق. أعيد لمصر عام ١٨٥٦ مديرا لمدرسة الترجمة. بعد وفاة محمد علي لم يواصل من خلفوه ما وضع لبناته في الاهتمام بالتعليم إلي أن جاء حفيده الخديوي إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٨) الذي أعاد الاهتمام بالتعليم واستأنف ارسال البعثات التعليمية للخارج وأوجد مدارس عديدة ومكتبة قومية ومتحفاً وكان راعياً للمسرح (ص٣٧).
إن وصول جمال الدين الأفغاني لمصر عام ١٨٦٩ شكل بداية لحقبة جديدة في مصر. جاء بفكرة ” إنهاض أي بلد مسلم واحد للقوة والقيادة حتى يتأتى للمجتمع الإسلامي أن يلحق بالأمم المتحضرة في العالم، يتحد الشرق ويحرر عقله من سلاسل الخرافة.” ويوقن الأفغاني أن المجتمع المسلم يمتلك كل العناصر التي تتجمع لتصنع أمة: الدين، اللغة والشخصية والعادات. (ص٣٨). شملت انشطته المعاونة في إنشاء أول جماعة وطنية هي الحزب الوطني.
احتشدت في سبعينيات القرن التاسع عشر، عوامل رفدت التطورات المصرية بظهور الصحافة الشعبية بكثافة: ضعفت قبضة الخديوي إسماعيل علي السلطة بسبب مشكلة الديون فأتاح ضعفه سعة في الحريات وتزامن ذلك مع تدفق أعداد من الصحافيين المتمرسين من بلاد الشام الذين حالت السلطات التركية في بلادهم بينهم وبين التعبير الحر عن رؤاهم الفكرية والسياسية وتزامن ذلك مع وصول جمال الدين الأفغاني برؤاه الثورية علي أرض مصر. ظهرت علي الفور ١٦ صحيفة في البلاد. تبلورت كتلتان احداهما تدعوا للجامعة الإسلامية، أي تتعاطف مع الحكم العثماني وفكرة الأممية الإسلامية و الأخرى هي تيار الوطنية المصرية الداعي لمناهضة الحكم التركي وكان ذلك يتطلب نوعاً من التماهي مع الوجود البريطاني الذي كان يمني المصريين بالاستقلال التام أو هكذا ارتأى مناصرو هذا التيار .
ثم ظهر الإمام محمد عبده، قطب الرحي في الأصول الفكرية للوطنية المصرية.
أما كيف أصبح محمد عبده أباً للوطنية المصرية فالمعروف أنه شارك في ثورة عرابي عام ١٨٨٢ وقبض عليه وسجن ثم نفي إلي بيروت ومن هناك التحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني في باريس حيث كونا مجموعة العروة الوثقي وأصدرا مجلة بنفس الاسم أصدرت نحو ١٦ عددا ثم توقفت. كان هم الرجلين في باريس إشاعة الوعي بين المسلمين واستثارة حماسهم للتصدي للاستعمار وكانا فيما يبدو علي وفاق تام فالذي تسبب في نفي عبده هو المشاركة في ثورة هي ثورة أحمد عرابي .
عاد عبده في العام ١٨٨٨ من منفاه بعفو صدر عنه من الخديوي توفيق حيث عين في العام ١٨٨٩ مفتياً للديار المصرية فلعب دورا هاماً في ميادين القضاء وإصلاح الأزهر وكان قبل نفيه قد عين في العام ١٨٨٠ رئيسا لمكتب منشورات وزارة الداخلية وكان من ضمن مهامه تحرير الجريدة الرسمية، (الوقائع المصرية ) عاونه في إصدارها تلميذه سعد زغلول. أصدر عبر هذه الجريدة مقالات هامة مثل التعليم والمؤسسات السياسية، العادات الاجتماعية؛ أودعها أول تعبير ناضج لأفكار الجيل الجديد من المثقفين المصريين.” ص٤٢ .
