تجوال فى منازل الظعائن مع الدكتور السفير الكباشى

حبسنى عذر قاهر حزين تمثل فى وفاة ابنة شقيقتى الشابة الأستاذة هدى عبد الله عبد الرحيم رحمها الله رحمة واسعة ,عن شرف التقديم مع أفاضل من الأساتذة تخيرهم السفير الدكتور إبراهيم البشير الكباشى لتقديم سفره القيم” منازل الظعائن: تصاريف القدر فى رحلة السنين من بادية الكبابيش إلى أربع قارات فى العالم”. والكتاب يندرج فى أدب السير الذاتية والتراجم وهو آية من آيات الكتابة فى التشويق والمؤانسة. وقد أحسن صديقنا السفير خالد موسى فى استعراضه والحث على قراءته بما لا يحتاج لإضافة وبما أغنانى عن إيراد ما كنت قد أعددته من نقاط للعرض قولاً على السامعين . لكنى آثرت لكلفى بالكتاب ,أن أدون بعض إنطباعات عجلى عنه لما وجدت فيه من جهد غطى مناح فى الحياة عديدة إذ تجد فيه الطرفة والقصيد والعلم السهل الميسور وذاك الغليظ العويص الذى لا تقتحمه العامة , كيف لا والمنازل تسعة عشر هى بمثابة الفصول تحكى عن مراحل حياة الكاتب وتنقلاته فى الزمان بين المهام الجسام والأمكنة التى تنهك النفاثات الطيّارة محركاتها عبر البحار والمحيطات لبلوغها . بالإضافة إلى فصلين فى الدبلوماسية والأجندة النشطة على المسرح الدبلوماسى المعاصر ضمتها 279 صفحة من القطع الكبير ابتدرها الكاتب بمقدمة عرف فيها نفسه من أين أتى اختار لها عنوانا موحياً (من اين أتيت- أمشاج مزركشة).
انطلق صاحبنا السفير من بادية فرطها قطار الزمن, دعنا نقول, فى القرن العاشر الميلادى بدأ فيها يافعاً برعاية العجول بحثاً عن كلئها ومائها وترويضها وحبسها حتى حين عن الرضاعة مخافة ,إن لم يفعل, ألا تدع للعائلة ما يسد الرمق ويطفىء غالة الجوع من لبن للغداء والعشاء معاً. والدربة على الإنضباط لم تزل غاية لا تدرك فى بلدنا هذا. تلك البادية لم تكن ترى الطائرة إلا على هيئة نجم يسبح فى الفضاء كسائر النجوم فى هدأة الليل البهيم ولم يشق غمارها قطار ولم يعرف الناس فيها مصابيح تستمد الضياء من الكهرباء ولم يدر بخلد الناس هناك أن مواطناً روسياً يدعى (قاقرين) قد دار دورة كاملة حول الأرض من الفضاء الخارجى, ذاك البطل الذى منح زميلنا السفير الدكتور الكابتن على حيدر حاج الصديق وشقيقه جعفراً لقبيهما! ولم يكن والحال كذلك ليصدقوا, أهل تلك البادية أعنى, أن (جون قلين) ورفاقه قد حطوا على سطح القمر. ثم تقود الأقدار السفير الدكتور الكباشى إلى منقطع التراب وأقصى مبلغ السفن فى وصف الجاحظ للبخيل خالد القسرى يوصى ابنه وهو على فراش الموت بالحرص على ميراث أبيه فى اللؤم والبخل والتقتير على النفس وعلى الآخرين تقديساً للدنانير والدراهم!
شط به النوى إلى كاليفورنيا لمجاورة , للمفارقة , ( سيلكون فالى) موطن أرفع مقام وصلت إليه الإنسانية فى تقانات الإتصال.ومن ذلك الصقع الوادع فى بداوته انتقل إلى بندر العاصمة وهو صبى فى المرحلة المتوسطة. استبدت به دهشة مزهلة فلم يجد قرينة شبه بين بادية الكبابيش وبين حى العرضة فى أمدرمان .قال ” ليس ذلك فقط فى وجود الماء وتوفره فى حوائط المنازل وبين يدى من يطلبه ولكن ايضاً فى وجود الكهرباء والخبز والفاكهة .. تلك كانت المرة الأولى التى اشاهد فيها الكهرباء والنيل والتفاح والسمك.” ثم يقول ” ذلك عالم قرأت عنه فى كتب المطالعة والجغرافيا . كان شيئا يماثل منشورات الخيال العلمى هذه الأيام”.إنتقال حاد من القرن العاشر إلى ضحضاح القرن العشرين, أقول ضحضاح فالرجل لم ينتقل بعد إلى عالم هو الدهشة بعينها , أمريكا التى رأى!
