المجاز والحقيقة فى كون الصحراء مفازة!

تطلق العرب على الصحراء كلمة “مفازة ” وتجمع على مفاوز. والمفازة من الفوز والظفر وهى نقيض ما يرجى من الصحراء اذ أنها مظنة الهلكة لمن نفد زاده وماؤه هذا ان لم تنله سباعها ووحوشها الضارية . فكيف يكون ذلك؟ أورد الامام الرازى فى مختارالصحاح أن ابن الاعرابى قال انها من” فوز تفويزا أى هلك! الا أن الأصمعى وهو أرسخ قدما فى أسرار العربية قال: سميت بذلك تفاؤلا بالسلامة والفوز.وهذا باب فى العربية معروف أى عملية اطلاق الاسم الحسن على الشىء القبيح تجملا أو تفاؤلا مثلما يفعلون فى عالم الدواء يلبسون المر من الدواء حلة من السكاكر تيسر التذوق والازدراد معا!والصحراء فضاء فسيح تقل أسباب الحياة فيه وظنت العرب أنها موطن الجن والغول والعنقاء أما الخل الوفى فيقل فى عوالم الناس وفى دنياواتهم وان ظنوا غير ذلك.قال الشاعر محمود طه المهندس صاحب “الجندول” يصف حملة طارق بن زياد على أسبانيا: يا ابن القباب الحمر ويحك من رمى بك فوق هذى اللجة الزرقاءمن علم البدوى نشر شراعها وهداه للابحار والارساءالى أن يقول: بل أين من جن الجبال عرائس الدهماءولعل الشاعر الرقيق قد أخطأ فى صفة طارق الذى لم يكن بدويا ولم يعش فوق قباب الرمال الحمراء بل جاء من بلاد البربر فى شمال افريقيا وهى بلاد مخضرة كثيفة الشجر على سواحل المتوسط والى الداخل قليلا فى مناطق الجبال . لك أن تتحقق من ذلك بزيارة بجاية وعنابة وسوق أهراس وهى بلد الفيلسوف افلوطين أو ربما توما الأكوينى أحد دهاقنة الفلسفة المسيحية فى العصر الوسيط وهناك البليدة بلدة الزهور المستريحة عند سفوح جبال الشريعة التى يكلل الثلج هامها حتى فى الصيف! واسم ” طارق” مدرج فى موسوعة الأسماء الافريقية وكثيرا ما تجد أمريكيا من أصول افريقية يطلق على نفسه أو ولده اسم “طارق” فان وجد عندك استغرابا أشار الى افريقيانية طارق بن زياد!ولعل المهندس رمز بطارق الى الحضارة الاسلامية التى ترعرعت فى كنف الصحراء فلا تثريب عليه. ولما كان الشىء بالشىء يذكر فان صديقنا الدكتور الراحل الى غفران الله ورحمته ان شاء الله عبد العظيم عباس محمد كان قد اعترض اعتراضا وجيها على قول المهندس ونحن تلاميذ فى أميرية الخرطوم الوسطى ظنا منه أن المهندس قد أخطأ حين فضل أساطير الأوربيين فى عرائس البحر على أساطير العرب فى حكايات الجن الذى تجوب ذراريه أرض الجزيرة العربية فى قوله: بل أين من جن الجبال عرائس الدهماء.ساقنا الى هذا الاستطراد مقالة فى النيوزويك عدد 25 يناير لهذا العام مفادها أن الصحراء التى ظلت تبعث الحياة فى كوكب الأرض ضياء وطاقة ومخترعات لنحو قرن من الزمان بفعل انتاجها للزيت ستظل تمد الحياة بأسباب البقاء حقبا عديدة من الزمان بما تحوى من اللظى الحارق الذى جعلها تبدو للنظرة العجلى مكانا للتهلكة والفناء. جاء العنوان صارخا:هل تصبح الطاقة الشمسية التى تحرق الصحراء يوما ما مصدرا للطاقة فى كامل أوروبا؟ الحالمون يعتقدون ذلك!وتجد فى ثنايا المقالة أن الأمر تعدى مراحل الحلم الى اليقظة التامة فأقيمت صروح فى المغرب والجزائر وسلطنة عمان تبحث فى كيفية تحقيق الحلم.