تأملات في عوالم الأحلام!

قال: كنا ، أعني شخصي الضعيف عبد الإله نوري وصديقي اللدود عبدو (المصري) كما يحلو لنا أن نناديه في عصاري مدينة كوبنهاجن الدافئة في الصيف، نلتقي يومياً في احدي المقاهي القديمة نحتسي ما شاء الله لنا من أقداح القهوة التركية نزجي بذلك الصنيع فراغ خريف شيخوختنا البائسة ،بالحكايات القديمة التي جمعتنا معاً في قريتنا النائية في السودان ذلك البلد الذي تركناه منذ عقود خلت وأدرنا له ظهورنا فلم نعد إليه إلا لماماً، وتزوجنا من دنماركيات وخلفنا خلفة لا تعرف للسودان لغة ولا عادات . وعندما شبوا عن الطوق وقويت سواعدهم، بما سكبنا عليها من عرقنا وشقاء شبابنا الغابر، تفرقوا شذر مذر وبتنا لا نسمع منهم سوي تمنيات لفظية يرسلونها إلينا صوتاً عبر مكالمات مقتضبة أو في بطاقات مزخرفة الألوان لا تجد وقعاً في نفوسنا سوي الحسرات لأننا من تكرارها البغيض كل عام نشك في أنهم يعنونها ونوقن أنهم يحرصون عليها جرياً علي عادات وثقافة أقرانهم من شباب تلك البلاد التي انسحب بردها القارس في الشتاء علي المشاعر والأحاسيس . نقول ذلك ونحمد الله من سويداء قلوبنا أن لم يكل شيخوختنا وسأم ما تبقي من أيامنا الفانية علي ظهر البسيطة عليهم وعلي سخاء ليس لهم فيه نصيب، فهذه البلاد قد أوفت وتصدقت كذلك علينا لقاء ما اقتطعته إبان صبانا وقوتنا فردته علينا عند حاجتنا هذه ، ببرامجها الاجتماعية الناجزة.
وصديقي عبدو شخصية متفردة تبدو متناقضة في بداية التعرف عليها فهو عبوس ضجر متجهم ومدخن شره سريع الانفعال متحفز دوما للمشاكسة والجدال، ومع ذلك يحمل في صدره قلب طفل شديد البراءة، ومشاعر إنسان عظيم النبل، مهموم بالخير تزعجه الأخبار الحزينة والتي يتأذى منها كل إنسان سوي لكن سواد الناس يضعونها حيث ينبغي أن توضع في سياق واقع الحياة البشرية الخشن، التي يصطرع علي حلبتها الخير والشر والجمال والقبح والقاتل الشرير وذاك الذي يرفد الحياة بالحب والإحسان والإيثار . ذلك السوي من الناس يستصحب فعلة قابيل بأخيه هابيل وبنظائر لها في التاريخ الإنساني من الخيانات والجحود والنكران ،فيرد ذلك إلي ما قد يخاله مرهف الحس من الناس برودة في المشاعر وبلادة في الاحساس وما هي كذلك لكنها جرعة من الواقعية تعين علي الصمود و العيش في واقع لا يقوي علي إقامة مدينة فاضلة تشع بالإشراق هناك علي قمة التل وجدت فقط عبر التأريخ في مخيلات فلاسفة وفنانين وشعراء ومصلحين. فالشر يقع كل يوم شئنا أم أبينا. يأتيني عبدو مكتئباً ليقص عليّ قصة طفل صغير في بنغلادش أتي النهر ليغترف غرفة من ماء يطفئ بها ظمأه فالتقمه التمساح وهو وحيد زوجين انتظرا قدومه الميمون عشرين عاماً وعن حسناء اختطفها أشرار في بنما وباعوها لدوائر الدعارة الدولية في أوروبا ولم يعرف لها أثر وعن شبيهات هذه القصص التي تقع منذ أن ظهر آدم علي ظهر الأرض ، ويشتاط غضباً إن استشعر مني برودة في استقبال قصصه المأساوية وربما اتهمني ببلادة الشعور !
