تتحدث نظرية زحزحة القارات عن عالم ضجر تتباعد الأسفار بين أجزائه كل يوم فأمريكا الجنوبية كانت وإفريقيا رتقاً انفتق. والبحر الأحمر الذي يفصل اليوم بين إفريقيا وآسيا لم يكن شيئاً مذكوراً قبل تصدع الأخدود الإفريقي العظيم الذي طوح بشبه الجزيرة العربية بعيداً عن القارة السمراء.
ويقول أهل العلم إنها (أي شبه الجزيرة) تتباعد كل عام عنها بما يقل قليلاً عن المليمتر الواحد. وأهل سبأ قديماً قد أصابهم الغثيان والملل مما كانوا فيه من النعيم المقيم ويسر العيش (أي أصابهم بطر النعمة) فدعوا على أنفسهم “ربنا باعد بين أسفارنا” فمزقهم الله شر ممزق فهاموا على وجوههم في أصقاع الأرض الممتدة خبط عشواء لا يلوون على شيء . فالفينيقيون يزعمون أنهم جاءوا في الأصل من اليمن بعد انهيار السد العظيم – سد مأرب – . والأمازيغ (البربر) في شمال إفريقيا يظنون أنهم جاءوا من هناك وملوك النوبة في وادي النيل قالوا لقدماء الرحالة العرب إنهم من قبيل حمير في اليمن وكذلك أهل الحبشة فهم من نسل ” حبشات” الحميرية. وإن صحت مزاعم جديدة بأن ملوك (المايا) الذين أسسوا حضارة إهرامات في أمريكا الوسطى جاءوا في الأصل من بلاد النوبة، يكون الحمريون قد أبعدو النجعة كثيراً.
لكن المفارقة تكمن في أنه بينما يتباعد المكان الجغرافي حسب نظرية زحزحة القارات فإن ثورة الاتصالات الحديثة تطوي المسافات بين الأمكنة طياً يجل عن كل وصف، وبوتيرة لا يمكن التنبؤ أصلاً بمداها ومنتهاها. فالعالم يصغر كل يوم وتتلاشى الحدود والحواجز بين أجزائه مهما تباعدت. وتتهاوى تبعاً لذلك الرؤى والنظريات بل النظم والقوانين التي تأسست في ظل الحواجز والحدود والحيطان. وتلك مؤشرات على انهيار النظام القديم ولا نعني بذلك النظام الدولي الذي يحكم العلاقات بين الدول وحسب، بل كل النظام الذي يعترف الآن وعلى مضض، وإن لم يحترم، الخصوصيات الحضارية والثقافية التي تتعايش على امتداد المعمورة اليوم وما يحتويه من النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذه نظم تحددها الخيارات الوطنية حتى الآن في كل بلد ويلعب الناخب الوطني دوره في تحديدها عبر مؤسساته الديموقراطية: دولة رعاية اجتماعية هناك, ودولة اقتصاد مختلط هنا أو دولة تسلس القياد لآليات السوق في مكان آخر. هل ستظل هذه الخيارات متاحة وممكنة التطبيق مع اندياح واقع العولمة اليوم؟ هذا ما سنحاول مناقشته باستعراض ثلاثة كتب صدرت مؤخراً متناولة هذه القضايا.
أحدث هذه الكتب، كتاب ديفيد روثكوف: الطبقة الممتازة أو الطبقة السيوبر كما سماها هو Super class : نخب العولمة والعالم الذي يصنعونه. ويعني بها طبقة من أثرياء العالم ومن مدراء كبريات الشركات المتعددة الجنسيات لا يتجاوز عددهم الستة آلاف شخص ينتشرون عبر القارات وينتمون لمختلف الجنسيات، تربطهم المصالح التجارية قد غدوا نخبة تتحكم في مصائر العالم كله دون الحصول على أية مشروعية أو تكليف للقيام بذلك، كون هذه النخبة ليست منتخبة من أحد لاتخاذ ما تتخذ من القرارات التي تؤثر عميقاً على حياة الناس في كل مكان. وفي كلمات الرجل: “إن لديهم المقدرة على التأثير على حياة ملايين البشر في مختلف أقطار العالم. إنهم طبقة القرن الحادي والعشرين الممتازة” ويصف الصلات التي تربطهم والولاء الذي يجمعهم بأنه يتفوق على كل ولاء لأي قطر أو أمة بعينها . أي إنه يعلو على ولائهم لأوطانهم. ويستطرد قائلاً إنهم “يصنعون عالماً غير متساو وغير مستقر”. وضرب لذلك مثلاً بالسيد استيفن شوارزمان مدير مجموعة “بلاك استون” فهو يحمل مؤهلات أكاديمية رفيعة من جامعتين مرموقتين هما (ييل) و(هارفارد )ويعمل رئيساً لمركز كنيدي للفنون والآداب كما أنه عضو في عشرات المجالس والهيئات داخل وخارج الولايات المتحدة. قال –ربما على سبيل المبالغة- ربما كان الرجل على بعد هيئة واحدة أو اثنتين فقط تفصلانه عن أي مركز سلطة فى العالم ! وله علاقات وطيدة بأثرياء على نطاق المعمورة مثل الهندى راتان تاتا (صاحب بصات تاتا) ورئيس المكسيك الأسبق ارنيستو زيديلو وأن هذه العلاقات والصلات تترجم إلى (أدوات نفوذ ورافعات) بالغة التأثير في صناعة القرارات في كل مكان.
يلزم أن نشير هنا إلى من هو السيد ديفيد روثكوف ليقيم القارئ قيمة ما أورده من معلومات في الكتاب وما خلص إليه من نتائج استنادا إلى تلك المعلومات. لقد عمل المذكور مديرا لشركة ” كيسنجر وشركاه” التي يملكها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنرى كيسنجر وعمل قبل ذلك نائبا لوكيل وزارة التجارة في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون. وهو الآن يترأس شركة استشارية يملكها إلى جانب كونه أستاذاً زائراً لدى مركز كارنجي أحد معاهد البحوث الهامة في واشنطن.
