المرتكزات الفلسفية للعلوم

مقدمة:
ونريد بالعلوم كافة المعارف الإنسانية النظرية منها والتطبيقية ويروم البحث الأسس الفلسفية التى قامت
عليها وبعبارة أخرى هل للفلسفة صلة بتلكم العلوم والفرض الذى نريد التحقق من صحته وصوابه هو عينه القائل بوجود مرتكزات فلسفية لتلك العلوم.
ولتوضيح هذا المبحث أستعير عبارة فيلسوف الوضعية المنطقية البريطانى بيرتراد راسل التى صدر بها كتابه الشهير المسمى تأريخ الفلسفة الغربية The History of Western Philosophy حيث قال:
“توجد العديد من الكتب فى تاريخ الفلسفة وليس غرضى الأوحد بكتابة هذا الكتاب أن أضيف إليها واحدا إنما هدفى أن أبين أن الفلسفة كجزء اصيل لا يتجزأ ومندغم فى الحياة الإجتماعية والسياسية للبشر ولأبين أنها ليست مجرد تصورات لأفراد أفذاذ بل بإعتبارها سببا ونتيجة لشخصية وخصائص العديد من المجتمعات التى ازدهرت فيها نظماً مختلفة ومتباينة”
Many histories of philosophy exist, and it has not been my purpose merely to add one to their number. My purpose is to exhibit philosophy as an integral part of social and political life: not as the isolated speculation of remarkable individuals, but as both an effect and a cause of the character of various communities in which different system flourished.

واستطرد لتبيان الصلة بين الفلسفة وبين التطورات الإجتماعية والسياسية إلى بعض التفصيل مشيراً مثلاً إلى انه يستعصى على المعاصرين فهم المناخ الفكرى للقرنين الثانى عشر والثالث عشر دون الإلمام ببعض المعرفة بالفترة الممتدة بين سقوط روما وصعود بابوية العصر الوسيط.
يتضح مما تقدم أن الفلسفة كانت قاعدة انبنت عليها المعارف جميعاً .ففى إطار التصورات المجردة تنبثق الأفكار التطبيقية فى كافة المجالات وعلى إمتداد المعمورة فتشيد البنايات وتشق قنوات الرى وتعبد الطرق فى حضارات الأمم وفقاً للتصورات: التصورات الميتافزيقية أحيانا فى علاقة الإنسان بالكون وبأخيه الإنسان وبالتالى بين حضارة وأخرى حيث تبنى العلاقات وفقاً لتطابق التصورات سلماً وتعاوناً أو وفقاً للإختلاف القائم بينها حيث تقوم العداوة والبغضاء والإحتراب.
يقول ابونصر الفارابى ” إذ الفلسفة حدها )الحد هو القول الدال على ما هية الشئ( وماهيتها ) ما هية الشئ وهى كنهه وحقيقته( انها العلم بالموجودات بما هي موجودة”. ويستطر تحت عنوان موضوعات الفلسفة قائلاً : والحد الصحيح مطابق لصناعة الفلسفة وذلك يتبين من إستقراء جزئيات هذه الصناعة .وذلك أن موضوعات العلوم وموادها لا تخلو من ان تكون إما إلهية وإما طبيعية وإما منطقية وإما رياضية
أوسياسية . وصناعة الفلسفة هى المستنبطة لهذه والمخرجة لها حتى أنه لا يوجد شئ من موجودات العالم إلا وللفلسفة فيه مدخل وعليه غرض ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسية.”2
وكمثال على تاثير التصورات المجردة على الحياة التطبيقية فقد أوردالكاتب الأمريكى مارك أدمنسوند فى كتاب له عن سيقموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسى فى علم النفس عام 1991 بعنوان “موت سيقموند فرويد: ميراثه فى ايامه الأخيرة”
The Death of Sigmund Freud: the legacy of His
last days

ذكر مارك آدمنسون فى مقالة له فى النيويورك تايمز نقلاً عن كتابه المذكور ان سيقموند فرويد رغم أنه ظل على إلحاده قد مجد الديانة اليهودية وهو فى الثمانين من عمره وانه يرى أن عقيدة التوحيد فيها كانت محفزة للتميز والإنجازوالثقافى والمادى:
” إن الذى جعل الديانة اليهودية متميزة على باقى الديانات هو إستمساكها بالإيمان بإله لا يرى) أى بالعين( وانه قد تبعت هذا الإيمان بالغيب نتائج عديدة.من تلك التبعات تمكين الإنسان من القدرة على التجريد ) أى مفهموم تصور الشئ من غير لون ولا هيئة فى لا مكان. يوضح تلك الفكرة فرويد بنفسه قائلاً :إن تحريم صور الله والإلزام بعبادة إله لاتراه يعنى ان تدفع بالتصورات المستمدة من الحواس على درجة أدنى )أحط( من درجة ما يمكن أن نسميه بالفكرة المجردة-ذلك إنتصار للعقلانية على الحسية.”3
يفصل كاتب المقالة فى هذه الجزئية بالقول إن الناس يعبدون معبوداً ليس هناك )أى لا يسعه مكلن بحيث تراه العين( فإنه فى مقدورهم التفكير فى اشياء ليست موجودة أمامهم أو التفكير المعمق فى الموجود أمامهم كرمزلأشياء أخرى ليست حاضرة ىنياً ويخلص من ذلك للنتيجة التالية:
وعليه فإن العمل العقلى لعقيدة التوحيد قد هيأ اليهود- كما هيأ فى نهاية المطاف آخرين فى الغرب- أى عبر التجريد لتحقيق تميز فريد فى ميادين القانون والرياضيات والعلوم والآداب. إن عقيدة التوحيد قد منحتهم
ميزة فى كافة أوجه النشاط الإنسانى المتصلة بخلق نماذج لتصورات مجردة فى عالم الكلمات والأرقام والخطوط وأن العمل مع هذه المجردات قد مكًن من تحقيق السيطرة على الطبيعة أومكًن من إضفاء نظام إنسانى على الحياة. لقدوصف فرويد عملية الإستبطان الداخلى هذه بأنها ” تقدم فى ميدان العقلانية” أسند الفضل فيه للدين.4
والمتتبع لتاريخ الفلسفة يجد أن التصورات الفلسفية شكلت تقدم العلوم فى المجالات كافة ولأن التاريخ قد حفظ لنا تجربة الإغريق فلا مندوحة لنا من الإستشهاد بتلك التجربة كدالة على التطور الفلسفى وعلاقته بميلاد العلوم وليس تفضيلاً له على سائر التجارب البشرية فمعلوم أن الصينيين والهنود والفرس والعرب قد اشتغلوا بالفلسفة لكن مدونات الإغريق التى لعب العرب دوراً كبيرا فيها وفى حفظها ونقلها إلى أوروبا ظلت هى المرجع الأساس فى رصد تطور العلوم الفلسفية وتأثيرها فى العلوم الأخرى وتطورها.