كانت قصته أمس الأول ، عن حلم عجز عن تفسيره قصه عليّ قائلاً: رأيتني في منامي البارحة وأنا علي دراجة نارية انطلق بها من الخرطوم إلي قريتنا في الشمال التي تعلم أنها تبعد نحو خمسمائة كيلومتراً أشق بها عباب القيزان واتجاوز بها الآكام في تلك الصحراء الرهيبة لكني لم أجد في المنام ذلك كله فوجدتني في القرية طراً ! ولدهشتي لم يحفل بوصولي أحد بل رفعت يدي فقط محيياً: ( عوافي يا جماعة) فردوا التحية بمثلها وهم يزاولون أعمالهم كأني كنت معهم البارحة! العجيب أنني كنت أملك عجلة هوائية في شبابي وأيام الطلب أما العجلة التي تنطلق بمحرك لا أعرف قيادتها أصلاً ، والأهم من ذلك كيف تقطع هذه المسافة بدراجة أيا كانت ثم يقتصرها المنام فأجد نفسي في نهاية الرحلة وكأني قد قطعت مسافة من بيتي في القرية إلي بيت آخر؟ قلت برّح بك الشوق إلي أهلك في القرية فحقق لك المنام ذلك مختصراً التفاصيل ومشقة الأسفار هكذا تواً إلي حيث تريد ، وهكذا الأحلام ألا تري أنك إذا رسمت صورة زاهية لواقع بئيس قرعك السامع بقوله : لعلك تجد ذلك في عالم الأحلام ؟! ثم إن الناس باتوا يقطعون هذه المسافة التي كانت تستغرق أياما من الرهق والعطش وربما الضياع في بطن الصحراء في ساعات فانتفي عندهم معني السفر فأصبح تعبيرهم (مشيت البلد ) أو جئت منها دون أن يرفع السامع حاجب الدهشة. استرسل وكأن قولي لم يشف غليله: سارعت للقاء جدي محمود وقيل لي إنه يقضي سحابة يومه في سقيفة له من جرائد النخل الجافة وفي طرف العريشة التي لا يزالون يطلقون عليها اسمها النوبي القديم دون تغيير (الكَرِقه) . وعند مدخلها زير قناوي كبير كالذي كان في عربات القطار في درجاته الشعبية، الثالثة والرابعة المخصصة لصغار الموظفين والعمال وللفقراء (الغُبش ) أمثالنا ، تزين ربعه الأسفل حديقة من الطحالب الخضراء تغريك بالشرب منه وإذا تعجلت صاح بك جدي الضجِر ( يا ولد علق القرعة مكانها). قال: لدهشتي لم أجد تلك السقيفة بل وجدت جدي في صالة فاخرة كالمقصورة التي في ميادين الرياضة مزدانة ومكيفة وبها أثاث فاخر وقد ذهب عن جدي الضجر. إلتزمني جدي بحنان وفاضت عيناه وقال : “ياولدي الغربة دي لامتين!؟. وكانت السقيفة علي مرمي حجر من مجري النيل تطل عليه من عل. لم تعد كذلك فهي في ذات المكان إلا أن النيل هو الذي شرد وبدا لي كخيط رفيع من الفضة يتلألأ بعيدا هناك. قاطعته هنا قائلا : النيل كما هو في مكانه لكنك رأيته بعقلك الباطن المتوجس أصلاً من هذه السدود المقامة عليه كما كنت دائم الشكوى مشفقاً من بنائها عليه. قال وقد اتسعت عيناه من الدهشة ليس ذلك وحسب فقد وجدت هذا المقهى نفسه هناك ونساء بيضاوات يعتجرن قبعات في سوبر ماركت في قريتنا الصغيرة البسيطة التي ليس بينها وبين العمران الحديث من سبب حتي المدرسة فيها أقيمت من بناء صنع علي عجل من الطين وروث الأنعام و كذلك نقطة الغيار الطبية .ولضيق العيش وبؤس الحال هاجر جل أهل القرية للحواضر أملاً في عيش أرغد وفرص لتعليم البنين والبنات فلا تكاد تجد اليوم فيها مئة بيت. هل هذا أوان الخرف يا صديقي؟ أجد نفسي هذه الأيام في أوكلاند في نيوزيلاندا أحياناً لكنها تبدو وكأنها امتداد لمدينة كريمة وأحيانا أطير لكندا لأجد أقرباء لي لم يغادروا قريتنا قط. كيف تفسر ذلك؟