عن أمشاجه المزركشة يقول فى صفحة 18 ” إن من أقدار الله فى تشكيل أسرتنا أنها نسيج مزركش من أمشاج عديدة مزركشة الألوان, فجدنا الأول الشيخ إبراهيم الكباشى يختلط في نسبه العركيون من ناحية الأم. والجعليون من ناحية الأب. وتزوج جدنا الشيخ إبراهيم الكباشى فى طول حياته من ثمانية من جداتنا المشهورات ينحدرن من غالب السودان الوسط.” قال: من قبائل الجعليين والبطحانيين والمحس والسروراب ومنهن ماريا بنت مكادة الحبشية جدة الشيخ الأمين. ولعل أهل التصوف قد ساهموا بذلك فى صهر الأعراق عبر هذه المصاهرات والتخفيف من حدة العصبية القبلية كالذى فعله الإمام المهدى كذلك.
وصلة الكاتب بالكبابيش صلة دم ومصاهرة فأمه فى الحسبة , كما يقولون كباشية ككثيرين من سكان قرية الكباشى . بدأت صلة تلمذة على الشيخ إبراهيم الكباشى وخلفائه وانتهت بمصاهرات دعمت أخوة الطريق بوشائج الدم والقرابة. ويبدو أن قبيلة الكبابيش وهى من كبرى القبائل قد تكونت من أمشاج شتى فقد ذكر فى حقها ” قليل – ربما من قبائل السودان – يتماثل مع الأمشاج المتداخلة التى تكون المجتمع الكباشى. هذه قبيلة قوامها أكثر من خمسين فرعاً تألفت عبر القرون فى كيان واحد فمنهم المنتمى نسباً للدواليب والركابية كالنوراب عموماً ومنهم من يلتقى بالشايقية والجعليين والجموعية…”
زال عجبى عند قراءة ذلك من سبب وجود العديد من بطون هذه القبيلة فى الولاية الشمالية. فلعل صلة القرابة يسرت ذلك حتى أصبحوا اليوم جزءا لا يتجزأ من نسيجها الإجتماعى. قال فى ذلك :” فغالب الروايات تشير إلى أن الكبابيش عاشوا دهرا من حياتهم فى فضاء العفاض حيث كانت دنقلا الحاضرة الإدارية لسلطة ذلك الزمان”.
وحول الحياة فى البادية استعار بالقصيد ليصور تلك الحياة العجيبة التى لا يدرك كنها إلا من عاشها :
لما علمت أن القوم قد رحلوا وراهب الدير بالناقوس مشتغل
شبكت عشرى على رأسى وقلت له يا راهب الدير هل مرت بك الإبل
فحن لى وبكى .. رق لى ورثى وقال لى يا فتى ضاقت بك الحيل
إن الخيام التى قد جئت تطلبهم بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
لكن سرعان ما أخرجته واقعية عنترة من دائرة الأحزان إلى سوح التأسى, هل نقول ما اكتسب من( براقمتية )الأمريكان:
دع ما مضى لك من الزمان الأول وعلى الحقيقة إن عزمت فعول
يميز هذه السيرة الذاتية عن غيرها صدقها وواقعيتها فالفتى البدوى الذى كان يعيش فى بيت من الشعر ينتقل كل حين إلى غيره يلتمس مظان العشب والماء ويرعى العجول وهو فى الثامنة ووجباته الثلاث من اللبن وطحين الذرة أو الدخن قد صار سفيرا يشار إليه بالبنان يجوب قارات المعمورة فى مليزيا, وفى موسكو وجوار البيت العتيق فى مكة المكرمة بعد أن مكث سنوات عدة فى أمريكا لا يدير الظهر لتلك الحياة البسيطة القاسية ولا يتنكر لها بل يحن إليها وتلك أصالة ورجولة تحمد للرجل. أما عجم ذلك عوده وسدد رميته ؟ اللهم إنى أشهد أنه قد فعل . فقوة العزيمة والمثابرة والصبر على الشدائد وصولاً إلى الغايات من خصال السفير اللازمة. أقرأ ما يلى فى وصف طفولته فى البادية:
” كنت فى سن دون الثامنة أو التاسعة أحد من يوكل إليهم ترحيل العجول. وكم من صارف كان يلهينى أثناء مسيرة الرحيل عن متابعة الركب, كأرنب يظهر أمامى يغرينى بمطاردته أو نبتة صغيرة من شجر (المعراب) تغرينى بحفرها لمضغ جذعها المغروس فى باطن الأرض وهو جزء حلو سكرى المذاق يضاهى مذاق قصب السكر. أو أنشغل بتدقيق النظر فى سيقان شجر “القفل” و “المعراب” لعلى أحظى بخلية نحل أكسرها بفأسى الصغير لآكل عسلها.” وفى احدى المرات فعلت مغريات إنشغال الفتى اليافع بما ذكر فوجد نفسه قد تخلف عن الركب المرتحل وبحث عن آثارهم فى كل الأنحاء فلم يجد لهم أثراً فنام تحت شجرة كما يفعل الأطفال فى سنه ولما استيقظ لم يجد عجوله!