يتحدث الكتاب عن حقيقة أنه قبل نحو عقد من الزمان كانت(النخب الوطنية) النخبة السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة وفى الدول الغنية الأخرى إلى جانب التيارات المؤثرة في المجتمع هي التي تصنع الأحداث إلا أن ضعف الدولة القطرية وظهور قضايا ومشكلات دولية لا تعرف الحدود مثل الهجرة وتجارة المخدرات والإرهاب والجريمة المنظمة وتغير المناخ قد قلص من دور الدولة القطرية ودور السياسيين فيها كما أن تكلفة الحروب الحديثة الباهظة قد أدت إلى تراجع اللجوء إلى الحرب وأدى ذلك بدوره إلى تراجع دور النخبة العسكرية. ويدلل على ذلك بانخفاض الموازنة الخاصة بالدفاع فى الولايات المتحدة خاصة عند مقارنتها بأرباح شركتين فقط من شركات النفط هما موبيل واكسون التي تجاوزت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية وهى المرة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها ذلك. ووفقا لقاعدة” باريتو20/80″ الاقتصادية التي تقول إن عشرين بالمائة من رجال المال يحصلون على ثمانين بالمائة من الأموال فإن عشرين بالمائة من السياسيين يصنعون ثمانين بالمائة من القرارات المهمة فإن الكتاب عدهم لذلك السبب في زمرة الطبقة الممتازة التي تسيطر على العالم. ( قاعدة بريتو قاعدة وضعها الاقتصادي الإيطالي بريتو حيث وجد أن عشرين في المائة من العائلات في إيطاليا عام 1904 تملك ثمانين بالمائة من ثروة البلاد. قد تم التوسع في استخدام القاعدة بأن التأثير البالغ على كل نشاط يقوم به عشرون في المائة بينما يكون المتبقي (80%) متلقيا وأن الكثرة غثاء لا تأثير لها). تلزم الإشارة هنا إلى أن الوضع كان مختلفا قبل ظهور هذه الطبقة الممتازة التي لا تنتم لوطن بعينه حيث كانت النخب الوطنية هي التي تصنع الأحداث محليا وربما إقليمياً ودولياً حسب وزنها على الساحة الدولية وتأثيرها لكن ما أشرنا إليه من ضعف الدولة القطرية قد ترك فراغا ملأته هذه الطبقة (السيوبر) كما سيأتي بعد قليل وفى سياق مداخلة المؤلف التالية ذكر أن رئيس الولايات المتحدة يظل شخصية مؤثرة على المسرح العالمي لكن ليس كما كان دوما بل سيتضاءل دوره كل عام طردياً مع تزايد قوة الطبقة الممتازة.
وفى حديث لمؤلف الكتاب شارك فيه إلى جانبه ريتشارد شبيرو مؤلف أحد الكتب الثلاثة موضوع هذه المقالة بعنوان Future cast يوم 4 مايو من العام 2008م في إطار برنامج يعده مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بعنوان “القوة الذكية” يسعى لتقديم النصح للرئيس الأمريكي القادم لينتهج سياسة حكيمة ذكية تحسن استخدام القوة التي تملكها الولايات المتحدة لتبدو بغير الصورة التي انطبعت عنها في أذهان الملايين عبر العالم عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي بدت فيها كمارد عظيم القوة غضوب لا يحسن سوى الطعان واللعان معا. استضاف المركز المؤلفين المرموقين ليرى كيف يخدم كتابيهما السلام والاستقرار في العالم بما يساعد في تحسين صورة أمريكا كقوة خيرة رحيمة تسعى لإشاعة الخير لا كقوة غاشمة تتلهف على التدمير.
قال روثكوف في ذلك اللقاء الذي قدم فيه كتابه إنه حتى وقت قريب كان المؤثرون على صناعة الأحداث حتى على نطاق العالم يحسبون على القطاع العام أما “الطبقة الممتازة” فهي تنتم بالكامل للقطاع الخاص وأنها لم تنشأ عبر مؤامرة ولكنها طبقة استغلت الفراغ الذي تركته المؤسسات الدولية التي وصفها بأنها واحدة من اثنتين “إما ضعيفة أو معطوبة و عاطلة عن كل إنجاز!” .
وقال إن الأمر المقلق أن هذه الطبقة قد جاءت نقيضا لكل ما نعرف من مؤسسات الضبط التي تراقب الأداء العام للحكومات والمنظمات عبر المؤسسات الديمقراطية حيث أنها لا تخضع البتة لأي نوع من الرقابة وإمكانية المسائلة وعقيدتها تنحصر في ترك كل شيء لآليات السوق وحدها فيما يمكن أن نطلق عليه ” أصولية السوق” Market Fundamentalism
وقال إن الأمر الأخطر أنه توازياً مع ظهور هذه الطبقة تفاقمت مشكلة الفقر في العالم وأن الطبقة الوسطى آخذة في التلاشي في كل العالم فيما عدا في الصين والهند وأن التفاوت بين الفقراء والأغنياء بين الدول وفي نطاق الدولة الواحدة قد تضاعف فقبل مائة عام كانت الدول الغنية تفوق الدول الفقيرة غنى بنسبة واحد إلى تسعة بينما يبلغ التفاوت الآن مائة مرة وأن ما يملكه ألف ومائة شخص هم أغنى أغنياء العالم يفوق ما يملكه 250 مليار شخص في العالم الفقير مرتين! ويرى أن الحل يكمن في قيام مؤسسات دولية فاعلة تصلح هذا الخلل الفادح الذي يهدد الاستقرار في العالم وقال إنه لا سبيل إلى مقاومة العولمة وأن الخروج عليها ليس متاحا في الأصل ولكن توجد إمكانية لوقف تأثيراتها السالبة بوجود سلطة دولية تقوم بتلك المهمة.
خلص السيد ديفيد روثكوف إلى أن عشرين في المائة من سكان المعمورة يستأثرون بثرواته بينما تعاني الغالبية العظمى من شظف العيش ولظى المسغبة. وقال في مداخلته التي أشرنا إلى أنها كانت في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن أنه قد جاء إلى هناك من محطة إذاعية في سياق برنامج إذاعي استضيف للحديث فيه عن كتابه الذي ذكرنا “الطبقة الممتازة” أو “السيوبر” أو “السوبر” وأن أحد المستمعين قال له عبر الهاتف “إنك في زمرة هذه الطبقة الممتازة”. ” هل صحيح أنكم سوف تستخدمون علم تحسين الجنس البشرى “يوجنكس” لتحويلنا معشر الثمانين في المائة من سكان العالم إلى فقمات ( الفقمة هي عجل البحر) مروضة تسيرونها حسبما تريدون؟” والفقمة تدرب للقيام بحركات يشير بها عليها مدرب حاذق لتسلية النظارة فى أحواض مراكز الألعاب الشهيرة مثل ديزنيلاند وغيرها. وقال انه للمفارقة عين ماذهب اليه فى تشبيه سطوة نخب العولمة على سائر ولد آدم لكنه تعهد مازحا أنه لن يستخدم مثال الفقمة مجددا لأنه أقحم-ربما- فى طبقة الجبابرة التى أصدر كتابه الذى يحوى أربعمائة صفحة للتحذير منها!