وقبل الخوض فى تطور الفلسفة يحسن بنا أن نعطى ملمحاً لعلاقتها بالحياة والأحياء وأنها ليست موجودا قابعاً فى برج عاجى متعال لا يلامس الواقع كما هو الظن بها عند كثيرين.

أبو نصر محمد بن طرخان الفارابى,ة”الجمع بين رايى الحكيمين افلاطون وأرسطو”, المكتبة العصرة 2112 صص 21-22 2 هارون,خضر “رؤى فى الفكر والثقافة والأدب” شركة مطابع السودان للعملة المحدودة 2115 صفحة 3124 المصدر السابق ذات الصفحة. 4
الفلسفة بدأت بأسئلة مثلاً : من أنا ,جماد أنا أم مادة ؟مادة أنا أم روح أم عقل؟ الأشياء التى اراها بالعين وأحسها بالحواس هل هى حقيقية أم انها وهم اتوهمه أنا؟ هذه أسئلة ترنو إلى ما وراء الطبيعة فيما مانسميه بالميتافيزيقيا.هذه أسئلة حقيقية تظل ماثلة طول الوقت تجيب عليها الأديان أو الفلسفات فيؤمن بها البعض وتطمئن قلوبهم إليها ولا يؤمن بها بعض آخر من الناس فتظل الأسئلة لديهم حيرى بلا إجابات لذلك تتناثر الرؤى والنظريات وتقوم فى إثرها الجماعات والمذاهب والطوائف. مؤمنون يقسمون الحياة إلى قسمين قسم نحياه فى الدنيا وآخر مدخر فى الآخرة يتعين بمقدار كسبنا فى هذه الحياة الدنيا ويستند هذا الفهم على وجود نهاية لهذا العالم تعقبه حياة أبدية وقطاع من الناس والثقافات لا يرى نهاية للعالم ويرى أنه عالم سرمد وان الأرواح تتناسخ فيه فيموت إنسان بعد عمرمعين ليولد مجددا فى جسد آخر أو فى مخلوقات أحط أخرى وفقاً
لما قدمت يداه.وقسم من البشر يرى أن الناس ينتهى وجودها بإنتهاء حياتها الدنيا فلا بعث بعد ذلك ولا نشور. وتبنى أنماط متباينة من السلوك والنظم والقوانين وفقاً لتلك التصورات والرؤى المتباينة وقد يقتتل الناس ويتصالحوا تبعاً لذلك .وهذا دليل دامغ على صلة الفلسفة فى بعدها الميتافيزيقى بالحياة وأنها صلة دائمة لا تنقطع وبهذا الفهم لا معنى للقول بموت الفلسفة. أمر آخر يتعلق بالإدراك كيف ندرك الأشياء؟ هل نعتمد على معرفتها على الحواس المادية أم إعتماداً على العقل أم على وحى السماء؟ هذا سؤال فلسفى فى نظرية المعرفة أو )إبستمولوجيا.

(
يوضح هذه التساؤلات أستاذ الفلسفة بجامعة جورج تاون البروفسور تى. زى. لافيان فى كتابه “من سقراط إلى سارتر ك البحث الفلسفى” T.Z. Laveine: From Socrates to Sartre: The Philosophic Quest”
هل تتساءل أحيانا ما هى الحقيقة وما هو مجرد المظهر الخارجى للأشياء؟ هل الأشياء المادية الظاهرة للعيان موجودة فعلاً كحقائق؟ هذه الصخرة مثلاً؟ هل هى حقيقة أم وهم؟ هذه الأبقار التى ترعى الحشيش الأخضر وهؤلاء البشر الذين يزحمون الطرقات وحوافى الطرق وهذه الطائرات التى تؤز الجو هل هذه الأشياء حقيقية الوجود فقط لأننا نراها ونحسها أم أننا واهمون؟
ما حقيقتك أنت؟ هل أنت مجرد جسد مكون من مواد عضوية تتفادى الآلام وتتصيد الملذات والبهجات؟ هل انت ذرات تتفاعل مبرمجة لتنمو ثم تحطم ذاتها فى نهاية المطاف؟ وإن لم تكن كذلك هل انت عقل أم روح وكيف للعقل أو الروح أن تنتج جسداً ماديا؟ هذه أسئلة تعد فرعاً فى الفلسفة يسمى )الميتافزيقيا(. وعلى ذات النسق يتساءل بشأن المعرفة
Is there any truth we can believe?

هل هناك حقيقة يمكن أن نؤمن بها؟
هل الحقائق هى ما تراه أو تحسه حواسك؟ هل هناك ضمان بصحة ما تدركه الحواس على انه الحقيقة؟ وهل
الحقيقة خالدة ومطلقة أم نسبية؟ العلوم الطبيعية تعتمد على الملاحظة التى تتم بالحواس متغيرة ومتطورة
وعلى الدوام تصحح نفسها وتعارض نتائج كانت قد توصلت إليها وتتضاعف بإنتاج المزيد من الأرقام
والأشكال والعديد من مكتشفات الإلكترون والعديد ايضاً من التجارب المعملية على الفئران. هل العلم حقيقة ام ينبغى الرجوع إلى التراث اليهودى النصرانى لإلتماس الحقيقة؟ هذه الأسئلة يعالجها فى الفلسفة ما يعرفبنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.
هناك أسئلة اخرى تدل على صلة الفلسفة بالعلوم والحياة. مثلاً : ما هو الصحيح من السلوك والخطأ؟ ومن الذى يحدد ذلك. يقول الكاتب المذكور : بين من تعرف من الأتقياء الصالحين تجد أكثرهم يعيش حياة بائسة حزينة يلفها الأسى. بينما تجد الأنانيين والمخادعين يعيشون فى سرور وحبور يتنعمون بالوان الطعام والشراب والجنس! هل تلكم هى الحياة المتوخاة؟ وهذه اسئلة يعالجها فرع فى الفلسفة يسمى علم الأخلاق.