تقول الدراسة ان مساحة الصحراء الكبرى تبلغ 3 فاصلة 3 مليون ميل مربع أو ثمانية فاصلة ستة مليون كيلو متر مربع وأن المساحات الفارغة الجرداء منها حيث تصل درجات الحرارة فى منتصف النهار الى 113 درجة بالفهرنهايت ( 45 بنظام السيلساس) هى مكمن تحقيق الحلم الكبير: مد أوروبا بالطاقة لقرون قادمة وان العلماء والسياسيين على ضفتى المتوسط يدرسون الأمر بجدية تامة.يقول الباحثون ان مساحة 35 ألفا من الأميال المربعة أى نحو 1% فقط من المساحة الكلية للصحراء وهى مساحة تقل قليلا عن مساحة البرتغال قد تنتج طاقة كهربائية تفوق انتاج جميع محطات انتاج الكهرباء فى العالم مجتمعة. وطريقة انتاج هذا الكم الهائل من الطاقة لن تكون بتقنية استخراج الطاقة الشمسية الحالية التى تقوم بتحويل الطاقة الشمسية من الألواح المعدنية مباشرة الى طاقة كهربائية. توجد فى الصحراء منخفضات دون مستوى سطح البحر سيساق اليها الماء عبر جداول ثم تسلط عليها مرايا ضخمة تؤدى الى غليان تلك المياه لاستخراج مياه مقطرة نقية تمكن من استخدام طوربينات لانتاج الكهرباء ( أى بطريقة الهايدروليك) ثم تستخدم هذه المياه بعد استخراج الكهرباء لزراعة غابات واقامة واحات وارفات الظلال فى قلب الصحراء. لذا سمى المشروع ” مشروع غابات الصحراء.” وقد أقيم أنموذج له فى احدى صحارى كاليفورنيا منذ ثمانينيات القرن الماضى.تعترض المشروع صعوبات مثل ارتفاع التكلفة لذلك لا تزال الحماسة للشروع الجدى فى تنفيذه متدنية شيئا ما رغم أن الرئيس الفرنسى قد اقترح عند تأسيس الاتحاد المتوسطى الذى يضم 43 دولة فى أوروبا وشمال افريقيا والشرق الأوسط العام المنصرم الشروع فى اقامة المشروع . لكن ربما يكون الكساد الذى اصاب الاقتصاد العالمى منذ حين سببا فى بطء التنفيذ. ومن المعوقات أيضا أن محطات التوليد الحالية فى أوروبا مهترئة وقديمة اذ أن ثمانين بالمائة منها قد صممت لاستقبال التيار الكهربائى الناتج عن حرق الفحم الحجرى.تقول المقالة : رغم ذلك يمضى الحالمون بتنفيذ المشروع قدما فى مسعاهم فقد أقاموا محطات فى المغرب والجزائر ومصر تنتظر فقط مد الكوابل! يشد من عضدهم قرار البرلمان الأوروبى مؤخرا الداع لتقديم العون للمستثمرين الذين سيمكنون أوروبا بحلول عام 2020 من الحصول على عشرين بالمائة من حاجتها من الطاقة من مصادر بديلة للطاقة ( هوائية , شمسية…الخ). ونظرا لنشاط الخضر فى أوروبا الذين أصبحوا جزءا من مجموعاتها الحاكمة فى المحافظة على البيئة وتقليص ظاهرة الاحتباس الحرارى فلا بد أن يسترعى “مشروع غابات الصحراء” هذا اهتمامهم حتى يصبح جزءا من حملاتهم الانتخابية فى ظل التدهور المريع للمناخ فى العالم وانزلاقه المتسارع نحو ما لاتحمد عواقبه. ويجادل الحالمون المتعللين بارتفاع التكاليف بالقول : لنبدأ رويدا رويدأ واذا اتضح أن المشروع مضمون الربح فان الشركات ستأتى اليه هرولة ومن ورائها الحكومات. يقول أحدهم : ” واذا حدث ذلك فان ركاب الطائرات سيقومون يوما ما بتعداد المرايا والمساحات الخضراء ( فى قلب الصحراء) بدلا من البحلقة فى كثبان الرمل!)لعلكم ستوافقوننى الرأى بأن الصحراء ستصبح حينئذ حقيقة ومجازا معا مفازة تنقذ ذرارى آدم وحواء من ويلات الاحتباس الحرارى التى لا يعلم مداها الا الله. ليس ذلك وحسب بل ان الغنى الذى ساقه بترول الصحراء لأهله سيدوم بفعل اللظى الحارق الوافد علينا من السماء ولله الحمد والمنة!

تعليقات الفيسبوك