الكتاب الثاني من تأليف الدكتور روبرت شوبيرو بعنوان ” : Future cast وترجمة لمعنى العنوان:” تنبؤات مستقبلية: كيفية تأثير القوى العظمى والسكان والعولمة على نمط حياتك وعملك.”
والدكتور روبرت شوبيرو عمل كبيرا للمستشارين الاقتصاديين لحملة الرئيس كلينتون الانتخابية عام 1992 وهو الذى تنبأ وقتها بتأثيرات العولمة على الاقتصاد الأمريكي ووضع خطة للتعامل معها تبنتها إدارة كلينتون ثم أصبح يبن عامي 98 و2001 وكيلا لوزارة التجارة خلال عهد الرئيس السابق بيل كلينتون الثانية وهو الآن رئيس مبادرة العولمة في معهدNDN أحد مراكز البحوث في واشنطن. ونشير إلى أن رئيس الجلسة التي جمعت بين المذكور والسيد ديفيد روثكوف في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية هو السيد شارلس فريمان رئيس كرسي الصين في المركز وقد عمل في السابق مساعدا لممثل الولايات المتحدة التجاري( وممثل الولايات المتحدة التجاري بمثابة وزير التجارة الخارجية وهو عضو في مجلس الوزراء وكان السيد روبرت زيلك يشغل هذه الحقيبة قبل أن ينتقل إلى وزارة الخارجية) وقد لعب دورا مقدرا في وضع سياسات الإدارة السابقة التجارية نحو الصين وتايوان وهونغ كونغ ومنغوليا. والسيد فريمان ترعرع متنقلاً بين آسيا والولايات المتحدة ويتحدث لغة الماندرين السائدة في الصين.
يشير الكتاب إلى التغيرات العميقة التي ستحدث خلال المدى القريب على أوضاع العالم بسبب شيخوخة السكان في المجتمعات الصناعية خاصة في أوروبا واليابان ( أمريكا تعالج هذه المشكلة بأبواب الهجرة المفتوحة) ثم بفعل العولمة وصعود وهبوط قوى عظمى وبروز دول أخرى جديدة. وقد أشار المذكور خلال مداخلاته في الجلسة المشار إليها آنفا إلى أنه يتفق كثيرا مع توقعات وطروحات زميله السابق روثكوف إلا أنه لا يشاطره التشاؤم حول مستقبل الولايات المتحدة وموقعها في صدارة العالم ويرى أن الولايات المتحدة فى مقدورها معالجة أكبر معضلتين تواجهان اقتصادها اليوم وهما تزايد تكاليف التأمين الصحي وارتفاع أسعار الطاقة. وقال إنه وبإرادة سياسية تستطيع الولايات المتحدة خفض فاتورة الطاقة بالبحث عن بدائل للطاقة المستوردة والاستثمار المكثف في مصادر الطاقة البديلة وتستطيع أيضا خفض تكلفة التأمين الصحي لمجتمع تتزايد فيه نسبة المسنين. ذلك سيمكن الولايات المتحدة من البقاء في ريادة العالم كقوة عظمى وحيدة وستصعد الصين كقوة اقتصادية مؤثرة على حساب اليابان وأوروبا.
وتحدث بإسهاب عن تأثير الصين الاقتصادي فقال إن الصين قد انتهجت نهجاً مغايراً جداً للنهج الذي كان سائدا في العالم حيث كانت الولايات المتحدة وأوروبا والهند تضع الحواجز وتبني الأسوار بتشريعات حمائية لحماية صناعاتها حتى تقوى على المنافسة في السوق العالمي ثم تفتح بلدانها للاستثمارات الأجنبية. إلا أن الصين واستناداً إلى نصوص منظمة التجارة الدولية قد أزالت وحطمت كافة الحواجز والقوانين المقيدة جملة واحدة وفتحت أبوابها على مصارعها للشركات المتقدمة جداً في مجالات الصناعة للاستثمار في الصين ولم يكن في مقدورها أن تفعل ذلك لو لا العولمة. ثم أغرقت الأسواق في تايوان وإندونيسيا ومصر وغيرها بمنتجاتها وقدمت الصين بذلك نسخة جديدة لنشر الحداثة – على حد قوله-. وقال إن جملة صادرات الصين قفزت من 65 مليار دولار عام 1995 إلى 800 مليار دولار العام الفائت. وأن الصين تصدر ثلث ناتجها القومي. ووصف الظاهرة الصينية بـ “السونامى الصينى!”. وقال إن تأثير صعود الصين الاقتصادي على الولايات المتحدة تأثير غير مباشر حيث أن الولايات المتحدة لم تعد تصنع المنتجات التي تصنعها الصين وبالتالي فليس هناك تنافس على الأسواق كما أن الكثير من المنتجات الصينية تصنعها شركات أمريكية داخل الصين لكن إغراق الأسواق بالمنتجات الصينية قد حدا بدول إلى الخروج من تلك الصناعات إلى غيرها مما دفع تلك الدول للدخول في استثمارات أخرى مثل الاستثمار في مجال الطاقة وهو مجال يدخلها دائرة المنافسة مع الولايات المتحدة .وأكد أن ظاهرة هجرة الصناعات الثقيلة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية مثل الصين والهند واندونيسيا ورومانيا وتركيا والمكسيك ستستمر إلا أن ذلك رغم تأثيراته على سوق العمالة إلا أن الولايات المتحدة لن تتأثر سلبا به لأن اقتصاد الولايات المتحدة يعتمد باضطراد على المنتجات غير الملموسة أو المرئية Intangible products مثل قواعد المعلومات وبرامج الحاسوب وشبكات المعلومات والسندات المالية وأسواق الأوراق المالية والبحوث إلى غير ذلك من السلع غير الظاهرة للعيان. وذلك مصدر تفاؤله بمستقبل اقتصاد الولايات المتحدة واحتفاظها بموقع الريادة في العالم.
