وصدح صداح حاذق فى أمسية من أماسى أمدرمان الحالمة , بغناء شجى مفعم بالآمال العراض التواقة لعالم أفضل و النيل العظيم يرقب المشهد والقمرالمضى يتراقص فوق صفحة مياهه العذبة ويبتسم وفى الاستماع كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر:
عندما أعذف يا قلبى الأناشيد القديمة
ويطل الفجر فى قلبى على أجنح غيمة
سأغنى.. سأغنى..
سأغنى آخر المقطع للأرض الحميمة
للظلال الزرق فى غابات كينيا والملايو
لرفاقى فى البلاد الآسيوية للملايو
ولباندونق الفتية…..
المغنى هو الفنان القامة عبد الكريم الكابلى والكلمات السنيات للشاعر المجيد تاج السر الحسن والزمان عام 1960 والمكان “شيخ المسارح” السودانية , المسرح القومى فى أمدرمان.
بعد ذلك بقليل من السنين نضج وجداننا الغض الى الحد الذىجعلنا نتجاوب مع تلكم المعانى النبيلة التواقة للتحرر من القهر والاستعمارفطارت أرواحنا شعاعا من الأبطال لا تخاف شيئا. قال الطرماح بن حكيم ( أو لعله قطرى بن الفجاءة) وهويحث نفسه التى تفجرت سلفا براكينا من الحماسة والبطولة على الثبات فى ساحات الوغى:
أقول وقد طارت شعاعا من الأبطال
ويحك لن تراعى
فانك ان سألت بقاء يوم على الأجل الذى لك لن تطاعى
فصبرا فى مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
كانت الأجواء من حولنا مضمخة برهج السنابك وغبار المعارك ضد الاستعمار فى كل بقاع العالم الثالث وكانت تسطع فى سماوات ذلك الزمان أسماء كالنجوم اللامعات: جومو كنياتا الرمح الملتهب , أحمد سوكارنو, أحمد سيكتورى, أحمد بن بيلا, كوامى نكروما, باتريس لوممبا وجمال عبد الناصر, تيتو, نهرو والأسقف مكاريوس.
وهكذا وجدت شعارات التحررالمعبرة عن حراك يناضل فى سبيلها على امتداد الكون الفسيح بتعدد ثقافاته ومشاربه, صدى وتجاوبا من جبلتنا كبشر. ولذات المعانى السامية النبيلة تجاوبنا ونحن صبية مع ثورة أكتوبر المجيدة فى عام 1964 والتى ينبغى النظر الى عظمتها ليس من مدخل التشكيك فى وطنية ضباط 17 نوفمبر ولا التحقير من منجزاتهم فى ميدان التنمية واجتهاداتهم فى ميدان السياسة التى جانب بعضها الصواب مثلما حالف بعضها الآخر حظ النجاح ,خاصة وأنهم لم يسطوا على الحكم انتزاعا من أحد وانما سلم اليهم من المدنيين طواعة, وانما من باب النظر الى أن حكمهم كان استثناءا للقاعدة المتوخاة فى الحكم الرشيد القائم على الشفافية واختيار الناس. وهو استثناء مهما حققت منجزاته من الخير العميم ورفاه العيش لا يقوم مقام القاعدة الذهبية التى تجعل الحكم قائما على احترام الكرامة الانسانية فى حرية الاختيار. وذلك شأن كل استثناء تفرضه ضرورات البقاء ومحطات الاستعداد لاستئناف الأوضاع الطبيعية الراشدة. ومن هنا تجئ قيمة العبارة البليغة المنسوبة للسيد المسيح: ” ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.” ولقد أصابنا بعض الذى أصاب الطرماح بن حكيم من الحماسة وتفجر الأبطال فى نفوسنا والشرطة تطاردنا فى أزقة حى الجامع الكبير بالقرب من منزل العمدة محمد سعيد وفى حى البحيرية وفى شارع سنكات فى القسم الأول قرب مدرسة البندر الأولية ونادى النيل الرياضى فى مدينة ودمدنى حيا مروجها البهية الحيا, ونحن يومئذ صبية فى المدرسة الوسطى نهتف بسقوط الحكم العسكرى. لقد خبرنا رهج السنابك وغبار المعارك فى استنشاق الغاز المسيل للدموع أو ( البمبان)!