هناك تساؤلات حول الحكم الراشد والحكم الفاسد يعالجها قسم الفلسفة ايضاً يسمى النظرية السياسية أو الفلسفة السياسية
وقد أفرد البروفسور ديفيد ميللر أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوكسفورد كتابا دراسيا كاملاً بعنوان ” الفلسفة السياسية”.
Political Philosophy
قدم للكتاب بالحديث متسائلا عن مدى حاجة الإنسان للفلسفة السياسية. قال ولما كانت الصورة أدق تعبير اً عن آلاف الكلمات فقد استلهم شرحه للغاية من الفلسفة السياسية من لوحة الإيطالى أمبروقيو لورنزيتى التى ظل يرسمها بين الأعوام 1221-1229 على ثلاثة جدران فى بلدة سنيا فى إيطاليا. وهى لوحة اشتملت على تبيان الحكم الرشيد وذاك السئ العضوض.
ويلزم التنويه هنا إلى أن الحضارات جميعاً والتى سبقت ميلاد الحضارة الغربية فى جزر اليونان قد أسهمت بأسهم وافرة فى إثراء الفكر الإنسانى وأن اليونان أنفسهم قد اعترفوا بذلك فى تاريخهم قبل إستشراء العنصرية فى أروبا وفى ألمانيا تحديدا فأنكروا تلك الصلة إستكباراً على الخلق مستبطينين إستعلاء آرياً على بقية الأجناس.وقد كتب فى ذلك البريطانى مارتن بيرنال ثلاثة مجلدات بعنوان “أثينا السوداء:
“الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية
Black Athena: The Afro Asiatic Roots of Classical Civilization.
وقد ذكر أنه نظرا لما أورده اليونان أنفسهم بأن ثقافتهم قد صعدت نتيجة للإستعمار المصرى والفينيقى عام 1511 قبل الميلاد.

تجدرالإشارة إلى أنه عندما تحدث عن مصر شمل بها منطقة النوبة الممتدة من شمال السودان.
والغرض من هذا التنويه لتأكيد أن إعتمادنا على التسلسل التأريخى لتطور الفلسفة وتاثيرها فى تطور العلوم قد إعتمد على التراتيبية الغربية لا بغرض قصر المساهمة الإنسانية على الغرب ولكن لتوفر المصادرالتأريخية والتدوين لا أكثر.

الفلسفة الكلاسيكية اليونانية:
ونلاحظ أن الفلسفة الكلاسيكية اليونانية فى عهدها الذهبى قد تناولت هذه الفروع جميعاً عبر إبتكار الفيلسوف سقراط لمنهج الديالكتيك والذى يستند بإختصار على طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها.وقد اتسم أولئك بالمعارف الموسوعية فتحدثوا فى هذه الفروع جميعاً فى إطار إقامة المدينة الفاضلة على الأرض وهذا دليل
قوى على ان مباحث الفلسفة ظلت وفية للواقع المعيش ولم تنكفى فى كهوف التأمل العقلى المفارق للواقع .

وتعاليم سقراط ثم جمهورية إفلاطون ورؤى ارسطو رمت جميعاً لمخاطبة الواقع الذى عاشوه فى ذلك الوقت .وما أسهموا به فى ميادين الأخلاق والمعرفة والمدينة الفاضلة انبنى على تلك الرؤى. ونمثل لذلك برؤية إفلاطون لطريقة إكتساب المعرفة الحقيقية فيما عرف بنظرية المثل ومثال الكهف:
” تنطلق نظرية إفلاطون من أن العالم الواقعى )العيانى( متغير تسرى عليه سنن الكون والفساد, وعلى هذا فهو عالم ناقص.ولما كان الكمال عند إفلاطون سابق على النقص لأن النقص إنتقاص من الكمال, لزم أن يكون للكمال وجودحقيقى خارجى ومستقل عن وجود العالم العيانى الناقص. وتدرك النفس الإنسانية ذلك لأنها تدرك أن المحسوسات ناقصة بينما المعقولات كاملة ثابتة. لكن من أين جاءت هذه المعقولات الكاملة الثابتة التى فى العقل؟!
ببساطة نستطيع ان نقول وفقاً لآراء افلاطون إن هذه المعقولات لا يمكن أن تاتى إلى العقل من المحسوسات. لأن المحسوسات فى نظر افلاطون ناقصة , والناقص لا يمكن له إيجا د الكامل ففاقد الشئ لا يعطيه. لذلك لزم أن تكون هذه المعقولات آتية من عالم فوق العالم الحسى, أى عالم العقل وهو عالم مفارق للمادة ويدرك بالعقل لا بالحواس. وهو عالم ثابت لا يتغير برئ من جميع أنواع النقص والفناء.وفى هذا العالم نجد مثل عالم الموجودات الحسية ففيه مثال الإنسان بالذات والشجر بالذات والماء بالذات. وليس العالم المادى الخارجى إلا صورة أشباح لنماذج فى عالم المثل المتحققة فيه كل الكمالات.”10
والمعرفة بعالم المثل الموجودة فى العالم العلوى المستقل هى صفة الفلاسفة الاصلاء.وقد بنى افلاطون إستناداً على هذه الفكرة المحورية فى فلسفته جمهوريته الفاضلة التى تقصر فيها مهمة الحكم والإدارة على الفلاسفة لا غيرهم لأن الفيلسوف هو الوحيد العارف بحقيقة الوجود عكس الإنسان البسيط الذى يرى اشباح الأشياء حيث انه كالمكبل فى كهف لا يلتفت فيرى فقط ظلال الأشياء الموجودة فى عالم الحقيقية فيظنها هى
حقائق الاشياء.

بروفسور عيسى عبد الله “فى نظرية المعرفة ” )2111( أكاديمية الفكر الجماهيرى” ص55 10
إذن ففى القرن الرابع قبل الميلاد ازدهرت الفلسفة فى أثينا في اليونان وهى كانت مدينة –دولة وشهدالتاريخ الإنسانى افذاذاً مثل سقراط ابو الفلسفة الذى رغم الظلم الذى حاق به وأدى إلى إعدامه إلا أنه صمد فى وجه الموت إنتصاراً للقانون ليثبت قيمة أخلاقية هى إحترام القانون للصالح العام برفضه نصيحة تلاميذه بالهرب وهو أول من جاء بالديالتيك المتمثل فى الوصول إلى الحقائق عبر الأسئلة والإجابات بل رحب بالموت لأنه سيتيح له الإستمتاع بالأسئلة والإجابات فى عالم سرمد لا يعكر صفوه الموت. وبإنتصار الرجل لقدسية القانون نلحظ الصلة بين عالم الفلسفة وعالم الأحياء الذى لا يستقيم بلا قانون. وعلى يد سقراط تتلمذ إفلاطون ثم أرسطو الذى تتلمذ على إفلاطون وهى اسماء لا زالت حاضرة فى عالم الأحياء.