علق ديفيد روثكوف على ذلك التفاؤل بالقول – مازحا- “هذا تفاؤل مفرط!” مشيراً إلى أن الشروط التي أوردها شبيرو لتفادى تعقيدات المستقبل من الصعوبة بمكان تحقيقها حيث أن بدائل الطاقة الباهظة الثمن(النفط) مثل الاثنول قد تغطي في أفضل الحالات في المستقبل المنظور 12% فقط من احتياجات الطاقة يضاف إلى ذلك أيضاً تأثيرات ذلك على إنتاج الغذاء كما أن اللوبيات (لوبيات النفط) القوية في واشنطن تعرقل المجهودات المصوبة لتطوير الطاقة الشمسية كما أن بدائل مثل الفحم الحجري لا تجد حماسة عند الكثيرين.
وقال إن التدابير المشار إليها لن تحول دون نهم نخب العولمة التي تعمل في حل تام عن أي اعتبارات أخلاقية وأن سعيها نحو الأرباح فقط سيبدد كل جهد للإصلاح. وقال إن تلك النخب بحاجة إلى كوابح أخلاقية تعلي من قيم الصالح العام وتعلو فوق اعتبارات الربح. وأبدى خشيته من أن يلجأ الرئيس القادم تحت ضغط الرأي العام الساخط على هجرة الصناعات إلى الخارج وضياع الوظائف إلى إجراءات حمائية ونقدية والدخول في صراعات مع الصين التي يرى فيها عاملاً مهماً ينبغي التفاهم معه على استقرار العالم. لكنه عاد مستدركاً ومازحاً “لا تقلقوا فسرعان ما يغير المتسابق على الرئاسة مواقفه بعد الوصول للبيت الأبيض بفعل الواقع الذي يختلف عن شعارات الحملات الانتخابية”. أي وبالعربي الفصيح أن ضغوط الواقع الثخين تجعل “كلام الليل يمحوه النهار!”.
ثالث الكتب موضوع هذه السلسلة وأكثرها تفصيلاً في صعود نخبة العولمة وأثر ذلك السالب على مجمل الحياة ومستقبل الديموقراطية كتاب الأستاذ الجامعي الراحل كريستوفر لاش:
The Revolt of The Elites And The Betrayal of Democracy
ويمكن ترجمة ذلك إلى: ثورة أو تمرد النخب وخيانة أو خذلان الديمقراطية. ويحمل هذا الكتاب نبوءة إذا ما قارناه بالكتابين موضوع الحلقتين السابقتين واللذين صدرا قبل قليل وطرقا على موضوعات تحدث عنها هذا الكتاب الذي مات مؤلفه عام 1994م وصدرت أولى طبعاته عام 1996 وظل لبعض الوقت على رأس قائمة أكثر الكتب مبيعات على مستوى الولايات المتحدة.
وكان الأستاذ كريستوفر لاش أستاذا للتاريخ في جامعة روشستر شمال ولاية نيويورك وله عدة مؤلفات مهمة. وقد عالج قضية هذا الكتاب بعمق أكثر مستعيناً تقريباً بنتائج العلوم الاجتماعية جميعاً. وسوف أعمد إلى تفصيل فيه أكثر فقد غلب في ظني من خلال مطالعتي المتأنية في أجزائه أنه رغم اتساع البون بين مجتمعاتنا والمجتمع الأمريكي من حيث اختلاف الثقافتين والتراكم المعرفي الذي تترتب عليه اختلافات أخرى ومنظومات لمشكلات متباينة لا تتطابق, أن هناك الكثير من أوجه التشابه في القضايا والمشكلات التي مصدرها من ناحية: وحدة النوع الإنساني والمتعالية على الفوارق الثقافية و الحضارية والتي لا تتأثر بالتراكم المعرفي أو التجارب. من ناحية أخرى فإن العالم الذي توثقت عرى التواصل بين أجزائه بفعل العولمة يتعرض كله الآن لذات المؤثرات التي لا تعرف الحدود والعابرة للحواجز القديمة ونحن جزء من ذلك العالم. وبهذا الفهم قدرت أن في بعض ما ذهب إليه الكاتب من تحليلات وتشخيص لبعض أدواء مجتمعه عبر وعظات تستقى. وربما كان في عمق التحليل الذي صبر على كظاظته وهو في أخريات أيامه، إذ لم يعد له في الدنيا من أرب سوى أن يسهم في تصحيح مسار أمته في تجرد وموضوعية ووفاء لمنظومة من القيم الخيرة التي يراها ضامناً لمستقبل آمن في عالم يموج بالتغييرات، قدوة لمثقفينا ومفكرينا في أن يحذوا حذو الرجل وأن يدعوا جانباً الخصومات الصغيرة وأن يتفطنوا لما يحيط بالبلاد من مخاطر وأهوال.
يقع الكتاب في 276 صفحة من القطع المتوسط ومقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسة يحتوي كل جزء على ثلاثة فصول. يتناول الفصل في أربعة فصول التفاوت الطبقي والتغيرات التي أدت إلى اضمحلال الطبقة الوسطى كطبقة ضامنة للتوازن الاجتماعي ويناقش في استفاضة الآراء المتباينة حول الفرص المتاحة عبر آلية التعليم كسلم ديمقراطي حر يتيح لكافة قطاعات المجتمع الصعود الاجتماعي والاقتصادي إلى أعلى. ثم ينتقل في الجزء الثاني الذي جعل عنوانه “الحوار الديمقراطي في اضمحلال” وهو مكون أيضاً من أربعة فصول عن التغيرات التي أدت إلى صعود نخب العولمة على حساب النخب الوطنية الأمر الذي أضعف آليات المجتمع ومؤسساته المدنية في التأثير الإيجابي في تقوية التلاحم الاجتماعي حيث قل التواصل الاجتماعي الذي كان سائداً عبر علاقات الجوار بين المواطنين في كل منطقة سكنية والدور الرقابي الاجتماعي الطوعي الذي يقوم به رموز المجتمع في كل جوار كصاحب البقالة والحلاق والمقهى وشرطي الحي حيث يختلط الناس بصورة عفوية يتناقشون في شئون السياسة والحياة .( شيء مثل دكان ود البصير أو الدكاكين في القرى حيث يتسقط الناس الأخبار ويتجادلون حول الشأن العام وربما الأندية الثقافية والرياضية).