بقية قصص السفير إبراهيم فى البادية تحاكى قصص ألف ليلة وليلة من التشويق ومما أكتنفها من صعوبات وشدائد تجعلك تكاد لا تصدق وقوعها فى النصف الثانى من القرن العشرين. ثم قصة الإلتحاق بالمدرسة والعزم على التحول من المساق الحرفى الصناعى إلى الأكاديمى الذى انتهى به لينال التحصيل الرفيع على رموز من دهاقنة علماء السياسة فى الولايات المتحدة. إنها قصة حقيقية تشبه الأساطير.
ولا بد لى من الإشارة إلى اعترافات أدلى بها كما لوكانت تخصه وحده .والحق أنها تخص جيلنا هذا بأكمله وهى اعترافات محفزة للمعالجة فى وسائل وغايات التعليم فى هذا البلد . يقول مقارنا بين التعليم الذى تحصل عليه فى الولايات المتحدة بالتعليم الذى تلقاه وتلقيناه فى مدارسنا فى السودان” كان نمط الدراسة النقدية الملتزمة بصوارم التوليد المنطقى للخلاصات الفكرية ضعيفاً فى تكوينى الذى تلقيته فى مقتبل الشباب فى المراحل السابقة. بل كان كل ما تلقيته من دراسات يقوم على قاعدة “التلقى للتنفيذ” وليس على أساس “التلقى للتفكير” والتدبر وتحليل المفاهيم. هذه الأخيرة هى التى تلقيتها –كما سأبين لاحقاً- فى برامج الماجستير والدكتوراة فى أمريكا”.
ومن طرائف ما ذكر قصة الشيخ أحمد زكى الواعظ المصرى الذى استوقفه شرطى المرور فى مخالفة مرورية بمدينة شيكاقو : سأله ما عملك؟ قال أنا واعظ. قال له الشرطى : أتمنى أن يكون وعظك أفضل من قيادتك للسيارة! وحدث لصديق لنا من لبنان ذات الشئ فى شيكاقو إذ فاجأ المخاض زوجته فانطلق بها إلى المستشفى ومن فرط صراخها تخطى المخْرَج من الطريق السيار . ولما كان المخرج الذى يليه بعيداً عاد يقود السيارة للخلف إلى حيث المخْرَج المفضى لوجهته فى ثالث أكبر مدينة فى أمريكا من حيث السكان والسعة , فاندهش الشرطى الذى أوقفه لصنيعه المفضى لهلاكه وهلاك غيره من الناس فصاح فيه مزمجرا فيه : ماذا تفعل بحق السماء؟ أمجنون أنت ؟ فلما رأى ما هم فيه رق له لكنه طلب منه طلبا عجيباً : قل لى إنك لم تكن تقود السيارة إلى الخلف فى الطريق السيار وفى شيكاقو .. قل! قالها صاحبنا طبعاً ليدرك المستشفى!
لقد كان التعليم مطية لتحقيق الذات وسلماً للصعود الإجتماعى والإقتصادى مبذول للكافة من ابناء السودان لا تعيقه طبقة ولا جاه , أنت وسعيك فقط إن كنت تقيم فى أحياء المدن الراقية أو فى بادية الكبابيش. ذلك قبل أن يعرف الناس هذه الدروس الخصوصية التى لا قبل للفقراء بها. نرجو النظر فى ذلك بعين التخطيط السليم. وللبدوى النبيل والدكتور السفير إبراهيم البشير الكباشى التهنئة على هذه السيرة الذاتية المميزة والمحفزة للأجيال على قهر الصعاب وتجاوز العقبات بالصبر والبذل والإجتهاد.

تعليقات الفيسبوك