وقد لخص ألبرت حبيب حوراني رؤية محمد عبده وأثره الذي يبدو متبايناً على تلاميذه بمهارة فائقة إذ قال: “لمذهب محمد عبده عنصرين سواء بسواء. أكد الحاجة لأن يتمسك بثبات بما كان غير متغير في الإسلام، والحاجة لأن يغير ما قد يجوز تغييره. هذان كانا ممسوكين في توازن رقيق بعقل محمد عبده، كان حساساً كما هو لكل المطالب الجوهرية للإسلام وللحاجات والقيم الإيجابية للحضارة الحديثة. على أن التحرر من التوتر الذي استطاع هو في حيويته أن يمسك زمام النصرين موضع الحديث- فلا ينفلتان، مكّن للنزعتين من أن تتمطيا في اتجاهات شتي. ….. بعضهم بقيادة رشيد رضا أعطي لتأكيد عبده علي الطبيعة غير المتغيرة لعقائد الإسلام عنتاً مخالفاً لروح فكرته (أي لروح فكرة عبده) فتحرك في وجهة الأصولية الحنبلية أو الوهابية، بينما جماعة أخري وضعت تأكيداً أعلي لضرورة تغيير القانون والعرف ومؤسسات المجتمع الإسلامي. حاولوا أن يعالجوا في دوائر مختلفة من الحياة مضامين المبادئ الأخلاقية للإسلام بالنسبة للمجتمع الحديث وبهذا جنحوا (بوعي أو دونه) لأن ينحرفوا في اتجاه الوطنية العلمانية والتفريق بين نطاق الدين وحيز ما يتعلق بالمنفعة الاجتماعية بعيداً عن روح ومقاصد عبده.” ص٢٠ و٢١.
مزاوجة محمد عبده بين الدين والحداثة لم تصمد بعده لدي تلاميذه الذين غلّب تيار منهم عامل الدين وغلّب الآخر تيار الحداثة إلي منتهاه دون كبير اعتبار للدين . ذلك يفسر لغز أن يكون كل أولئك ،محمد رشيد رضا الشيخ المراغي شيخ الأزهر ، وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول كلهم تلاميذاً له.
أورد المؤلف عبارة موجزة للورد كرومر المندوب السامي البريطاني في القاهرة الذي كان يدير الأمور في مصر والسودان بتأثيره الكبير علي الخديوي، عبارة لخصت وسطية محمد عبده حيث أطلق عليه وعلي تلاميذه ، ” جيروندية مصر، ” شارحاً ذلك بقوله :” الغرض الذي أقر به أولئك المنتمين إلي مدرسة عبده هو تسويغ طرائق الإسلام للإنسان، أي للمسلم. إنهم جيروندية الحركة الوطنية المصرية.” والجيروندية فصيل أصيل في الثورة الفرنسية كان أكثر اعتدالا من اليعاقبة وكان ضد الإسراف في العنف والتقتيل وكانوا معترضين علي قتل الملك لكنهم تعرضوا لما يشبه الإبادة علي يد اليعاقبة باعتبارهم خونة لمبادئ الثورة لكن الجيروندية ظفروا بهم في نهاية المطاف وبزعيمهم الدموي ماكسميليان روبسبيرو ، مفكر ومنفذ (عهد الرعب) ،فقتلوه بالمقصلة.
تغير محمد عبده من مفكر ثوري انقلابي إلي رجل يؤمن بالتغيير المتدرج عبر التعليم وإشاعة الثقافة لدرجة أنه انتقد عرابي الذي أيد ثورته ونفي بسببها. وقطع صلته بأستاذه جمال الدين الأفغاني.
في ذكري وفاة محمد عبده الثانية قالت عنه يومية الأهرام ،” لعب عبده دوراً في كل شيء حدث في مصر خلال حياته العملية… كانت مشاركته في كل المشاريع هي الأبرز عادة واستجابته الأولي.” ص٦٧
“وكتب عالم المسلمين في يوليو ١٩٢٩ ملاحظة أنه في محيط التقدم السياسي والمضاء الفكري والإصلاح الاجتماعي، فإن الحركة والهيئة لمصر الحاضرة تعود إلي تأثير عبده إلي حد لا يمكن تقليله.” ص٦٧
في العام ١٩٠٧ بعد عامين من وفاة محمد عبده ظهرت ثلاثة أحزاب سياسية هي حزب الأمة وحزب الاصلاح الدستوري والحزب الوطني وكان أحمد لطفي السيد أحد قيادات حزب الأمة الذي كان يحتفظ بعلاقات مع البريطانيين لإضعاف سلطة الخديوي والأتراك المصريين طمعاً في الحصول علي الاستقلال التام.
