بعض إضاءات عن المزروعى الذى رحل!

علمت بوفاة البروفسور على المزروعى من تعليق للصحافى الشاب الذى يراسل النيويورك تايم إسماعيل كمال كشكش من الخرطوم ونيروبى على حسابه فى الفيسبوك ناعياً على من أسماهم بالمثقفين السودانيين عدم التطرق لفقدان مثقف ضخم فى قامة على مزروعى شرف القارة الإفريقية والأفارقة حيث ما كانوا فى أوطانهم وفى الشتات البعيد. واستثنى إسماعيل الفاضلين الدكتور عبد الوهاب الأفندى والدكتور عبد الله على إبراهيم من قائمة أولئك بما سطراه فى مناقب الفقيد فسارعت مطالعاً ماجادت به معرفتهما العميقة لميراث الرجل الثر. ولأصرف نفسى عن مجرد التفكير فى الكتابة فى الموضوع رددت فى نفسى مقالة عنترة بن شداد العبسى صاحب الذهبية سيما وهو كالمزروعى نتاج القارة السمراء والجزيرة القاحلة موطن رسالات السماء معاً : هل غادر الشعراء من متردم؟ والراجح عند القاضى الزوزنى شارح المعلقات أن مواطننا عنترة يتجمل تواضعاً . قال المتردم : الموضع الذى يسترقع ويستصلح لما اعتراه من الوهن والوهى. وتحرير المعنى: لم يترك الشعراء شيئاً يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغوه . وعنترة هو هذا الرحيق الذى ذابت فيه جزيرة العرب فى إفريقيا حاله حال المزروعى الذى أخذ عصاه منذ حين ثم ارتحل. قلت جزى الله العالمين النحريرين فقد أجادا بما فيه الكفاية فلم يتركا إستزادة لمستزيد وتشقيق القول بلا طائل يكون كالإجترار وهو خليق بالسوائم لا بحفدة آدم المكرمين.

لكنى تذكرت رسالة صغيرة ضمن مقتنياتى من 34 صفحة خطها يراع الراحل رحمه الله أخريات عقد الثمانينيات من القرن المنصرف فى شأن رواية سلمان رشدى “آيات شيطانية”، يرد فيها ببصيرة نافذة على الحملة الغربية التى إستنكرت غضبة المسلمين من تلك الرواية جعل عنوانها: “آيات شيطانية أم رواية شيطانية… الأزمة الأخلاقية بشأن مسألة رشدى.” فعاودتنا بعض رغبة فى إستئناف الكتابة سبقها سأم منها وقنوط من جدواها وشكوك فى إحتفال الناس بها. والذى حفزنى للكتابة عن تلك الرسالة ما حوت من مهارة فى حوار الغرب بمنطقه ومن جنس ثقافته ومنطلقات حضارته والشئ الآخر أيضاً ما اعتمل فى نفس مثقف حقيقى كالمزروعى من تناوش أحياناً وتنازع وتردد فى الدواخل بين إرثين: إرث نشأ فيه وترعرع فى أكنافه , وإرث آخر هو ثقافة عصر نعيشه لا فكاك منها نتأرجح فيها بين الإندماج التام الذى نفقد به إحترامنا لأنفسنا كبشر مكرم وبين إعتزال يزيدنا وبالاً وتخلفاً ويجعلنا فرائس سهلة ومن جراء ذلك أيضاً نفقد إنسانيتنا. وقدرنا إذن هو الحفاظ على إنسانيتنا بالمزاوجة الذكية بين التراثين ومع ذلك يبقى فى النفس أشياء عديدة من حتى .

سرد المزروعى فى البداية طرفاً من الجدال الذى أحدثته الرواية فى الغرب وبين المسلمين قبل أن يعبّر عن ما اعتمل فى صدره فى شأن ذلك الجدال. قال إن بداية تفجر البركان إزاء تلك الرواية بدأ فى مدينة (برادفورد) فى بريطانيا عندما اعتبر مسلمو تلك المدينة الرواية تجديفاً فى حق الإسلام فقاموا بإحراق عدد من نسخ الرواية على سبيل الرمز تعبيراً عن رفضهم لها. ثم شهد جدالاً غاضباً فى لاهور بباكستان إزاء الرواية. قال من بين ما أثار دهشتى مضاهاة عجيبة للرواية بلوحة خيالية رسمتها خيالاتهم الغاضبة تقول إن رشدى كمن كتب قصيدة عصماء تصور بدقة أعضاء أبويه التناسلية. وأنه ذهب إلى السوق فألقى تلك القصيدة فى جمع من السوقة والغرباء, طربوا له ضاحكين فرحين مستحسنين قصيدته ثم دسوا فى يديه الأموال لقاء الفكاهة والإساءة التى أضفاها على عورات أبويه!” قال ثم جاءت فتوى الخمينى بإهدار دم الرجل مع جائزة للقاتل تجاوزت الخمسة ملايين دولار. وانتفضت بريطانيا التى يحمل رشدى جنسيتها غاضبة ومن ورائها الدول الأوربية ثم عبر رئيس الولايات المتحدة عن إمتعاضه ورفضه لفتوى الخمينى تضامناً مع شركائه الأوربيين .