قلت: استشر سيقموند فرويد فقد قال إنها إشباع لرغائب ضن الواقع المعيش علينا بتحقيقها! قال لي دعني من تحليلات ذلك الرجل المهووس بالجنس والذي جعلة محوراً للنشاط الإنساني برمته ففشت في الناس بسبب ذلك الصور الإباحية والمجون وقامت هوليود ظناً أنها تعين علي إشباع الغرائز فتطيب الحياة بها وتزدهر لكن حدث عكس ذلك من النتائج، أفضل منه (يونق كار )الذي جعل الأحلام مناجاة مع النفس وتحقيقا للذات واستدراكاً علي الأخطاء ولم يستبعد عامل المعتقدات الغيبية فيها . ثم كيف تكون الرغبات ونحن تدهمنا في الأحلام الكوابيس المخيفة فنحمد الله عندما نجد أنفسنا في الفرش الوثيرة الدافئة في حرز أهالينا فأنا مثلا أعاني من (فوبيا) الشواهق فأجد نفسي في منامي بين طيات السحاب أسبح بأجنحة خضر مع جوارح الطير كما أني وكما تعلم أمقت الطيران والطيارات؟ وأحيانا أجد نفسي وأنا أسقط من قمة(إفرست) في هاوية أو من جرف شاهق في لجة المحيط في ظلمة ليل حالك في البحر المحيط الذي يخفيني تماماً كالشواهق، فأين الرغبات هنا؟ ثم اني أري أمورا في منامي فتتحقق بتفاصيلها الدقيقة في الغد أو بعد حين فأين الرغبات هناك؟ هؤلاء الفلاسفة الذين ظهروا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا مبهورين بحصاد الثورة الصناعية من المخترعات: آدم سميث، دارون، إميل دوركايم ، كارل ماركس وغيرهم ،كبتوا الشفيف من مشاعرهم الإنسانية فجعلوا المادة والمحسوس صخرة صلبة لرؤاهم تقوم عليها السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلوم النفس بل وبلغت الجرأة ببعضهم حد أن جعلوا رؤاهم حتماً مقضياً! قلت دون أن أفند جل ما قال: فما الذي تراه أنت في الأحلام؟ قال: إن الأحلام تؤكد قناعتي بأن الجوهر فينا هو الروح أو النفس وأنها تصبح حرة طليقة كلما غاب الجسد باحتياجاته ورغائبه في لجج النوم فتتحرك في الكون الفسيح، طليقة من كل قيد للزمان والمكان كأنها تحن لحياة خبرتها قبل ذلك أو لحياة الخلود التي تتمناها وتشتاق إليها. ألا تري كيف نطرب للأهازيج والأخيلة التي تسبح بلا أجنحة تهيم في المدي اللا- متناه كأننا كنا هناك؟! أشواق لطلاقة نحسها دون أن نعرف كنهها تحفزنا للبحث عنها والعمل على اللحاق بها. ولو أن فرويد تخلص من سكرة عصره بالمحسوس وأضاف إلي اشباع رغائب الجسد في المنام حاجة الروح للإشباع في الطلاقة والحرية لاقترب من حد الاعتدال في النظر و لكان لرؤيته حظ النظر كسائر الرؤي البشرية التي تراوح بين الجور والهداية. وعندما بلغ صاحبي هذا الحد من القول أحسست من سرده الجاد بصدق يقين عنده هذه المرة ولم أرد ما قال لهذيان كنت أظن أنه يعتريه عندما يستطرد في مثل هذه الأحاديث بهذه الحماسة دون توقف. كما أني قد أحسست بأني أجد في نفسي الذي يجده هو وقد حدث لي كالذي حكاه مرات عديدة دون أن أعيره اهتماماً لكني الآن أحار مثل حيرته ، حيرة سوف تستغرق ما تبقي من أعمارنا علي هذا الكوكب الذي سنغادره مثلما جئنا إليه بزاد قليل وعلم أقل!

تعليقات الفيسبوك