وهنا أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لأحمد لطفي السيد الذي يعتبره” قطب الحداثة المصرية من بعد وفاة محمد عبده” ص١٢٦. وقد قضي معه نحو ثلاثة أشهر في سياق جمع المادة لأطروحته التي كانت تروم معرفة الليبراليين العرب. وقد بحث في الأصول الفكرية للرجل فذكر أنه تأثر بوضعية الفيلسوف الفرنسي أوغست كنت وآمن بمراحله الثلاث في تطور البشرية ، اللاهوتية والميتافيزيقيا ثم الوضعية التي تستند فقط علي العلوم. لكنه رفض الديانة الإنسانية التي اقترحها كونت بديلاً للديانات القائمة وانتقد تلك الديانة بالقول ” إن الملاحظة التي يعتمد عليها الوضعيون في التوصل للمعرفة تدل علي أن الإنسان يضيع، إن لم يكن له دين.” ص ١٤٣
كذلك كان الرجل حفياً باللغة العربية. قال ” فيما أعقل من أمر، إن حفظ اللغة والحماس لخدمتها بتجديد حياتها عبر نصوص واصطلاحات جيدة، برهان علي أن أمة ما ، تملك شخصية واحتراماً للنفس.” ص ١٤٤
كذلك كان جمال محمد أحمد نفسه فرغم أن العربية ليست لغة أم بالنسبة له علي المستوي الشخصي لكنها لغة وطن أحبها وبعاطفة جياشة أوصي نجليه عاطف وعارف أن يتقناها وأن يتحريا جمال الأسلوب وبلاغة البيان . ذكر ذلك في مقدمة كتابه (سالي فو حمر) حيث حذرهما كذلك من الافتتان بالتجربة الأوروبية التي جعلت تلك المجتمعات كالآلات خالية من الأحاسيس. وكان بارعاً في الكتابة بها بل وبأسلوب متميز. و ذهب إلي أنها (العربية) كانت هي لغة الكتابة الرسمية في إفريقيا قبل مجيء المستعمر. وكذلك أشار لدور الدين في إفريقيا وقال إنه ظهر في بلادنا وأن الأفارقة حفيون بالدين عقدوا مؤتمرا في خمسينيات القرن الماضي يؤكدون فيه علي محورية الدين في الحياة (راجع كتابه وجدان إفريقيا) وكتب كذلك ضمن بحوث إفريقية ( العنصر الديني في اليقظة الجزائرية). ويبدو لي أن بعض ذلك من تأثيرات أحمد لطفي السيد عليه.
يحار المرء كثيراً في أنه رغم البداية القوية للوطنية المصرية فإنها لم تتجذر فتعطي تجربة من الرسوخ والفاعلية كما الحال في تجربة حزب المؤتمر في الهند التي رسخت نظاما ديمقراطيا باقياً حتي اليوم وتمكنت من المزاوجة بين ميراث الهند وبين الحداثة الأوروبية بما حقق التقدم المنشود وأبقي علي خصوصية الثقافة الهندية، بما يعد من أبلغ الأدلة علي أن التقدم يقوم في كنف الموروث الثقافي للأمة لا بالتنكر له ويعتبر مالك بن نبي أن الثقافة بمثابة الدم للجسم الحي. كذلك يلاحظ أن اليابان التي تعرضت لأبشع هزيمة في التأريخ اشترطت للتسليم شرطين ثقافيين هما الحفاظ علي مكانة الامبراطور كرأس ورمز للسلطة العليا في اليابان، والإمبراطور لقطاعات واسعة من الشعب الياباني يعد أكثر من مجرد رمز إلي حد يقترب من القداسة، والشرط الثاني كان الإبقاء علي اللغة اليابانية كلغة رسمية للبلاد .
