جائزة نوبل للأدب والعالم الثالث!!

جائزة نوبل هى الجائزة التى خصصها المهندس الكيمائى السويدى الجنسية ألفرد نوبل (1833-1896) من ثروته الخاصة للأعمال والمخترعات المتميزة فى مجالات الكيمياء والفيزياء والعلوم الطبية و الأدب والسلام. والرجل الى جانب تخصصه فى علم الهندسة كان مبدعا يتقن خمس لغات ويكتب الشعر والرواية. وقد بدأت الجائزة تمنح منذ عام 1901 وحتى هذا العام الميلادى 2010. والعالم الثالث اصطلاح استخدم خلال حقبة الحرب الباردة اشارة الى الدول المحايدة بين الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية حيث كانت دول المعسكر الغربى الصناعية تعد العالم الأول بينما مثلت دول المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى العالم الثان . والدول المحايدة يومئذ هى دول عدم الانحياز التى تضم دول افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الا قليلا كانت هى دول ذلك العالم الذى يأتى فى المرتبة الثالثة عالما ثالثا فى كافة مناح النمؤ الانسانى. و بعد انتهاء الحرب الباردة تراجع استخدام مصطلح العالم الثالث كثيرا وبقى استخدامه مجازيا فقط كناية عن دول الجنوب النامية مقابل الدول الصناعية المتقدمة فى الشمال. ويحلو لنا استخدام هذا المصطلح القديم لكونه لم يزل معروف الدلالة بينما أصبح مصطلح الدول النامية مصطلحا يفتقر الى الدقة اذ أنه يضم دولا مثل الصين والهند والبرازيل أصبحت تنافس الدول الصناعية الكبرى وبين دول فى افريقيا جنوب الصحراء آسيا يقل دخل الفرد فيها عن دولار واحد فى اليوم.
ونعود الى جائزة نوبل للقول بأن ألفريد نوبل الذى كانت شركته تقوم ببناء الجسور فى عاصمة بلده هلسنكى قد اكتشف بفعل الحاجة التى هى أم الاختراع, خصائص مادة( الدينميت) ذات القدرة الهائلة فى التفجيرات بغرض تكسير الصخور وهو أمر تحتاجه هذه الصناعة. لكن سرعان ما دخل استخدام( الديناميت) فى الصناعات الحربية كمادة شديدة التدمير للأبنية والمنشئات الأمر الذى زاد من بشاعة الحروب وأهوالها على الحضارة والجنس البشرى . عندها أحس المخترع بفداحة ما صنعت يداه فأشفق على مكانته فى التأريخ كيف ستكون .وقيل ان شقيق الرجل مات فى مدينة (كان) الفرنسية فظنت احد الصحف الفرنسية أن من مات هو مخترع( الديناميت), ألفريد نوبل فكتبت تقول ” ان ألفريد نوبل الذى جمع أموالا طائلة من اختراع مادة الديناميت المدمرة قد مات بفعل ما صنعت يداه من المتفجرات التى قتلت الآلاف.” قرأ الرجل ذلك فخشى أن يلعنه التاريخ باختراع هذه المادة المفجرة فقرر أن يخصص ميراثه من الثروة لخدمة البشرية تعويضا عن ذلك بتخصيص تلك الجائزة فى المجالات المذكورة آنفا.
وربما كان من طبائع الأشياء أن تحصد الدول الصناعية المتقدمة جوائز نوبل فى العلوم الطبيعية والتطبيقية بحكم تفوقها وتراكم خبراتها وتوافر امكانات البحث الباهظة التكاليف فى بلادها. لكن الجائزة فى الآداب وفى السلام تكتسب صفة العالمية حيث أن ميادينها وحلبات المنافسة فيها تتسع لتشمل المعمورة والجنس البشرى قاطبة دون كبير اهتمام بالأعراق والجهات والثقافات ودرجة الرقى المادى أو هكذا ينبغى أن تكون. وربما كان الأمر أكثر يسرا فى حالة منح الجائزة لأبطال السلام اذ قد ينعقد شبه اجماع أحيانا لأحقية بعض الأفراد للجائزة. لكن الأمر العسير هو اختيار المتميزين لنيل جائزة نوبل فى الآداب التى تمنحها الأكاديمية السويدية اذ أن معايير الاختيار لن تخلو من التحيز الثقافى أو ما يعرف ب ” المركزية العرقية أو الاثنوية” وهى الأوروبية فى هذه الحالة Eurocentric ومن ذلك اللغة التى تحمل العمل الابداعى رواية كانت أو غيرها.ولهذا السبب فان المبدعين الذين يتحدثون اللغات الأوروبية الرئيسة , الانجليزية والفرنسية والألمانية والاسبانية كلغات أساسية (ألسنة أمهات) يكونون أكثر حظا من غيرهم ممن يكتبون بغير تلك اللغات. والسياسة نفسها ليست بعيدة عن هذا المضمار الذى لا ينبغى أن يخضع لعاتيات رياحها . فتهمة العداء للسامية مثلا تكون حاضرة عند منح الجائزة أو الترشح لنيلها. وقد ذكر الدبلوماسى الشاعر خالد فتح الرحمن لأديبنا الراحل الطيب صالح فى لقاء جمعهما على الفضائية السودانية قبل أعوام مسألة ترشحه لنيل جائزة نوبل للاداب وعما اذا كانت مواقفه المؤيدة للحق العربى فى فلسطين قد تحجب عنه تلك الجائزة التى يستحقها فأجاب ببساطة بما معناه ان كان ثمنها هو التنكر للحق العربى فى فلسطين فلتذهب ” فى ستين داهية!” حسب عبارته.