الحقبة الهيلينية:
يشير ريتشارد ترانس فى كتابه: جاذبية العقل الغربي: فهم الأفكار التى صاغت نظرتنا للعالم
The Passion of the Western Mind
Understanding the Ideas that Have Shaped Our World View
إلى أن الإرث الحضارى الذى أنتجته أثينا والمتمثل فى تطور مفاهيم الفردانية القلقة والفخر بالمفاهيم التى
مصدرها الإنسانية وحدها والعقلانية الناقدة هى ذاتها قد تسببت فى سقوط وزوال أثينا بسبب الغرور والإنقسامات والإنتهازية التى أججت الصراعات بين الأثينيين اوشغلتهم فلم ينتبهوا للخطر المقدونى المتمثل
فى إجتياح الاسكندر الأكبر لأثينا وللعالم. إلا أن وجود أرسطو الشاب فى معية الأسكندر كمستشار قد حفظ التراث الفلسفى الأثينى ومكنه من البقاء بل والإنتشار عبر غزوات الأسكندر لجل بقاع العالم القديم فى آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفى المدن التى أسسها الاسكندر كالأسكندرية. بقى التراث الهيلينى فى
مكتبات الاسكندرية وغيرها.وبعد وفاة الأسكندر وتشظى إمبراطويته قامت الإمبراطورية الرومانية لكنها تبنت فى مناهجها التراث اليونانى الهيلينى الذى ظل يدرس على امتداد مدن البحر الأبيض المتوسط. واقتفى
معظم العلماء والفلاسفة الذين ظهروا فى العصر الرومانى آثار فلاسفة اليونان ثم استوعب الرومان فى اعمالهم اللاتينية .ورغم ان الرومان قد طوروا القوانين والإدارة والإستراتيجيات الحربية إلى أن اليونان
ظلت الرائدة فى مجالات الفلسفة والآداب والتعليم والعلوم فى العالم القديم وهوما عبر عنه شاعر الرومان هوراس بالقول إن اليونان الذين أخذوا كرهائن قد أحالوا المنتصرين عليهم إلى رهائن.
ويشير ذات المصدر إلى أن أهم إسهامات الحقبة الهيلينية الثانية التى أعقبت حقبة سقراط و وإفلاطون وأرسطو كانت فى مجال العلوم الطبيعية إذ برزكاحد المؤسسيين لعلم الهندسة Euclid والفلكى المهندس أبولونيوس والفيزياى الرياضى أرشميدس والفلكى هيبراشس والجغرافى الأشهر إسترابو. وظهرت بواكير
علم الفلك الرياضى ونال موضوع علاقة الكواكب بالشمس وبالأرض إهتمام كبيراً أدى لإضطراد علم الفلك
فى هذا المجال على ايدى تلاميذ فيثاغورس الذين تحدثوا لأول مرة أن الأرض تتحرك. ورأى هيراكليدس من أكاديمية إفلاطون أن حركة الأجرام السماوية اليومية نا تجة من دوران الأرض حول محورها.ويرىالكاتب أن فترة البطالسة قد شهدت تطورا لعلم التنجيم القريب من علم الفلك وأن التعاطي بين العالمين قد
12استمر حتى عصر النهضة حيث أصبحت الغلبة لعلم الفلك.
وفى مجال الفلسفة ظهرت الفلسفة الإبيقورية التى تلخص السعادة فى تجنب الألم وترفض كل وسيلة تجلب
الألم مثل الزواج والجنس والإنجاب والإكثار من الأكل والشرب والخوف من الموت وبالتالى ا تجنب الإيمان بالبعث والنشور. تزامنت هذه الفلسفة مع الفلسفة الرواقية التى تقوم على أن الحقيقة المطلقة تكتنف
كل الاشياء وهى مستمدة من الحكمة العاقلة التى تسير الكون وأن التسليم بتلك القوة هو الذى يجلب السعادة للافراد وأن تعيش حراً هو أن تعيش وفق مراد الله وان الأهم فى الحياة هو خيرية الروح ونقائها لا ظروف الحياة الخارجية التى يحياها الإنسان. ولما كان الناس جميعاً يحيونوفق الإرادة الربانية العاقلة يلزم أن تعيش الإنسانية فى إخاء وأن يسعى كل فرد تأدية واجبه تجاه الإنسانية.
ويشير تارانس إلى أن الفلسفة الرواقية هي أكثر الفلسفات التى ميزت تلك الحقبة الهيلينية وقد تركت آثارها على روح الثقافة الغربية لما اشتملت عليه من رؤية وميراث أخلاقى.
وهذه إ شارة جديرة بالنظر فهى من صلب ما نحو بصدد البحث عنه وهو الأسس الفلسفية للعلوم. وكرد فعل للرواقية نأت مدرسة الشك Skepticism و التى ترد إستحالة حدوث اليقين والوصول إلى الحقيقة المطلقة وأقصى ما يمكن وصفه بالحقيقة هو ترجيح لا يبلغ مبلغ اليقين الذى لا يرقى إليه الشك. عدا ذلك لم تؤسس هذه الفلسفة فكرا واضح المعالم واقتصر أداؤها على مهاجمة الرواقية التى تؤمن بالحقيقة المطلقة المستمدة من الله.
الفلسفة المدرسية المسيحية أو فلسفة العصور الوسطى:
وبظهور المسيحية وتبنى إمبراطور الإمبراطورية لها كدين رسمى للدولة بعد أن تعرض معتنقوها فى
البداية للقتل والإضطهاد بدأت حقبة جديدة فى تطور الفلسفة وتوارت النظرة الليبرالية المقرونة بشئ من وثنية اليونان لتفسح المجال لنوع من الفلسفة حاول فيه آباء المسيحية إستخدام المنطق والإرث الهيلينى للتوفيق بين الفلسفة والدين فظهرت أولاً الإفلوطينية الجديدة ثم تلتهاما عرف بالفلسفة المدرسية. الإفلوطينية الجديدة على يد إفلوطين Plotinus اليونانى الذى ولد فى مصر ودرس فى الاسكندرية ثم قدم إلى روما وفى الخمسين من عمره كتب كتابه فى الفلسفة الذى حوى أفكاره عن الله وصلته بالمخلوقات وانتهى إلى أن الخالق هو الأول بلا زمن ولا صورة نعلمها وهو الخالد الذى لا يموت. وأن روح الإنسان من الله لكنه فرط فى تلك الصلة و أخلد إلى الأرض فى محاولة للسيطرة على المادة والأشياء وانه يلزمه التطهروالعودة إلى
15رحاب الله مرة أخري.
سميت فلسفة العصور الأولى للمسيحية على ايدى الرومان بفلسفة آباء الكنيسة Patristic Philosophy
وكانت على الجملة إعتذارية تحاول الدفاع عن الإيمان فى وجه بقايا الفلسفة الليبرالية لقدماء اليونان فخلقت فلسفة توفيقية بين تلك اليونانية وبين العقائد المسيحية. ويورد برتراند راسل أنها فى البداية عجزت عن
الخروج من عقيدة اليونانيين فى أن المادة قديمة وليست مخلوقة وهى فى القدم مثل الخالق حتى ظهر القديس أوغستين وجاء بعقيدة الخلق من عدم وأن المادة مخلوقة من العدم وليست قديمة قدم الخالق.
ثم سادت لقرون الفلسفة المدرسية او فلسفة القرون الوسطى ويؤرخ لها بسقوط روما فى 415 وحتى ظهور
شارلمان فى عام 811 ميلادية. وسميت بالمدرسية لأنها كانت تدرس فى الجامعات بواسطة فلاسفة مسيحين قبلوا تعاليم الكنيسة كاساس لفلسفتهم وأن تلك التعاليم معصومة من الخطأ. ولما كان هدف أولئك هو تبرير صحة العقائد المسيحية بمنطق الفلسفة ولما كان ذلك المنهج مفارقاً لروح البحث الحر الذى ميز الفلسفة اليونانية فقد سميت تلك الحقبة ب “القرون المظلمة”.16
وفى الفترة الثانية من عمر فلسفة القرون الوسطى تم التعرف على فلسفة أرسطو . ذلك فى الفترة من عام 1211 وحتى سقوط القسطنطينة فى 1452
وحتى بداية القرن الثالث عشر لم يكن فلاسفة المسيحية يعرفون كبير شئ عن جل أعمال ارسطو حتى جاء
فلاسفة العرب بترجمة تلك الأعمال أمثال ابن سينا والغزالى وابن رشد الذى كان أعظمهم اثرا فى تعريف الفلاسفة المسيحيين بأرسطو حتى أن الإمبراطور فريدريك قد دعاهم لبلاطه وعمم ترجماتهم لأرسطو على جامعات بولونيا وباريس وأكسفورد.17
وفى هذه الفترة أسهم عدد من اليهود الذين تتلمذوا على الفلاسفة العرب على المساهمة فى نقل تراث أرسطو للغرب . أشهر هولاء موسى بن ميمون) 1125-1214( أحد اشهر تلاميذ ابن رشد الحفيد. بعد ذك سادت فلسفة توما الأكوينى التى اعتبرها البابا لوى الثالث عشر الفلسفة الرسمية المعتمدة لدى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.وفلسفة توما الأكوينى تعتبر الله متجليا فى صور الوجود كله بنباته وحيوانه وجماده وهو لايفرق مثل القديس أوغسطين بين عالم المادة وعالم الروح بل يعتبرها جميعاً تجليات إلاهية
بل لا يضع المجتمع العلمانى فى مواجهة الكنيسة وسلطتها ويرى أن كل الوجود الطبيعى وما وراء الطبيعة وكل الحقيقة الموحى بها وتلك المدركة بالحواس والتجربة مصدرها جميعا الله رغم أن العالم الروحانى متقدم عنده على عالم الطبيعة وأن الحقائق التى نزل بها الوحى أسمى من تلك التى يثبتها المنطق العقلى وأن مدينة الله التى هى الكنيسة اسمى من أى سلطة دنيوية. هذان العالمان لا يتناقضان فعالم الوحى رغم أنه