يقول الكاتب إن قيام الضاحيات الغنية في أطراف المدن قد أدى إلى زوال هذا التعاطي الضروري في تقوية الحوارات الديمقراطية وأقام محل المقاهي والمطاعم الشعبية وسواها من أماكن التجمع التي يفد إليها سكان الأحياء، الأسواق المسقوفة المغلقة Malls التي ينعدم فيها مثل ذلك الحراك الاجتماعي.
أما القسم الثالث والأخير فقد أفرده للروح ومكانة الدين كمصدر أساسي للقيم مفنداً الرؤى التي تذهب إلى غير ذلك. وقد أطلق على هذا القسم بأجزائه الأربعة عنواناً مثيراً هو “ليل الروح الحالك” تناول فيه تصحيح المفاهيم الخاطئة حول دور الدين مشيراً إلى الفارق بين الدين والثقافة وأن المؤسسات الدينية كدور العبادة والهيئات الدينية وحتى رجال الدين قد يعد ذلك كله مؤسسات ثقافية لكن الدين يبقى غير ذلك. فهذه المؤسسات قد تخطئ وقد تنصب نفسها قيماً على الأخلاق وعلى تحديد الصواب والخطأ. لكن من الخطأ الجسيم محاسبة الدين على أخطاء هذه المؤسسات. وفى هذا الصدد ناقش باستفاضة آراء فرويد وأوسكار وايد وغيرهم في هجومهم على الدين باعتباره مرحلة طفولة تجاوزها الإنسان.
ونعود إلى استعراض الكتاب بشيء من التفصيل فنقول إن عنوان الكتاب جاء مشابهاً لكتاب تمت ترجمته إلى الإنجليزية في ثلاثينيات القرن الماضي لهوزى أورتيغا غاست بعنوان “تمرد الجماهير” ذلك أبان حمى التحولات الاشتراكية وثوراتها في روسيا وغيرها أنحى فيه الكتاب باللائمة على الجماهير في تهديد الديموقراطية السائدة في المجتمعات الغربية بينما يرى الأستاذ لاش في كتابه موضوع هذه الحلقة أن التهديد الحقيقي للديموقراطية اليوم لا يأتي من قبل الجماهير كما كان الحال عند صدور كتاب أورتيغا إلا أنه يأتي من قبل النخب في قمة الهرم الاجتماعي، تلك النخب التي تواثقت مع نخب على امتداد العالم بشبكات اتصالات ومصالح مشتركة رافضة قبول الحدود والارتباطات التي تشدها إلى أمم أو أمكنة بعينها. ثم يوجه نقده إلى النخب الأمريكية ويقول إنها بانغلاقها على شبكات علاقاتها الدولية الجديدة وتحصنها داخل شرنقات تلك الدوائر فإنها تتنكر للطبقة الوسطى وتساهم في تقسيم الأمة وتخون الديمقراطية التي تحقق المساواة في المواطنة بين كافة الأمريكيين. والكتاب يعد دعوة للعودة إلى قيم المجتمع وعودة للتمسك بالدين وتحمل المسؤولية.
يقول في التعريف بالكتاب:” في الماضي حمل كتاب “تمرد الجماهير” الجماهير ( أي الطبقات الفقيرة العامة) جريرة تهديد النظام الاجتماعي وقيم الثقافة الغربية المتحضرة. ولكن في وقتنا الراهن فان التهديد الرئيس يأتي من قمة الهرم الاجتماعي لا من الجماهير. هذا الانعطاف البارز في مجرى الأحداث يفند كل التوقعات ويقلب الافتراضات المعتمدة لحقب من الزمن رأسا على عقب.”
ويلخص سطوة النخبة الجديدة بالقول إنها تسيطر على انسياب الأموال والمعلومات وتسيطر على المؤسسات الكبرى وعلى وسائل إنتاج الثقافة في العالم وبالتالي تجديداً مطلقة في تحديد مواضيع الحوارات العامة والتي تجنح إلى التهجم على القيم الغربية أو ما تبقى منها. ويذهب فيما سيأتي إلى أنها تسعى لإحلال رؤى ما بعد الحداثة المناهضة للثوابت في الحياة محل كافة القيم القديمة. عالم جديد مثلا؟
في تأكيده للفكرة الرئيسية للكتاب وهى أن النخبة هي التي تصنع الحضارة الغربية الديموقراطية عقد الدكتور لاش مقارنة بين صفات “الجماهير” التي عددها أورتيغا في كتابه عن ثورة أو تمرد الجماهير الذي أنحى فيه باللائمة على العامة والغوغاء وقود ثورات القرن العشرين وأدوات التغيير فيه، في إضعاف وتهديد ذات الميراث الديموقراطي الغربي ليخلص إلى أن تلك الصفات السالبة لا تنطبق اليوم إلا على النخبة المتعالية في أبراجها العاجية المشغولة فقط بارتباطاتها ومصالحها المتعدية الجنسيات.
من تلك الصفات السالبة التي دمغ بها أورتيغا العامة أو على الواحد منهم، بغضهم للفردانية والامتياز وجهلهم بهشاشة المدنية وأنها ليست سرمداً بلا أمد وأنها يمكن أن تنتكس وتعود الحياة القهقرى إلى أوضاع أحط، أي إنها ليست في صعود دائم من غنى إلى غنى، ومن رفاهية إلى ما هو أكثر رفاهية و”إمكانات لا حدود لها وحريات مطلقة”- مثلما صور للناس ميراث عهد التنوير والحداثة – وأن الواحد منهم همه الأوحد مصالحه الذاتية، وأن مجمل علاقاته علاقات تمليها الرغبات الدنيا والضرورات فمثلاً علاقاته بالنساء علاقات بهيمية تفتقر إلى الرومانسية، كما أن نظرته إلى جسده نظرة عملية تنحصر في أخذه بالرياضات حتى يكون سليماً قوياً يطيل عمره ويؤكد شبابه الدائم ويجعله قابلا للزواج في أي سن من سني عمره الطويل!
ويخلص أورتيغا إلى أن الواحد من العامة أو الجماهير “هو طفل الإنسانية المدلل الذي أفسده الدلال”. والمقصود هنا بواحد “الجماهير” ليس دوما الأمي الجاهل ولكن عنى به أورتيغا مستنير من طبقة الشغيلة العاملة الثائرة على القديم يمكن أن يكون مرادفه فى اللغة “رجل العلوم” أو الرجل الذي يؤمن بالعلم الطبيعي ودوره في ترقية الحياة، أو “التقني المتخصص”، أو “المتعلم الجهول الذي لا يضاهى معرفته بتخصصه الدقيق إلا جهله المطبق بما سواه!”.