قال المزروعى : بدا لى لبرهة أن الأمر نوع من حوار الطرشان بين الغرب والإسلام. الغرب غاضب ومحتار من عمق ردة فعل المسلمين إزاء الرواية، والمسلمون فى حيرة غاضبة من قلة حساسية الغرب إلى إساءة عظيمة وجهت لمعتقداتهم المقدسة. قال: قلت هل هذه معضلة أخرى من معضلات إختلاف الثقافات؟

وقبل أن ألقى الضؤ على ما اختلج فى صدره من مشاعر متناقضة لا شك تعترى المثقف الطارئ على الثقافة الغربية من ثقافة شاملة كالثقافة الإسلامية لها مقالة فى كل شأن من شؤون الحياة, أود أن أشير فقط إلى أن على المزروعى ينحدر آباؤه المزاريع الذين حكموا ممباسة فى شرق كينيا لعقود وكان آخر أمرائهم عليها الأمير خميس بن سالم المزروعى عام 1836 قبل أن يستولى عليها العمانيون إنطلاقاً من زنجبار. ( وكانت يومية الشرق الأوسط قد نشرت سلسلة قيمة فى الثمانينيات لأمير إمارة الشارقة المثقف الدكتور سلطان القاسمى عن المزاريع فى شرق إفريقيا لعلها طبعت كتاباً بعد ذلك). والمزاريع بطن من قبيلة تميم العربية وأمه إفريقية قحة كما قال فى مسلسله الأشهر(الأفارقة). فهو إذن مزيج عرق عربى/ إفريقى نبت ونما فى كنف الثقافة الإسلامية المعدلة بجرعات من الثقافة الغربية فى نسختها البريطانية جاء بها الإستعمار البريطانى ثم تكلست بدراساته العالية فى الولايات المتحدة وإقامته الطويلة فيها حتى وافته المنية. هذه المشارب المتباينة قمين بها أن تخلق قوى متجازبة ومتعارضة في دواخل من اجتمعت فيه.

قال فى هذا الصدد: فى شأن روايات رشدى “الآيات الشيطانية” إصطرعت فى دواخلى مشاعر متناقضة. لقد شعرت بنوع من التمزق بين كونى مؤمن بعقيدة الإسلام وبين إيمانى الراسخ بالمجتمع الحر المفتوح. وبين كونى كاتب وعابد متدين وبين إيمانى بالشريعة مع رفضى التام لعقوبة الإعدام بكل أشكالها فى العصر الحديث. ولئن كنت مخطئاً فى رفضى لعقوبة الموت فى القرن العشرين فإنى أرجو من الله المغفرة ومن المجتمع والأمة التسامح إزاء خطيئتى هذه. ( هذه الجزئية سببها رفضه لفتوى الخمينى الداعية لقتل سلمان رشدى وأنه يطلب بديلاً لها إمطار الرجل باللعنات!). لدي كذلك تحفظات قوية على الرقابة على المطبوعات (السنسرة) حيث وقعت شخصياً ضحية لذلك فى بريطانيا وفى أمريكا وفى يوغندا وفى بلدى كينيا.( أورد هنا مثالاً للسنسرة ما فعلته القناة العمومية الأمريكية عندما قدم لمسلسله ( الأفارقة). قال قلت إن الأثر السامى على إفريقيا يتمثل فى محمد وعيسى – يشير للإسلام والمسيحية وكون النبى محمد وعيسى عليهما السلام من سلالة سام بن نوح- وآخر أنبياء يهود كارل ماركس! فحذفت القناة هذا المقطع برمته خوفاً من غضبة الجالية اليهودية فى أمريكا بينما شهده الناس وسمعوه فى نسخة بببى سى البريطانية!) وعليه يتعين علىّ أن أجادل نفسى التى بين جنبى عما إذا كان منع تداول رواية رشدى أكثر مشروعية مما تعرضت له أنا من السنسرة. هذه الرسالة التى أكتبها رد على بعض التساؤلات الواردة وفوق ذلك لتأكيد الحاجة لترجمة القيم بين الحضارات لمزيد من التفاهم المفضى للتسامح: الحاجة لجعل بعض عواطف ومشاعر المسلمين مفهومة لدى الغرب.