15 Sahakian, William S. “ History of Philosophy: From the Earliest Times To the Present” Barnes and Noble Books, London, NY (1968) P.84 16 Ibid. P. 93.
17 Ibid. P103
الأعلى شأنا لا يتعارض مع عالم العقل فالله يرى أن التعاليم التى نزل بها الوحى والتى تمثلها الكنيسة لا
ينبغى أن تتعارض مع عالم المنطق والعقل وإلا بطلت نسبتهما إليه معاً فهناك مصدر للحقيقة أسمى منهذه الأحداث الموحى بها هى الإتحاد الصوفى الذى بموجبه يتحصل الفرد بالحدس المباشر على الحقيقة من
الله. فالله هو الحقيقة المطلقة وبالتالى ليس مهما وسيلة الحصول إليها فهى تأتى عبر الوحى أو عبر التحليل العقلى وبالتالى فلا تعارض بين الوسيلتين. وبالتالى فوجود الله ليس فقط حقيقية تاتى عن طريق الوحى ولكنها حقيقة يمكن إثباتها بالعقل ايض اً.
وهذا قريب جداً من قول ابن تيمية فى كتابه “درء التعارض بين العقل والنقل “الذى علق عليه الدكتور جعفر شيخ إدريس بأن المسلمين لم يشعروا بالتعارض بين العقل والنقل كالذى حدث للمسيحيين:
” وأما أئمة أهل السنة كالصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين فهؤلاء أتوا بخلاصة المعقول والمنقول وكانوا عالمين بأن كلاً من الأدلة السمعية والعقلية حق وأنها متلازمة. فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل, ودلته على وجوب تصديق الرسل فيما أخبروا به ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله أرشد عباده فى كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية التى بها يعلم وجود الخالق وثبوت صفات الكمال له.”18

الفلسفة فى عصر النهضة:
تعتبر فترة ظهو فلسفة عصر النهضة فترة إنتقالية تمتد منذ سقوط القسطنطينية فى 1452 حتى عصر
التنوير فى 1591 عند بروز وعودة الإهتمام بالثقافة اليونانية-الرومانية حيث تخلصت الفلسفة من قبضة الكنيسة وعادت للحياة وللفكر الحر المستقل المصوب نحو قضايا الإنسان الأرضية.ويمكن تقسيم فلسفة
عصر النهضة إلى قسمين: فترة الإنسانيات وتمتد من 1452إلى1511ثم فترة العلوم الطبيعية والتى تمتد من 1511 إلى 1591 أى عند نشر كتاب جون لوك مقالة فى فهم الإنسانيات والذى يعتبر البداية لعصر التنوير. وفى الحقبتين يقول وليام ساهاكيان إن إهتمام الفلسفة انصرف عن الميتافيزيقيا والإللاهيات والكنيسة وما بعد الموت إلى إحتياجات الإنسان المادية وقضاياه الأرضية وقضايا الطبيعة.19
حتى اللاتينية التى كانت هى لغة الكنيسة أبطل العمل بها وبدأت اللغات الأوروبية الوطنية المختلفة تحل محلها.
ومن ابرز اقطاب الفلسفة الإنسانية: ليوراندو دافنشى, بيكو ديلا ميراندولا, نيكولو ميكافلي , توماس مور, نيكول كوبيرنوكوس ومارتن لوثر ) 1482- 1545(.
وفى فلسفة العلوم الطبيعية برزت أسماء جاليلو, فرانسيس بيكون , وتوماس هوبز. تزامن مع ظهور هؤلاء جميعاً كابرز فلا سفة عصر النهضة بساقيهاك الإنسانيات وعلوم الطبيعة ظهور الفيلسوف الفرنسي رينيه