وتجنباً للاسترسال والإطالة نكتفي بالقول أن الدكتور لاش ينتقد هنا فكرة الليبراليين القائلين بأن التطور المهم في مسيرة الإنسانية وبلوغه مرحلة الحداثة قد خلق فرصاً متساوية للناس جميعاً بقطع النظر عن طبقاتهم في الصعود الاجتماعي والاقتصادي إلى أعلى عبر النشاط الحر للأفراد والكسب الشخصي لهم وفقاً لقدراتهم العقلية وبمقدار جهدهم وأن هذا التطور المهم قد حل محل النظم الوراثية التي كانت سائدة قبل ذلك حيث كانت الثروة تورث وبالتالي الأوضاع الطبقية للأفراد وأن غاية هذا التطور المهم في مسيرة الإنسانية والذي أتاح الفرص للجميع في مضمار التنافس الحر وفقاً للقدرات الذاتية، هو النجاح الاقتصادي واكتساب الثروات عبر هذا الطريق فيما عرف بمفهوم Meirtocracy (أي بتحديد مكانة الأفراد وفقا لقدراتهم وجدارتهم الخاصة” وأصلها كلمة meirt أي قيمة الشيء في ذاته “لا عبر معايير خارجية لا صلة لها بهم كالوراثة) ويقول لاش هكذا تبدو (الميروتوريا) في الظاهر والتسمية مرادفاً للديموقراطية حيث مضمار التسابق مشاع للجميع. لكنه يقرر أن “الميريتوريا” هذه هي المسخ المشوه للديمقراطية أو هي “البرادوريا” أو المحاكاة الساخرة لها.
يقول الدكتور لاش كل ذلك قد تغير وأصبحت هذه الصفات المذمومة ألصق بعلية القوم لا بفقراء الطبقة الوسطى والعامة. لم تعد طبقات العامة والشغيلة ترى عالما لا محدود الإمكانات والفرص فقد تقاصرت كل الحركات الراديكالية والثورية ولم نعد نسمع بها. وحتى الحركات الأنثوية وحركات الأقليات العرقية وغيرها مثل حركات المثليين أصبح هدفها وغاية نضالاتها الاندماج في المجتمع بالقبول لا الانقلاب عليه. و أضاف مؤكدا أن التيارات الفقيرة اليوم أقرب إلى التيار المحافظ منها إلى التيارات الليبرالية فهي ضد الإجهاض وأحرص على بقاء الأسرة بمعناها التقليدي كمؤسسة ضامنة لسلامة وبقاء المجتمع.
ويرى أن الليبراليين في قمة الهرم الاجتماعي لا يدركون أهمية التباين في الدخول والثروات بين أفراد المجتمع وهو تباين تحتل فيه الطبقة الوسطى الحيز الأكبر الضامن لاستقرار المجتمع. ويقول إن منحى حركة التاريخ في الآونة الأخيرة أصبح يسير في اتجاه خلق طبقتين فقط: طبقة قليلة العدد تحتكر الثروة والسلطة والتعليم وأخرى معدمة. ويقول: صحيح أن الثورة الصناعية والحداثة قد أتاحت رفاهية لقطاعات واسعة في المجتمعات الصناعية كانت حكرا قبل ذلك على الأغنياء إلا أن المخيف حقاً الآن هو أن الرفاهية ورغد العيش بدأ يصبح مزية لأعداد أقل وحكراً على طبقات قليلة العدد في قمة هرم السلم الاجتماعي. أورد بعد ذلك إحصائيات تشير إلى تزايد أعداد الفقراء في العالم وضمور مضطرد للطبقة الوسطى في كل مكان واختفاء تام لها في بعضها وهو عين ما ذهب إليه كتاب كروثوف الذي تناولته الحلقات السابقة ويشير إلى ظاهرة تريف المدن واكتظاظها بالسكان مشيراً إلى نبوة الكاتب بول كنيدى بأنه بحلول عام 2020م ستكون هناك أكثر من عشرين مدينة في العالم يربو عدد سكانها على الأحد عشر مليوناً من السكان سماها: المدن المتضخمة mega cities وقال إنه من اليسير التنبؤ بتأثير ذلك على نسبة توافر السكن والخدمات الصحية والنظافة ووسائل النقل إلا أنه من العسير التنبؤ بالآثار”الجهنمية” الناجمة عن ذلك والتي يستعصى التكهن بها حتى على أكثر أنواع الخيال جنوحاً!
يقول: والتفسير الصحيح لهذا التطور ليس هو اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وحسب لكنه التعبير الصارخ عن أزمة زوال الطبقة الوسطى وبالتالي اضمحلال الديمقراطية. حيث أن نخبة العولمة قد انتقلت إلى الضاحيات الراقية في أطراف المراكز الحضرية وأقامت هناك مدارسها ومؤسساتها المدنية وأصبحت ارتباطاتها ومصالحها خارج الوطن. وبالتالي انعدم الحوار الديمقراطي العفوي الذي كانت تديره الطبقة الوسطى. لذلك فالديمقراطية في ضمور واضمحلال. ويخصص الكتاب الجزء الثالث والأخير لمسائل الأخلاق والقيم المستمدة من الدين والغارة المنظمة التي صوبت نحوهما فأصابت ذلك جميعا في مقتل.
خصص الكاتب فصلا كاملا عن دور سيغموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي في علم النفس تحت عنوان ” إلغاء مفهوم العيب”. مشيراً إلى أنه رغم أن مدرسة التحليل النفسي قد انهارت كعلم بصدور كتاب ليون ورمسير “قناع العيب” عام 1981م حيث تعرضت لأكثر حملة انتقاد وتفنيد علمية لنتائجها واعتبرت “لا علم” إلا أن آثارها على الثقافة الأمريكية كانت كارثية بكل المقاييس. فإحلال فكرة “العلاجية” محل الكوابح الذاتية المستمدة من قيم المجتمع ومعتقداته كالشعور بالخجل بارتكاب أمر معيب في معتقدات المجتمع “عيب” أو الشعور بالذنب عند اجتراح خطيئة واعتبار أن الخطايا مسؤولية المجتمع واللجوء إلى الأسلوب “العلاجي” لتخليص الفرد من هذا الشعور واستعادة الثقة بالنفس واحترامها عن طريق إقناعها بأنه ليس ثمة خطأ فيما اقترفت. . هذا المنهج قد خلق ثقافة إباحية لا تخجل من شيء. وقال إن المجتمع الأمريكي يبدو متديناً بمعيار اختلاف الناس إلى الصلوات في الكنائس والاحتفال بالمناسبات الدينية وفي الحرص على بعض الطقوس والمراسم لكن سلوك الفضيلة قد أصيب إصابة بالغة بالقضاء على فكرة العيب والشعور بالذنب عند ارتكاب الخطايا والآثام. وقال إن العلاج النفسي الذي أدار ظهره لمدرسة فرويد ظل وفياً لميراثها في تحطيم المعتقدات الدينية وتنكره لقواعد العفة والطهر وأصبحت وسائل الإعلام لا ترعوي من عرض كل أمر جارح للشعور والذوق العام والأخلاق دون وجل من أي ردة فعل من الناس. بل أصبحت أوصاف مثل “مخالف للأخلاق” و “همجى” و”منحرف” أحكاما قيمية تصدرها الطبقات المحافظة المتعالية لا غير.