قليلون هم أولئك الذين نالوها من خارج دائرة اللغات الأوروبية منهم الروائى العربى نجيب محفوظ. وفى افريقيا نالها النيجيرى ” وول سوينكا” وهو يكتب بالانجليزية.
وقد رشح للجائزة لهذا العام الكينى ” ناقوجى وا ثيونقو” وهو من طراز من تساءلت قبل أعوام قلائل عند وجودهم فى العالم الثالث يحملون أوجاعه وشكاياته للانسانية فى مقالة بعنوان ” مثقفو العالم الثالث وين….وين؟!” وكنت أشير لكثيرين فى حقبة الحرب الباردة ينافحون ويصارعون ويحثون نظراءهم فى الغرب ليتخلصوا من نظرة الاستعلاء للشعوب الملونة ( غير الأوروبية البيضاء) الذين جمعهم الجاحظ فى صعيد واحد وأطلق عليهم لفظة ( السودان) . وقد احتج الطلاب غير البيض فيما أوردته صحيفة “التعليم العالى” الأمريكية المتخصصة فى نهاية ثمانينات القرن الماضى لأن جامعة( استاندفورد) المرموقة ( تحتل المرتبة الثانية بين الجامعات الأمريكية بعد هارفارد) على( كورس)مقرر على جميع طلاب الجامعة اجباريا يتناول عمالقة الفكر الغربى من لدن سقراط وأرسطو وافلاطون الى فلاسفة القرون المتأخرة فى القرن العشرين وليس بين أولئك ملون واحد. احتج الطلاب على قصر الاسهام فى تطور الفكر الانسانى على الغرب وحده وتجاهل حقيقة أن العديد من الحضارات فى وادى النيل والصين والشرق الأوسط والمايا فى أمريكا الوسطى جميعا قد أسهمت فيما بلغته الحضارة الانسانية المعاصرة. استجابت الجامعة فأضافت الى قائمة مفكريها بعض أفذاذ قلائل من أمثال غاندى والدكتور مارتن لوثر كينج جونير. وهوتحيز مقيت يغفل دور الديانات الكبرى التى ولدت فى الشرق الأوسط وشعت من هناك على أوروبا وما أرثته من قيم وما خلفته من آثار فلسفية وابداعية لا تنكر وقبل ذلك حضارات بابل وآشور وحضارات وادى النيل فى مصر والسودان وممالك زيمبابوى وحضارات الهند والسند وفارس. وقد انتقد الكينى الذى رشح للجائزة “ناقوجى” ذلك كله وطلب من كتاب افريقيا أن يحيو لغاتهم بابداعاتهم وأن يحجموا عن الكتابة باللغات الأوروبية والتى يمكن أن تترجم اليها تلك الأعمال لاحقا وصولا وتواصلا مع الملايين فى العالم. وانتقد بشدة المعايير الأوروبية فى قياسات التنمية وقال الوحيدون الذين يتعين أن يحددوا ما اذا كانت هناك تنمية أم لا هم ” أولئك البؤساء القابعون فى سفح الجبل لا أولئك الذين تمترسوا على قمته!” وقال ان الهم ينبغى أن يصوب الى كيفية دعم الضعفاء بالتعليم والصحة. وصور حال النخب الوطنية فى العالم الثالث فى روايته ” جمهورية أبوريا الحرة” والتى وصفها بأنها تحكم بواسطة دمية تحركها أصابع خارجية.
لم ينل بالطبع الرجل الجائزة فهو ممن يسبحون ضد التيارويطالبون بمساواة حقيقية على المستوى الانساني بالاعتراف بثقافات الآخرين فى العالم الثالث وأنه عالم قادر مثل ما فعل سابقا على الابداع والا بتكار تماما مثل الآخرين. وهذه معضلة حقيقية تواجه مثقفى العالم الثالث الذين اضطروا للعيش فى الغرب. فهم اما أن يتمثلوا ثفافته تماما عوضا عن أن يعملوا على تغيير نظرته السالبة الى عالمهم ويصبحوا بسحناتهم ولكناتهم شهداء زور على نفى تهمة مركزيته العرقية أو أن يصبحوا فى حكم المخبرين من حيث لا يشعرون أدلاء على مواطن الضعف فى مجتمعاتهم أو أن يرضوا بمقام الصوفى المعذب عاجزين عن الفعل قانعين بما تتيحه فرص العيش هناك وكفى دون أن يفقدوا ضمائرهم الحية ويقينهم بوحدة الجنس البشرى وقدرة شعوبه المختلفة فى كل مكان على الابداع والاختراع متى ما توفرت الظروف لذلك. وهكذا ذهبت الجائزة الى البيروفى ماريو فارقاس ليوسا وهورغم أنه منسوب الى العالم الثالث الا أن لغته هى الاسبانية , احدى اللغات الأوروبية كما أنه أقرب لطروحات المحافظين فى الغرب.
ويبقى القول ان السبيل الوحيد لفرض احترام العالم لابداعات العالم الثالث أن تتداعى جامعاته ومؤسساته الفكرية والثقافية للتأسيس لجائزة مماثلة تشجع ابداعات أبنائه وبناته تؤكد بها انسانية منسوبيه وتسعى عبرها للرقى بهم واخراجهم من دوائر الفاقة والفقر والمسغبة.

تعليقات الفيسبوك