شيخ إدريس, جعفر “صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامى” مكتبة مجلة البيان –الرياض السعودية 1422ه ص.115 18
19 Ibid.P.119
ديكارت ) 1595-1551(الذى سلك مسلكاًمختلفاً واعتبر أبو الفلسفة الحديثة. وهو صاحب ما عرف
بالكوجيتو أو الشك الإيجابى الذى يفضى إلى اليقين : ” أنا أفكر إذن أنا موجود”. ويسهل تتبع جذور هذه الفكرة فى الفلسفة الكلاسيكية وكذلك فى الفلسفة المعاصرة كالوجودية بتأثيراتها المختلفة على الفنون والأدب.
اهتمت فلسفة عصر النهضة كذلك بنوعين من القوانين: القانون القضائى والقانون المدنى فى دالة على
إنتهاء سطوة الكنيسة على الحياة العامة وبداية التحول التدريجى نحو العلمانية. ولعبت الفلسفة الإجتماعية والسياسية فى عصر النهضة دوراً كبيرا فى وجهة الحياة السياسية والإجتماعية فى أوروبا والعالم بعد ذلك. فأعمال فرانسيس بيكون, ومور وميكافيلى وكامبانيلا وهوبز لعبت دورا كبيرا فى تأريخ التطور الإجتماعى والسياسي فى مقبل الأيام.
ويصف برتراند رسل فى “تأريخ الفلسفة الغربية” الفلسفة الحديثة أي فلسفة عصر النهضة وما بعدها بأنها تميزت بالإبتعاد عن الكنيسة التى بدأت سطوتها على الحياة العامة فى الضعف والهزال وبدأ العلم الطبيعى ينتشر ويأخذ زمام المبادرة فى الحياة العامة. وفى هذه الفترة بدات قوة الدولة الوطنية ووظائفها تتزايد فى كل مراحل هذه الحقبة مع تراجعت هنا وهناك لم تنل من تنام الدولة الوطنية.20
وقد افترع هذه الكتابات فى عصر النهضة الإيطالى نيكولو ميكافيللى بكتابه الشهير “الأمير” سنة 1512
والذى كتبه للأمير لورينزو الثانى طمعا فى إعادة ثقة كان قد فقدها لعائلة الأمير الحاكمة وهو كتاب اكتسب الإنتشار والصيت بما اشتمل عليه من نهج جديد جرد فيه السياسة من الأخلاق والمبادئ عبر العبارة سيئة السمعة “الغاية تبرر الوسيلة ” حيث اعتبر الغش وخداع المحكومين والبطش بهم إن دعت الضرورة وسائل
مقبولة للحفاظ على السلطة وبرر ذلك بأن المحكومين أنفسهم يمارسون الغش والكذب والخداع وإذا تمكن السياسى من خداعهم والإستحواذ على السلطة فذاك قمة النجاح وأكبر الخطايا أن يفشل فى ذلك . وعلى الحاكم حضور المناسبات العامة وتكريم أهل الفنون والإبداع وتكريمهم بالجوائز ليكسب شعبية بذلك وقبولاً
وعليه أن ينيب آخرين فى الأعمال غير المحببة والبغيضة لإلقاء اللوم عليهم لا عليه. لكن رغم ذلك نلاحظ
دور الميكافلية فى ترقية قيم الديمقراطية فى كتابه The Discourses الذى ذكر فيه أن ما أورده فى خطاب “الأمير” لا ينطبق على الدولة التى يعد سكانها من الأخيار وهؤلاء عكس أولئك الفاسدين يستحقون حكما ديمقراطيا وهو الحكم الأفضل والأرفع عن كافة أنماط الحكم الأخرى حيث يلزم أن يأتى الحكام برغبة ورضا الشعب.
أما الفيلسوف السياسى الذى عاصر ميكافلى فهو البريطانى االسير توماس مور بكتابه المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا Utopiaوهى كلمة يونانية قديمة من مقطعين ou ومعناها not وtopos ومعناها place وترجمة الكلمة الحرفية )اللا مكان ( أى شئ لا وجود له فى الواقع فهو أشواق تتوق إليه النفوس
وإصطلاحاً هو التصور المثالى للمجتمع المرجو. والكتاب يعد من بواكير مؤلفات عصر النهضة فى الفلسفة السياسية وهو يتحدث عن تصورات مور السياسية أو ما ينبغى أن تكون عليه السياسة فى المجتمعات الإنسانية فهو يتحدث عن جزيرة مثالية أسماها )يتوبيا( موجودة تخيلاً لا واقعاً – وهو اسم الكتاب- فىالمحيط الأطلنطى اكتشفها بمحض الصدفة بحار اسمه رافائيل هايثولودى فى البحار الجنوبية ولما عادوصف ما عليه الحال فى أرجائها حيث الاشياء فيها مشاعة بين الناس دون تمييز طبقى فالمنازل يبقى
السكان فيها لعشر من السنين ثم تبدل لكى لا تصبح ملكاً دائما لساكنيها كما يلزم أن يلتزم السكان بزى واحد… وهكذا شيوعية حقيقية يبدو جلي اً تاثير جمهورية إفلاطون على أفكار توماس مور وكما نرى على فلاسفة السياسة والإجتماع فى عصر النهضة.21