يتضح من استعراضنا لكتاب الدكتور لاش في ثنايا الحلقة الرابعة من هذه المقالة أن الرجل يعد في زمرة المثقفين المحافظين التقليديين. ونقول التقليديين تمييزاً لهم عن المحافظين الجدد. والمحافظون التقليديون ظلوا قبل وصول الرئيس الأمريكي (جورج بوش الابن) يمثلون التيار الغالب في الحزب الجمهوري. وقناعات هذا التيار في الجانب السياسي تتمثل في حكومة اتحادية صغيرة الحجم وأقل تدخلاً في حياة الناس وحازمة إزاء قضايا الدفاع والأمن القومي. وفي الجانب الاقتصادي ترى تشجيع رأس المال للاستثمار وخلق الرفاهية للجميع بتخفيض الضرائب عليه والحد من الإنفاق الحكومي إلى أقل حد ممكن بإلغاء البرامج الاجتماعية الحكومية كالقروض الميسرة التي تمنح للطلاب من الطبقات الفقيرة وإلغاء نظام (الكوتات) للتميز الإيجابي للطبقات التي عانت من الظلم في الماضي وما إلى ذلك من أمور على اعتبار أن الرفاه وتقليص الفقر تصنعه آليات السوق وأن التدخل الحكومي يكرس الاتكالية ولا يقضي على الفقر . هذه إضاءة ضرورية لمعرفة من أين ينطلق الرجل ومن أي مشكاة تخرج رؤاه .
ونعود إلى الفصل الأخير من كتابه الذي أطلق عليه “روح الإنسان في ظل العلمانية” وهو في الأصل عنوان كتاب لأوسكار وايلد صدر قبل مائة عام . وأوسكار وايلد اشتراكي معاد للماركسية حاول خلق هيلينية جديدة تستمد روحها من الفنون الإنسانية والإبداعات مثل هيلينية أثينا القديمة ولا تستمد روحها من الميتافيزيغيا (ما وراء الطبيعة) تؤسس لديانة إنسانية يستمدها الإنسان من عشق الفنون لا من وحي يوحى. قال لاش إن غلاة الماركسيين قد سخروا من نسخة وايلد الخاصة للاشتراكية وضحكوا منه إلا أنه – حسب عبارة لاش- هو الذي ضحك أخيراً لأن آراءه وديانته العلمانية لا تزال حية لها أتباع (أي كتيار عريض منبث في دنيا الفنون والسينما والإعلام وليس دينا بالمعنى الحرفي للكلمة) بينما انهار بنيان (اليتوبيا) الماركسية من القواعد.
وباختصار فإن اشتراكية أوسكار وايلد دعت إلى تحرير الإنسان من عبء العمل اليدوي الذي يكبل العامة وينال من كرامتهم – لم يكن يرى أي كرامة للعمل اليدوي – وتنبأ بأن الآلات ستتولى ذلك العمل لتحرر الإنسان من مهانته كما سيتحرر المديرون وأصحاب العمل من مئونة الإشراف عليه لتتولى الدولة ذلك وبالتالي يخلد الجميع إلى ترقية “ذواتهم” بالتأمل والجماليات. ( وهنا يتضح التأثير الهيليني حيث كان فلاسفة الإغريق يرون أن أعظم وظيفة للإنسان المتحضر هي التأمل وليس العمل).
وقد خلص وايلد إلى أن الاشتراكية لا تصنعها الجماهير العريضة التي وصفها بالغباء وعدم إدراكها لمصالحها دون محرضين يدلونها على تلك المصالح. قال هم – أي الجماهير العريضة – بحاجة إلى محرضين يدفعونهم للانقضاض على السلطة وأن أولئك المحرضين هم المقابل السياسي للمبدعين من أهل الفنون إذ إنهم يشاطرونهم بغضهم للسلطة واحتقارهم للتقاليد وعدم الرغبة في مداهنة الرأي العام! إنهم راغبون فقط في إرضاء ذواتهم الفانية وإسعادها. وبهذا الفهم يرى وايلد في السيد المسيح فناناً مبدعاً ويزعم أنه قد قال للإنسان “أنت تملك ذاتاً عجيبة. عليك القيام بترقيتها وتطويرها. كن نفسك!” يعلق لاش على استخلاصات وايلد قائلاً: سواء قال السيد المسيح ذلك أو لم يقله فقد راقت أفكار وايلد للكثيرين من المثقفين في ذلك الوقت باعتبارها بديلاً مناسباً للمعتقدات الدينية التي كان ينظر إليها آنئذ باعتبارها مصادمة للعقل. ويستطرد لاش مؤكداً أن هذه الأفكار برزت مجدداً للسطح أبان ثورة الشباب في الستينيات على هيئة شعارات مثل “كل القوة للخيال”، “ممنوع المنع” أي كل شيء يباح و”لا تابوهات” ويرى لاش أن هذه البقايا من ديانة أوسكار وايلد الإنسانية غير الموحى بها لا تزال متمترسة في الأكاديميا وفي وسائل الإعلام.