ولضيق المجال فى إضاءات مستحقة لقراءات الرجل فى سؤ الفهم المتبادل بين الحضارتين الإسلامية والغربية سأكتفى بكبسولات صغيرة أرجو ان تطيب النفس ويصفو المزاج لحلقة أو اثنتين إن نسأل المولى فى أعمارنا المتناقصة:

بدا مرافعته بالحديث عن مفهوم الخيانة العظمى وفرق بين المفهوم السياسى والثقافى مستعيناً بدساتير الدول الغربية. فأورد أن الغرب يعرّف الخيانة العظمى التى عقوبتها الموت بأنها خيانة الدولة بالتخابر مع أخرى او بإعانة العدو على النيل منها. يقول والذى لا يفهمه الغرب هو أن الخيانة عند المسلمين هى خيانة الأمة بالإساءة إلى العقيدة. ويورد أن القانون الإنجليزى يعد الإساءة إلى الملك او الملكة يعتبر خيانة عظمى. “تقديم العون والمساعدة لأعداء الملك”. وفى الدستور الأمريكى معاونة أعداء الدولة. وفى حمى المكارثية فى الخمسينيات أُعدم يوليوس وزوجته إثال بإعتبارهما جاسوسيين للسوفيت.

ومن الدفوعات البديعة التى قد تجد آذاناً صاغية فى الغرب ما يلى: ربما تبدى التجديف الأساسى والإزدراء بمعتقدات المسلمين فى أبشع صوره فى عنوان الرواية نفسه “الآيات الشيطانية”. يقول لتوضيح القضايا للعالم الغربى دعونا نضع كتاب المسلمين المقدس، القرآن الكريم، كعمل إبداعى فنى فى عالم الكتابة الأدبية. إن على الغرب فى هذا الميدان ألا يقصر إهتمامه على كتاب رشدى وحده كعمل إبداعى جدير بالحماية والإحترام فلينظر للقرآن – وإن لم يؤمنوا بقدسيته- كعمل إبداعى ينبغى إحترامه لا الإساءة إليه بعنوان مثل “الآيات الشيطانية”.

ولتوضيح القيمة الأدبية والحضارية عقد المقارنة بين القرآن الكريم وبين مسرحيات شكسبير من الزاوية الأدبية المحضة يشير إلى ان مسرحيات شكسبير قد أثرت اللغة الإنجليزية أكثر من أى عمل آخر فى الجوانب الإصطلاحية والمجازية ولهذا فهى موضع إحترام وتبجيل كعمل إبداعى أثر إيجاباً فى مسيرة الإنجليزية كلغة وكذلك فإن القرآن الكريم قد حفظ اللغة العربية وحد من وتيرة تغييرها على مر العصور. الأمر الآخر أن روايات شكسبير اشتملت على معرفة عميقة بأمور البلاط الملكى وثقافة الطبقات العليا بينما الرجل كان محدود التعليم ابناً لتاجر قروى لم يعش فى لندن مما أثار الشكوك حول الكاتب الحقيقى للمسرحيات فأورد الناس عددا من الأسماء كمؤلفين منهم فرانسيس يبكون وكريستفر مارلو. وكذلك القرآن الكريم اشتمل على معرف جمة لا تتوفر لرجل أمى هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لكن فك هذا اللغز يسير عند المسلمين هو أن محمداً ليس مؤلف السفر العظيم وإنما القرآن كتاب الله أوحاه إليه.

ثم يسرد بتفصيل تناقضات عديدة فى الغرب لوقائع شبيهة لإسكات الأصوات غير المرغوب فيها نورد منها فقط قصة سفينة الخُضْر التى ذهبت لنيوزيلندا إحتجاجاً على التجارب الفرنسية النووية فى جنوب المحيط الهادئ وكيف أن رجل إستخبارات فرنسى قد زرع قنبلة فى السفينة أودت بحياة أحد النشطاء. ولما قبض عليه وعلى معاونيه إحتجت فرنسا وهددت بقطع العلاقات التجارية إذا لم يفرج عنهم. لكن القضاء هناك حكم عليهم بسنوات طويلة من السجن. وهنا تحركت فرنسا وشركاؤها الأوربيون مطالبين بتسليم الجناة لفرنسا ليقضوا مددهم فى سجونها فاستجابت نيوزيلندا تحت الضغوط الإقتصادية والتجارية لكن الرجال المحكوم عليهم كجناة فى جريمة قتل وتخريب فى بلد يعد إمتداداً حضارياً وثقافياً للغرب أطلق سراهم بعد وصولهم إلى فرنسا.

هذا ما تيسر هذه المرة نرجو أن تسمح السوانح بالعودة إلى إسهامات هذا الرجل الذى نترحم عليه ونحزن لفقدان أمثاله من العمالقة.

تعليقات الفيسبوك