راسل )ورد آنفا( ص491 2020
بعد نحو ثلاثة عقود جاء فرانسيس بيكون البريطانى وهو من أشهر فلاسفة السياسة فى عصر النهضة حيث جدد يتوبيا مور بكتابه ) أتلانتس الجديدة ( وهى الأخرى جزيرة خيالية فى جنوب الأطلنطى يسكنها أناس
يرومون زيادة الإنتاج باستخدام الوسائل العلمية. يضطلع بمهمة البحث العلمى لترقية الزراعة ومكافحة الأمراض لإطالة الأعمار اثنا عشر طالبا فى الكلية.ومن هذا المركز البحثى تشع ثمرات بحث أولئك على
العالم أجمع. ويحكم الجزيرة مليك حكيم ومقتدر ويعيش المجتمع فى شيوعية حيث يتشاركون فى كل شئ
لكنهم يفضلون أن يتشاركون على قدم المساواة فى المعارف أكثر من حرصهم على المشاركة فى الماديات. ولا يخفى مرة أخرى أثر جمهورية إفلاطون هنا. لكن فرانسيس بيكون تميز بإنحيازه للبحث فى العلوم الطبيعية حيث أكد على المنهج الإستقرائي فى الوصول للحقائق بدلاً عن المنهج القياسى الذى كان سائداً .
وكانت تلك إضافة حقيقة لتطور العلوم . وقد طور أهمية التركيز على علوم الطبيعة بعد بيكون الفيلسوف جون إستيورات مييل. ولهذا يعد بيكون من فلاسفة العلوم السياسية والطبيعية ايض اً.
هناك ايضاً توماس هوبز الذى يعد مع فرانسيس بيكون من أهم الفلاسفة البريطانيين قبل جون لوك. وله
كتاب مشهور هوThe leviathanوهو يرمز لوحش بحرى ورد فى التوراة آملاً أن يكون الكتاب الذى كان يمجد الملكية ينال رضا الملك شارلس لثانى لكنه أغضبه عليه لأنه أجاز فيه خلع أى حاكم يفشل فى تحقيق السلام والأمن للمواطنين.اسهم هوبز فى بلورة الفكر المادى بجعل المادة هى الأصل وأن لا وجود للروح والعقل منفصلين عن المادة بل هما من إنتاجها عبر الحركة. وأنه يقبل الدين للمنفعة المتربة على الإعتقاد فيه لا على كونه حقيقة صادرة عن الله. وأن للإنسان الحق مثل الحيوان فى أن يقتل أو يقتُل وفقاً لقوته
المادية وأن الأقوى هو الذى على حق وأن الحق والصحيح هوما يتماهى وقانون الطبيعة. Might Makes Right
أعقبت هذه الحقبة فى تأريخ الفلسفة حقبة الفلسفة العقلية التى تسند المعرفة إلى العقل ورائد الفلسفة العقلية هو
الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت ) 1595-1551(صاحب فكرة الشك المنهجى.وتسمى مدرسته فى الفلسفة ب )كارتيشان فيلوسوفى( Cartesian Philosophy وملخص فكر ديكارت أن المعرفة لا تلتمس بالحواس فالإنسان يولد بالحدس الذى يريه الحقيقة .لذلك لجأ أولاً لإثبات الروح. فالإنسان إذا شك فى وجود نفسه فإن هذا الشك يثبت وجود ذات تشك. والذات التى تشك هى ذات مفكرة إذن “أنا أفكر إذن أنا موجود”. والأفكار المغروسة فى ذواتنا منذ الولادة واضحة ومتميزة و هى الحقيقة المطابقة لطبيعتنا وبالتالى فالحقيقة مصدرها العقل لا الحواس لأن ما تدركه الحواس لا يوجد دليل قطعى على وجوده حقيقية . وبالتالى فالحقائق الرياضية

المصدر السابق ص 122 21
والهندسية البديهية تعتبر حقائق ايضا لأنها بدهية وواضحة فهى حقائق عقلية أيض اً. وجاء فى إثره بنديكتإ سبنوزا متأثرا به فى الإستقراء وبفلسفة بيكون الطبيعية.
:The Enlightenmentعصر التنوير
أعقبت الفلسفة العقلية الفلسفة الحسية التى جاءت على يد الإنقليزى جون لوك )1522-1114( فيما عرف
بالمدرسة الحسية البريطانية وهى على نقيض الفلسفة العقلية تنكر وجود أفكار مسبقة يولد بها الإنسان
وتعتبر المعرفة نتاجا للحواس يكتسبها الإنسان اثناء فترة الطفولة أو بعد ذلك. وقد ضمن هذه الأفكار جون لوك فى كتابه “مقالة فى المعرفة الإنسانية ألفه عام 1591وقد اعتبره المؤرخون البداية لعصر التنوير.
وقد بنى جون لوك فلسفته الأخلاقية والسياسية على فلسفته القائمة على رفض الأفكار المسبقة على أن الأخلاق والفلسفة هى نتاج التجربة والخبرة الإنسانية وينبغى أن تقوم على إرادة الله والتقيد بها وهى القانون الطبيعى. وبالتالى تكون مقيدة بالعقد الإجتماعى القائم بين الحاكم والمحكومين فى نظام دستورى. ويرى لوك أن أعظم الخيرية هى السعادة وأن السعادة تتحقق بالرضوخ للقانون الأخلاقى.22
جاء بعد لوك الاسكتنلدى جورج بيركلى معارضاً تجريبية لوك معارضة جوهرية أنكر فيها وجود المادة وجوداً مستقلاً وعول على ما وراء الطبيعة وحده كوسيلة للمعرفة. لكن ديفيدهيوم )1111-1115( الذى جاء بعده شك فى المعرفة المرتبطة بما وراء الطبيعة وابتدر الحديث عن المعرفة القائمة على لعلم الرياضيات مؤكدا انها وحدها هى الحقيقة وما يترتب عليها من الحقائق التى تغتنى عبر التجريب بالحواس.
ومن الفلاسفة الفرنسين فى هذه الحقبة فولتير) 1594-1118(الذى تاثربالفلسفة الحسية البريطانية ونصب
نفسه داعياً لها فى فرنسا ودافع فى مجال السياسة عن حرية الأفراد فى مواجهة الكنيسة والدولة معاً متشرباً بالعديد من أفكار جون لوك . وكان يؤمن بالله إستناداً على النظام الذى يحفظ الكون لكنه كان يهاجم الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ويتهمها بإضطهاد الناس والخداع والشعوذة وكان يؤمن بان الإنسان مخير لا مسير.
تلت هذه الحقبة , حقبة المثالية الألمانية بظهور عمانويل كاط1724-1804(. والذى اعتبر كتابه ” نقد
العقل النظرى” عام 1181حقبة جديدة فى تأريخ الفكر الفلسفى تأثر كانط بمن سبقوه من الفلاسفة: ليبنيز, هيوم ونيتون وبدرجة اقل بروسو وفولتير. لذلك حاول فى نظريته للمعرفة الجمع بين المدرسية العقلية والتجريبية فرأى ان المعرفة تحدث بمعرفة قبلية يولد بها الإنسان بالإضافة إلى ما نتعلمه بالحواس والتجربة.
ويورد الدكتور جعفر شيخ إدريس التعريف الذى اختاره عمانويل كانط لحركة التنوير أو التنويرية بسؤاله ما هي التنويرية ويجيب كانط ” إن التنويرية هي خروج الإنسان من عدم النضج الذى فرضه على نفسه. عدم النضج هو عدم مقدرة الإنسان على أن يستعمل فهمه من غير إرشاد من غيره. يكون عدم النضج هذا