أشار المؤلف إلي الضجة التي أثارها كتاب علي عبد الرازق ” الإسلام وأصول الحكم” الذي نفي فيه وجود دولة في الإسلام وكتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي” الذي فهم منه التشكيك في الإسلام نفسه وأن الكتابين قد أسهما في زيادة البلبلة والتشويش في الشارع السياسي. قال عن أثر الكتابين ، ” بينما كان الوفد يغير المسرح السياسي دون خروج شديد علي التقليد الذي يؤمن بحيوية الإسلام في العالم الحديث، كان شابان من الأزهر يدخلان ثورة من نوع مختلف، بالرغم من أنها لم تكن منفصلة تماما عن الحركة العامة للعصيان. إن المشكوك فيه ما إذا كان كلاً من علي عبدالرازق أو دكتور طه حسين قد تعمدا تغيير مناخ الرأي بأسلوب لم يتفق وحسب مع التفاؤل السياسي السائد وإنما ترك انطباعاً لدي المثقف المصري كان بعيد الأثر، كمثل ما أحدث سعد في السياسة.” ١٦٠ ص . زاد في موضع آخر تبيان ما أحدثه الكتابان: “ص٦٢ “الحوار حول الكتابين (أحدث) نقطة تحول في الفكر المصري. زادت البلبلة خبالاً بسبب فشل مساعي سعد للتصالح مع بريطانيا أو لنيل الاستقلال عنها. أخذ عبد الرازق وطه حسين علي أنهما يعبران عن إفناء الغرب للمبادئ الأساسية للحياة المصرية.” زاد الاستقطاب بين تياري فكر الإمام فظهرت مجلة (الفتح) تعبر عن التيار المحافظ ومجلة (السياسة ) تعبر عن جماعة وصفهم ب” المتفرنجين”. استغرق السجال بينهم بقية سنوات العشرين من القرن الماضي ثم تلت الانكسارات والانشقاقات وإلغاء الدستور.
إن لزوم ما لا يلزم في السياسة من الأقوال والأفعال يعد أشد فتكاً من تآمر الأعداء والغرباء. والنتيجة : ” إن التشويش الفكري والسياسي فاعلا ومتفاعلاً مع بعضه البعض، قد انشطر به المجتمع انشطارا لحالة من فوضي الأفراد، كل يحي لنفسه. عمقت وفاة سعد زغلول السخرية وأبانت الحكومة النيابية التي كانت ذات مرة هدفاً لحياة لطفي ومدرسة له، علامات الفشل خلال عامين من الاستقلال فقد حل البرلمان مرتين في أربع سنوات بالمرسوم الملكي وألغي دستور ١٩٢٣ بعد. سنوات ثلاث لا أكثر عقب وفاته عام ١٩٣٠.” ص١٦٣
يقول المؤلف في ملحق ختامي للكتاب: ” تبدو الفصول السابقة كأنما هي صرخة نائية عن مسرح اليوم الاجتماعي والسياسي المصري. ما هذه الحال كذلك.” ص١٥٥ (هذا نحو عام ١٩٦٠) . بدا متفائلاً هنا بأنه وهو يعد أطروحته مع بدايات أعوام الثورة المصرية في خمسينيات القرن الماضي بأن جهود أولئك محمد عبده ومصطفي كامل وأحمد لطفي السيد لم تذهب هباء بل أرست ” الأساس العلمي التجريبي البادي لزعماء المصريين الحاليين.” ومرة أخري لو قسنا ذلك بتجربة الهند لا نجد ما يقنعنا بذلك. فقد ازدهرت بعض أشواق الإمام محمد عبده في إقرار الديمقراطية والتماس النهضة بالانفتاح علي ثمرات العصر في الفترة التي شملت سنوات ثورة ١٩١٩ وحتي وفاة الزعيم سعد زغلول في العام ١٩٢٧ وهي فترة ربما كانت بحساب الزمن قصيرة كما أن قرينها الآخر المتعلق بثوابت الدين لم يعد جزءا كما أراد له الإمام فانحصر الصراع بين مكونات الشق الليبرالي بين أطياف الليبراليين المختلفة الذين آلت لهم الأمور. برز التراجع الذي عبرت عنه الأستاذة فاطمة اليوسف والذي أورده المؤلف والذي يعبر عن الهزال الذي أصاب الحركة الوطنية بانشقاق حزب الوفد في ثلاثينيات القرن الماضي وقيام حزب للسعديين مروراً بكامل عقد الأربعينيات وهو مقتبس عبر عن ذلك بدقة 🙁 ” كانت مصر سائرة في تاريخها عبر فترة مستهجنة لا هدف لها مسترجعة خطي الأربعينيات قدرت أنها سنوات جرداء” زاغت السياسة والأدب في دهاليز ما كانت مرئية ولا محمية من قبل الرجال الذين عاشوا ليروا أفكارهم منسية أو متجاهلة.)ص ١٥٦.
