بالله عليكم: هل من فطام فى عالم الأحزان؟! ..

بدعوة كريمة من معهد البروفسور عبد الله الطيب, كنت ضمن حضور كثيف لمحاضرة  قيمة بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم فى غرة يونيو (حزيران) 2015 للإستماع والإستمتاع والإفادة  قدمها الدكتور جعفر ميرغنى وهو إذا استعرنا عبارة أستاذه الفذ عبد الله الطيب , عالم نحرير وبالتقدير جدير. والمحاضرة بعنوان:
“ينابيع الشعر العربى….امرئ القيس”.ورغم أنها استمرت لأكثر من ساعتين (خرجت قبل نهايتها بقليل لإرتباط سابق” إلا أنها كانت فى موضوعها من أفضل ما سمعت فى الآونة الأخيرة لما حوت من علم غزير ومادة لم يتطرق إليها من قبل باحث فى أمر الشعر العربى وهو ما جعلنى اتخير العنوان أعلاه حيث حل لدى معضلة ما أثاره المستشرق مرجليوث وما تبناه الدكتور طه حسين من تشكيك فى اصالة الشعر الجاهلى  وقد اضاف لقيمتها العلمية عنصر التشويق الذى يميز  طريقة الدكتور جعفر ميرغنى  المحببة فى العرض والمطرزة دوما بالمُلح والقفشات اللطيفة ترياقاً للإملال والضجرمن الإطالة التى تفرضها أحياناً أهمية الموضوع .وللأمانة العلمية ورفعاً للإلتباس فإن الدكتور جعفر ميرغنى لم يتطرق ولم يذكر الدكتور طه حسين من قريب أوبعيد فى الجزء الذى سمعته من المحاضرة.
والنقطة الأهم فيما تخيرت إستنتاجه من هذه المحاضرة تبدأ بحديث الدكتور جعفر ميرغنى عن الخطأ الذى أوقع الدكتور طه حسين وغيره عند البحث فى أصل الشعر الجاهلى.  يقول إن الرواة  الأقدمين من أمثال ابن قتيبة و ابن سلام وغيرهم قد اعتمدوا فى رواياتهم عن بدايات الشعر الجاهلى ومصادره على روايات غير مؤكدة  ولغير متخصصين مثل (الشابكشى) وأغفلوا أوربما جهلوا كتابات الروم والعبرانيين والحبش عن ثقافة وأشعار العرب. والمهم هنا أن أولئك كانوا يدونون مهتمين بمعرفة حياة العرب وثقافاتهم لأنه كانت لأولئك  وبخاصة, الروم والفرس والحبش أطماع فى جزيرة العرب لأن العرب كانوا يتحالفون مع هؤلاء ضد أولئك فى الحروب التى اشتهرت بين الروم والفرس واستعمار الحبشة لجنوب الجزيرة وسعيهم للإستيلاء على مكة المكرمة لإخضاع القبائل العربية. (وفى العصر الحديث أورد المستشرق البريطانى برنارد لويس شيئاً عن أمرئ القيس وأنه مات فى نحو سنة 550 ميلادية ) وتذكر الروايات أن الشعر بدأ قبل 150 عاماً من ظهور الإسلام أى أنه قد بدأ  لدى العرب بإمرئ القيس. وهذا يبطل ما ذهب إليه مرجليوث المستشرق البريطانى وما كتب عنه الدكتور طه فى كتابه ” فى الشعر الجاهلى” الذى طبع فى مطبعة “دار الكتب المصرية” عام 1926 والذى جر عليه الويلات وصب عليه اللعنات وتهم الزندقة والتكفير. قال بعد ان أعلن شكه الشديد فى صحة شعر وحتى وجود أولئك الشعراء ”  ولا اضعف عن أن اعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على انه شعر أمرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس فى شئ وإنما هو إنتحال الرواة أو إختلاق الأعراب  أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو إختراع المفسرين و المحدثين والمتكلمين.” (ص 7). وقد يتفق معه المرؤ فى شكه إذا كانت مصادر ذلك الشعر الذى لا زالت تحتفى به العرب مأخوذة بالفعل من أفواه الأعراب والنحاة  والمنتحلين بلا سند ولا عمدة.  . لكن جعفراً أشار إلى مدونات أقوام كان يهمهم معرفة أحوال العرب هم الروم والفرس والحبش كما تقدم  الذين تربطهم بهم التجارة والأحلاف العسكرية. وأرى أن طه حسين قد تأثر عند دراسته العليا بفرنسا بالشك المنهجى الذى عرف به الفيلسوف الفرنسى ديكارت  وقاده إلى اليقين ما عرف ب (الكوجيتو: كوجيتو ارقو سم)” انا أفكر إذن أنا موجود” والذى سبقه الشك فى المعارف المتناقة ليصل إلى ذلك اليقين. ويبدو لى انه تعجل فى إستخدام منهج ديكارت فى الشك فى إنتحال الشعر الجاهلى  فى القرن الهجرى الثانى عندما فشت النعرات القبلية والشعوبية وليته وهو  قامة أدبية مرموقة صبر على رهق البحث فى  المصادر الأجنبية كالتى اهتدى إليها الدكتور جعفر ميرغنى فى تأكيد صحة تلك الأشعار ونسبتها إلى من نسبت إليهم تعميماً لما توصل إليه من شأن امرئ القيس على غيره من فحول شعراء الجاهلية. لا زالت هناك حاجة للكشف عن هذه المصادر حتى يكتمل اليقين. ولو أن الدكتور جعفر سطر بحثاً فى سياق تلك المحاضرة مشفوعاً بالمصادر التى أشار إليها يكون قد أسدى للعلم والتأريخ خدمة عظيمة.
ومن تلك المصادر حديث هام للدكتور جعفر ميرغنى فحواه أن العرب كانت أمة متحضرة يروقها العيش الهانئ فى المراكز الحضرية قبل ان تجهل. لذلك فالجهالة الموسومة بها لم تكن من الجهلIgnorance  بل من الإنتقال من ذاك التحضر إلى فوضى anarchy   وتلك هى الفترة التى سميت بالجاهلية حيث عمت الفوضى والإقتتال بين قبائل العرب والتى أعقبها ظهور الإسلام الذى أعاد قيمة التحضر والإستقرار. يدلل على ذلك المعنى بقول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهل أحد علينا    فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 وفى شأن عمرو هذا يقول إنه ورد فى كتابات الروم باسم “أمبروز” ومعناه يقول (شجرة الخلد) ولذلك ميزته العرب عن اسم عمر بإضافة الواو إلى آخره.وهو اسم لا يزال مستخدما لدى الفرنجة.
ويشير إلى أن أم إمرؤ القيس كان اسمها ” أَمة المسيح”  أو ربما كانت تلك كنيتها إذ أن المصادر العربية تقول إن اسمها فاطمة بنت الحارث وانها شقيقة كليب  والمهلهل  ابنى ربيعة.وإن صح أن تلك كانت كنيتها  فذاك دليل قاطع عل كونها كانت نصرانية كما أن امرؤ القيس  لم يكن من السوقة بل كان جده الحارث بن حُجر من ملوك الحيرة والحيرة ورثت حضارة بابل وكانت منارة حضارية وأنه سمى بالملك الضليل لأن اباه  عمروبن الحارث بن حُجركان ملكاً وكان نصرانياً.  كما أن ابناء الملوك كانوا يعلمون القراءة والكتابة. ويقول إنه يرجح أنه كان يتلقى العلم فى دير نصرانى وهناك كما ورد فى شعره (دير للعذارى) والعذارى هن الراهبات لأنهن لا يتزوجن. ويقول لأنه كان يقرض الشعر ويشبب بالعذارى(الراهبات) فقد غضب ابوه وأمر أن يقبض عليه وأن يقلعوا عينيه حتى لا يفتتن بجمال الحسناوات من العذارى فيشبب بهن ويرى أن ذلك من منطلق دينى لأبيه (وتقول الروايات أنه طرده بسبب مجونه وأنه ظل لاهياً شغوفاً بالخمر والنساء فى أمصار العرب حتى بلغه مقتل ابيه). ويعتقد أن يوم  (دارة جلل ) ربما كان رحلة لمدرسة الراهبات التى كان يدرُس بها  ويتعلم القراءة والكتابة  وعلوم النصرانية مع الراهبات لأنه ابن الملك وأنه اهتبل سانحة يوم جلجل  لملاقاة حبيبته:
ألا رب يوم لك  منهن صالح        ولا سيما يوم بدارة جُلجُل
ويوم عقرت للعذارى مطيتى      فيا عجباً من كورها المتحمل
ويرى الدكتور أن العذارى هنا هن الراهبات وما الدارة إلا الدير فكأن الطالبات الراهبات فى دير جلجل قمن برحلة وانه تسلل خلسة إلى حيث كنا  يبتردن فى البركة لرؤية حبيبته فاطمة  على تلك الحال وأنها تأبت عليه بدافع من دينها فتوسل إليها بالقول:
ويوم على ظهر الكثيب تعذرت       على وآلت حلفة لم تحلل
افاطم مهلاً بعض هذا التعلل       وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى
ويرى المحاضر أنها تبتلت وهوما عناه الشاعر فى (تعذرت) بدافع دينها محاذرة الوقوع فى الحرام  بل واقسمت ألا تجيبه إلى ما أراد وأنه توسل إليها بأن أجملى أى دعينا نفعل ولو (لمرة واحدة) كما قال!
اشتملت المحاضرة على إفادات قيمة كإفدات القائد الرومانى اسبارتا الذى وصف العرب فى حقبة من الزمن أنهم كانوا قوماً مسالمين لا يقتتلون البتة وانهم لا يعرفون فنون القتال إلا أن أطماع الروم فى أرضهم وما ارتكبوه فى حقهم من الإبادة حتى كادوا يجلونهم عن جزيرتهم عندما أجبروهم على الهرب حتى نجران , جعلهم بغريزة البقاء يقاومون ويتعلمون فنون الحرب حتى بذوا غيرهم فى ذلك ولعل ذلك ما حملهم على الدخول فى عصر الجاهلية ومفارقة الحياة الحضرية التى كانوا يعيشونها وكلفهم بالتماثيل تأثراً بالنصارى والمذكورة فى بعض أشعارهم. وتحدث عن كلف العرب بالحمير وأنهم كانوا يرونها رمزاً للحرية وكانوا يأنسون بأصواتها حتى زجرهم المولى بقوله تعالى “إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” صرفاً لهم عن الكلف الزائد بحياة البداوة والصحراء  وصرفهم لعمارة الأرض بالإستقرار والعناية بالحياة الحضرية. والذى عليه حال العرب اليوم من الفوضى والإقتتال يلقى بظلال من الشك على تأكيدات الحداثة من أن البشرية تتطور إلى الأحسن .والشاهد هنا أنا الحضارات قد ترتكس إلى اسفل سافلين إن طاش عقلها وتبددت حكمتها. ودعوى ما يعرف بما بعد الحداثة دعوة إلى  التحلل من القيم والقول بنسبيتها وهو ما ينذر بحقب جديدة من الفوضى والقفز فوق الأخلاق وقداسة الأسرة كوحدة اساسية للمجتمعات الإنسانية.
وبعد هذا بعض ما فهمته من المحاضرة القيمة وأرجو ألا أكون قد نسبت للدكتور الجليل ما لم يقله وإن وقع بعض ذلك فالعهدة علىّ وللدكتور كل العتبى حتى يرضى وأتمنى عليه عندئذ  أن يوثق بقلمه السيال  لتلك المحاضرة الرائعة  نشراً فى الصحف السيارة والدوريات العلمية تعميماً للفائدة ونتمنى على معهد البروفسور عبد الله الطيب أن يكثر من قبيل هذه المحاضرات خدمة للعلم والآداب.

تعليقات الفيسبوك