وليام ساكاهيان )وردت الإشارة إليه( ص 155-151 22
مفروضا على الإنسان من نفسه عندما لا يكون سببها عدم الفهم ولكن عدم العزيمة فى أن يستعملها من غيرإرشاد من غيره…. لتكن تلك الشجاعة على إستعمال فهمك.” هذا هو شعار التنويرية.”23
ومصدر هذا الفهم عند كانط هو الفلسفة العقلية التى تقول إن الإنسان يولد وهو يحمل بذرة المعارف a
priory وهو عندئذ لا يكون بحاجة إلى أداة أوشخص آخر ليدله على المعارف أكثر مما عنده. وهذا نجده عند ديكارت في الكوجيتو وحتى وجودية سارتر فى الفلسفة المعاصرة تحدثت عن الوجود والعدم وأن التسليم بقناعات الآخرين بالوجود والموجودات دون التحقق الذاتى من ذلك يفضى إلى الغثيان.
خلف كانط هيقل ) 1770-1831( وهو يعتبر أهم فلاسفة العصر الحديث. وهو الذى أحيا فكرة الديالكتيك وأن التأريخ يحكمه صراع الأفكار بين الفكرة ونقيضها وهكذا يحدث التطور الإنسانى فى خط مستقيم نحو
الأفضل على إعتبار أن كل الفكر الإنسانى وكل الحقيقة مضمخة بالتناقض وأن هذا التناقض يصطرع على هيئة فكرة ونقيضها صعودا إلى أصعدة أعلى وهكذا. ويعد هيقل إلى جانب الشعراء وردثورد وشيللى من الرومانسيين الذين اعترضوا على فكر التنوير الذى استند فقط على العلوم وأهمل الإنسانيات والفنون كالموسيقى والرسم والشعرالتى تستند إلى البعد الإنسانى.
الفسفة المعاصرة
يصف راسل المدى الممتد بين القرن التاسع عشر والعشرين بأنه شهد تغيرات هائلة. أتسعت رقعة الإهتمام بالمعمور ببروز روسيا وأمريكا.وشهد أيض اً تقدم العلوم فى مجالات البايولوجيا والجيلوجيا والكيمياء العضوية بما حقق إنتصارات كبيرة للبشرية كما أن إختراع الآلات )الماكينات( قد غير التراكيب
الإجتماعية للمجتمعات وم ك ن الإنسان من معرفة قدراته فى عالم الطبيعة كما شهد الفكروالسياسة والإقتصاد تمرداً غير مسبوق على الموروثات. وظهرت فى هذه الفترة الماركسية بظهور كارل ماركس فأفرغ ديلكتيك هيقل من مضمونه جاعلا الديالكتيك ماديا تحركه الأوضاع الإقتصادية وعوضاً عن صراع الأفكار أتى بصراع الطبقات الذى يشكل حركة التأريخ إلى غاياتها بقيام المجتمع الشيوعى الذى تنتهى فيه الطبقات وتتلاشى الدولة وتتحقق السعادة والرفاه الإنسانى على الأرض. وفى أمريكا ازدهرت الفلسفة البراقماتية
على يد ويليام جيمس وجون ديو وفى بريطانيا ازدهرت مدرسة الوضعية المنطقية على يد برتراند راسل وآخرين.
خاتمة:
وبعد يتضح مما تقدم أن الأفكار الفلسفية لعبت دورا كبيرا فى حركة التأريخ وفى التطور الإنسانى وأن تطور العلوم النظرية والتطبيقية جاء بالإضافة إلى وحى السماء والرسالات السماوية وفقا ً للتجارب الإنسانية وفقا ً لما ورد فى الحديث الشريف “انتم أعلم بأمور دنياكم”24. وواضح أن المسلمين قد افادوا من الفلسفة اليونانية القديمة عبر دار الحكمة التى أسسها الخليفة العباسى المأمون وأنها أنتجت علم الكلام. كما اسهم علماء الإسلام فى مجالات الرياضيات وعلوم الأحياء والطب كابن نفيس الذى اخترع الدورة الدموية

المصدر السابق ص 114 23 صحيح مسلم 24
الصغرى وابن الهيثم الذى اكتشف علم البصريات ثم الفارابى وابن سينا فى دفع حركة الحداثة الأوروبيةخاصة بعد أن زالت سطوة الكنيسة الكاثوليكية على الحياة فى عصر النهضة وأن رجلاً مثل ابن رشد الابن
قد أعاد الحياة إلى الفكر اليونانى الكلاسيكى متمثلاً فى فكر أرسطو وأنه بترجمته له قد أفادت أوروبا فائدة عظيمة حيث أحيت حقبة النهضة دور العقل فى الفكر الإنسانى وفتحت الطريق إلى عصر التنوير حيث
أصبحت الريادة للعقل والعلوم الطبيعية التى أفضت للإكتشافات وإلى قيام العالم المعاصر الذى نعيشه. لكن تأريخ أوروبا الذى قعدت به الفلسفة المدرسية فى العصر الوسيط وسطوة الكنيسة القاسية على الحياة العامة فى مجملها والتعارض الذى خلقه الكرادلة ورجال الدين بين العقل والدين قد أسهم فى نشؤ جفوة مفتعلة مع
الأديان لا زالت ماثلة حتى يوم الناس هذا.

الإحالات المرجعية:
المراجع الأجنبية باللغة الإنقليزية:
1-Bernal, Martin.(1987) Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilization . Rutgers University Press.
2-Miller ,David .(2003) Political Philosophy Oxford University Press.
3-Russell, Bertrand (1972). The History of Western Philosophy . Simon & Schuster.
4-Saharakian, Williams (1968). History of Western Philosophy From the Earliest Times to the Present. The Barnes and Nobel Outlines.
5-Trans, Richard (1991). The Passion of the Western Mind. Ballantine Books.
المراجع باللغة العربية:
5-الفارابى, أبونصر )2112 ( الجمع بين رايئ الحكيمين أفلاطون وأرسطو ) المكتبة العصرية .صيدا وبيروت( 1-شيخ إدريسو جعفر.)1422هه( صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامى مكتبة مجلة البيان- الرياض
8- عبد الله, عيسى. ) 2111( فى نظرية المعرفة أكاديمية الفكر الأكاديمى

©2115 جميع الحقوق محفوظة

تعليقات الفيسبوك