افتقدت في الكتاب أي ذكر للدكتور عبد الرزاق السنهوري (١٨٩٥-١٩٧١) الذي شارك في ثورة ١٩١٩ وتعرض للعقاب ،فقد حاول هو الآخر التوفيق بين روح العصر والقيم الإسلامية وأعد أطروحة للدكتوراه بجامعة السوربون بعنوان “فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية.” تمت ترجمتها إلي العربية في كتاب يحمل ذات العنوان. وهي دكتوراه ثانية غير التي بعث لتحضيرها والتي كانت بعنوان، (القيود التعاقدية علي حرية العمل في القضاء الانقليزي) والتي نال عليها جائزة . لقد كان الرجل من أساطين القانون الدستوري في كامل المنطقة ساهم في كتابة قوانين ودساتير مصر والسودان وسوريا والعراق واليمن وليبيا. صحيح أنه كان من أنصار الجامعة الإسلامية أي الأممية الإسلامية لكنه تحدث عن ضرورة إقرار الحكم الديمقراطي وأنه الأقرب لمبادئ الإسلام وانتقد بجرأة الممارسات الديكتاتورية في تاريخ المسلمين التي سادت بعد الخلافة الراشدة، وكان من أنصار الزعيم الوطني مصطفي كامل الذي يعد من تلاميذ محمد عبده في السعي للمواءمة بين الحداثة والدين.
وبعد فهذا بحث مفيد في مادته يناقش حقبة هامة في التأريخ المصري وارتدادات تلك الحقبة علي السودان وعلي البلاد العربية كما أن موضوعه المتعلق بسعي المجتمعات المسلمة للعيش في العصر وتحقيق التقدم والنهضة بمصباح الثقافة ومنظومة الأخلاق القائمة علي الدين لا يزال موضوعاً يدور حوله الجدال والبحث ويتوقع الدارسون أن يستمر البحث في ذلك المسعي بل ويذهب نوح فيلدمان إلي أبعد من ذلك في كتابه” سقوط وقيام الدولة الإسلامية” إلي أنه مسعي يبدو أنه لا فكاك لمجتمعات المسلمين منه ، إذ ظل يتكرر ويعود رغم تكرار التجارب الفاشلة إذ يعزي المسلمون الفشل علي البشر لا علي المعتقد.
ويقيني أن مثيل ذلك الجدال قد جري في الثقافات الأخرى بعد التخلص من الاستعمار في مسعي للاستفادة من ثمرات الحداثة في إطار الخصائص المميزة لكل ثقافة وأذكر علي سيبل المثال ما سجله البروفسور محمود ممداني في ورقة هامة بعنوان ” إنهاء الإستعمار في الجامعة.”عن جدال جري بين علي المزروعي وولتر رودني حول دور الجامعة في إفريقيا بعد الاستقلال هل تبقي واحة للتميز بقطع النظر عن السياق الواقعي الموجودة فيه أم تنزل من عليائها لملاءمة و مخاطبة تحديات التنمية في افريقيا. وتجادل الورقة في حيادية وعالمية الأسس التي تأسست عليها الجامعات في إفريقيا وتقول إنها قامت علي المركزية الإثنوية الأوروبية وانها اعتمدت اللقات الأوروبية واعتبرت اللغات الإفريقية لغات فولكلورية.

تعليقات الفيسبوك