وطربنا لفكرة التواصل الانسانى المتسام على الاقليم والمعتقد واللون والعرق مع اخواننا فى الانسانية. قال الصحابى الذى ارسل للمقوقس عظيم مصر حاثا على مثل هذا التواصل: ” فان لم يجمعنا اخاء الدين.. جمعتنا وحدة الخلق!” :
ولقد مدت لنا الأيدى الصديقة
صوت غاندى وصدى الهند العميقة
صوت طاغور المغنى
بجناحين من الشعر على رقة فنى
ونصل الآن الى السؤال الذى جعلناه عنوانا لهذه المقالة: بم تغنى طاغور؟
من هو فى البدء طاغور؟ هو ( رابندرناث طاغور) ولد فى مدينة تقع شمال مدينة كالكتا عاصمة منطقة البنغال والتى كانت عاصمة للهند فى 7 مارس عام 1861 وتوفى فى 7 أغسطس عام1941 وهو من أسرة ثرية من طبقة البراهمة وهى الطبقة الأعلى فى هرم النظام الهندوسى. وقد خضع فى طفولته لنظام صارم فى التربية اذ لم يكن مسموحا له ولا لأشقائه الكثر من مغادرة القصر الا للمدرسة كما كان مسموحا للخدم بمعاقبته اذ امتنع عن تناول الطعام بل وبغمس رأسه فى الماء اذا لزم الأمر. وكان طاغور محاطا فى أسرته بكوكبة من
الموهوبين اذ كان أحد اخوته فيلسوفا والآخر موسيقيا مبدعا بينما كانت زوجة أحد أشقائه روائية معروفة. أما هو فقد بدأ كتابة الشعر وهو فى الثامنة من العمر وكان ملزما بتلاوة أشعاره على أفراد الأسرة وقد أرسل لتلقى العلم فى كلية (برايتون) فى بريطانيا لدراسة القانون فلم يرق له العيش هناك فعاد الى الهند دون أن يكمل دراسته وكان شأنه فى ذلك شأن توفيق الحكيم فى باريس فقد وسع معارفه بالأدب الانجليزى وأتقن الانجليزية تماما وعاد لبلده متفننا فى كتابة الشعر ونظم الأغنيات وكتابة المسرحيات التى شارك فى تمثيل بعض شخصياتها كما كان فيلسوفا. ومن حكمه اشارته الى الغاية من التعليم النظامى فى كونه محض مدخل الى عوالم المعرفة لا مستودع لها. وفى ذلك قال :
” ان دور التعليم ليس توضيح الأشياء بل هو الطرق على أبواب العقل. ولو أن صبيا سئل عما تعلمه من ذلك الطرق لأجاب اجابة سخيفة لأن ما وقر فى وجدانه من ذلك الطرق أكبر من أن يعبر عنه بكلمات. ان الذين يعولون فى تحصيل العلم على الحصيلة الناتجة من ذلك عبر الامتحانت فى الجامعات ,يضلون الطريق الى ما ذهبنا اليه.”
وفى ديسمبر من عام 1913 نال طاغور جائزة نوبل للآداب كاول آسيوى ينالها.وفى عام 1919 منحته بريطانيا لقب (سير) الا أنه رفضه فى اباء وأعاده احتجاجا على قمع الحكم الاستعمارى لثورة اندلعت ضده فى البنغال. وانخرط فى الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار مع المهاتما غاندى الذى أصبح صديقا حميما له.وقد وصفه مرة فيما أورده الدكتور صهيب عالم الأستاذ بالجامعة الملية فى نيودلهى:
” انه منارة الهند ولعله قد يكون منارة الشرق كله , منارة تشع بنور المحبة وتعيد الى الانسان المشرد فى متاهات المادية والالحاد والى الانسان الذى افترسته الحروب وصنوف الطغيان, أحلامه الحلوة وأمنه واستقراره وتعيد اليه الأمل والايمان والسلام والثقة بمستقبل أفضل.”
وأورد صهيب عالم أيضا عن طاغور أنه : ” قد تغنى بالحب فى تجلياته الانسانية والالهية ورفع من شأن المرأة كائنا جميلا يهب السعادة والبهجة للأخيارالمحبين وقد أسبغ على صورتها جاذبية الطبيعة فى سحرها وغموضها وقوتها.” وفى ديوانه ” الهلال تغنى بالطفولة:
يا أماه
ان سكان الغيوم يدعوننى للذهاب معهم
سنلعب ونلهو من الصباح حتى المساء
سنلهو مع الفجر الذهبى
ونلهو مع القمر الفضى
وفى كتاب (سوبريكويت غوروديف) وردت مختارات من شعره الجميل نحاول نقل احداها عن السلام وكبح جماح الجبروت من أجل ارساء دعائمه لقراء العربية:
أيتها الشجرة الصامتة
انك فى صمتك الأصيل تلجمين جماح الشجاعة المتناهية بفضيلة الصبر
وبذلك تبدين قوة خلاقة فى هيئتها المسالمة
وهكذا فاننا نهرع الى ظلك لنتعلم فن السلام
وبسماع الكلمة الصامتة الخافضة للقلق , نخلد الى الراحة
وفى أحضان ظلك الأزرق الساكن المستقر تسمو أرواحنا
بمذاق الحياة الثرية.. الحياة الحقة الوفية للأرض
الحياة التى لا يسع انتصاراتها مكان!
تبقى الاشارة الى أن طاغورقد زار مصر عام 1926 ونزل ضيفا على أمير الشعراء أحمد شوقى فى داره المطلة على النيل فى الجيزة والمسماة ب “كرمة بن هانئ”. وقد احتفى به رجال الأدب والفكر فى مصر أمثال طه حسين والرافعى والمازنى وقال عنه العقاد:
“لقد سمعنا فلسفة الهند أو فلسفة طاغور من فمه ولا تزال فى الآذان نغمة من ذلك الصوت الشجي العذب وجرس من ذلك اللفظ الواضح الرخيم , اذ سمعنا خلاصة ال” سادهانا” ينطق بها صاحبها كأنما هو صوت الأرواح تتكلم أو ناجى الوحى الهندى تتلقاه الأسماع من وراء المحاريب.”