في هذا الصدد تناول لاش باستفاضة هذه الرؤية ورؤى مماثلة لمفكرين زعموا أن عصر التنوير وما قام عليه من عقلانية تستند إلى نتائج العلوم والعقل قد قضى على الدين. ( قالوا حرفياً على لسان فرويد: قضت العقلانية على الوهم. لكن تحرير الإنسان من الوهم قد خلق نوعاً من خيبة الفال بما خلق فراغاً وإحباطا للإنسان في العصور الحديثة). وقد لاحظ أولئك أن الإنسان لا يزال يعاني من فقدان السكينة التي كان يسكبها الدين على الحياة. فأصاب الناس ما يشبه الحنين (نوستالجيا) إلى ماض الاعتقاد في الدين. ونشأت المدرسة الرومانسية كردة فعل للاحتفالية بالعقل المبالغ فيها والتي جاءت مع عصر التنوير الذي ظل ثملاً بعقيدة راسخة ترفض غير المحسوس. وقد تنبه ماكس ويبر بتأثير من المدرسة الرومانسية عليه وكذلك مانهايم إلى أن الحياة لا تستقيم بلا معتقدات روحية. قال مانهايم: “إن الرجل الذي يعتقد بأن لا وجود لغير المادة الماثلة أمامه، ليس إنساناً كامل الإنسانية”. هؤلاء لم يكونوا مؤمنين بعقيدة محددة أو حتى في صحة الدين، لكنهم كانوا يرون أن الروحانيات حاجة ضرورية لازمة للإنسان. لذلك طفقوا يبحثون في كيفية لملء هذا الفراغ في حياة الإنسان عبر حوارات وكتابات حول “حالة الروحانيات في عصر الحداثة”. ورأوا في تحليلاتهم حول وضع الدين سابقاً ولاحقاً ما يلي: إن احتفاء الناس بالدين بمفهومه التقليدي يعبر عن اتكالية على معتقدات “متخيلة” كانت تناسبهم في طفولة الإنسانية من عناء مواجهة واقع الحياة الصلد. وأنه الآن – أي بعد اكتشاف العلوم – (أي في عصر الحداثة) قد أصبح مكشوف الظهر يتعين عليه العيش معتمداً على نفسه بلا نصير في عالم حقيقي تحكمه قوانين معلومة. هذه الحالة، يقولون بما تلقيه من تبعات على الإنسان في العصر الحديث تسبب نوعاً من اليأس وخيبة الأمل والإحساس بالضياع. وتلك هي روح الإنسان في ظل العلمانية التي تميز عصور ما بعد التنوير. لذلك يقول لاش هكذا نشأت أفكار وايلد وغيره تبحث عن دواء يعوض حاجات الإنسان الروحية بديانات ومعتقدات لا ميتافيزيغية .
رأى لاش في تلك الرؤى تحامل على الدين لا تسنده أدلة عقلية قاطعة فتشبيه مراحل التأريخ بأطوار نمو الفرد الإنساني الذي يمر بالطفولة فالمراهقة ثم الرشد مجرد تشبيه سطحي وفطير يختزل ويبسط تاريخ الإنسانية بتعسف يتعجل الوصول إلى نتائج لا يقوم عليها دليل. وعليه ما بنى على تلك الافتراضات يمكن أن نعده أبنية واهية من قش. هذه المزاعم – يقول لاش- تقوم على جهل قبيح بحقيقة الدين. فالدين لم يعف الإنسان في أي وقت من الأوقات من عناء التفكير و القلق في البحث عن الحقيقة وأن تصوير المجتمعات المسيحية مثلاً في العصور الوسطى بأنها كانت تعيش في خدر لذيذ لأن الدين قد عتقها من عناء الجهد بتبسيط معنى الحياة والموت ليس صحيحا بل الدين الحق كان على الدوام محفزاً على التفكير مناهضاً للاستكانة البليدة والشعور بالتفوق الأخلاقي على الآخرين. ويقول إن الدين الحق يحض المتدين على مجاهدة نفسه على الدوام لتزكيتها والارتقاء بها وألا تركن أبداً لرضا زائف عن الذات.
واختتم كتابه بالقول : إن الآلات الرائعة التي تنبأ الأنبياء المزيفون من أمثال وايلد بثقة بأنها ستحررنا من ربقة المهانة، مهانة العمل اليدوي المهين، قد أكسبتنا وهماً جديداً هو أننا الآن نملك ناصية العالم الطبيعي الشاخص أمامنا. (تأمل هنا ما جاء في التنزيل “حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها”). لكننا الآن – يقول – أدركنا محدودية قدراتنا في السيطرة على العالم الحسي المادي الذي نعيش فيه لتبقى نبوءة السيطرة المستقبلية عليه وهما أكثر إشكالية وأبعد أثراً من أوهامهم حول مستقبل الدين.
وبعد: لعلكم قد لاحظتم أن الجدل حول الأسرة والأخلاق ومحورية الدين في ذلك يعد جدالاً حقيقياً حاراً في المجتمعات المتقدمة لم يزده التقدم التقني الهائل إلا ضراوة.
ولعلكم قد لاحظتم أيضاً أن العولمة ليست مؤامرة يصنعها الغرب بل هي طور من أطوار التاريخ تهيأت له الأسباب منذ حين وأنه يصعب الوقوف في وجهه لكن بالإمكان التحسب له بالتدابير اللازمة لجني ثمراته واطراح مصائبه وبلواه وهو جهد لا تجدي فيه التدابير القطرية وحدها بل هو جهد يتداعى للنهوض بتبعاته من يعيشون عيشاً كعيشنا قمين بأن ينالهم من العولمة خيراً أو شراً مثلما يلينا. ولو كانت مؤامرة يصنعونها لما أجهدوا أنفسهم للتأهب لكبح جماحها والتخفيف من سلبياتها عليهم.
وقد خطر ببالي أنه قد يكون من بعض التدابير المجدية أن نسعى نحن لخلق نخب حميدة للعولمة إذ يمكن أن نسعى نحو فقراء العالم من أمثالنا للتصدي معا لسطوة “الطبقة السوبر” للتخفيف من تأثيرها السالب على مواردنا وأيضا على خصوصياتنا الثقافية والحضارية. وأعلم من واقع تجربتي الشخصية أنه بالإمكان التنادي والتعاضد مع سدنة الأخلاق والتقاليد الفاضلة في كافة الملل والنحل: تناد يحافظ على الأسرة بتعريفها التقليدي المعروف وتحريم الإهانة للمعتقدات الدينية وصون المنظومات الأخلاقية المستمدة منها كحرمة النفس الإنسانية وتحريم الإساءة إليها وامتهانها وما إلى ذلك من أمور لا تزال صامدة في وجه عالم ما بعد الحداثة. مثل هذه التحالفات الممتدة عبر القارات والثقافات والمعتقدات قد تكون ترياقاً ضد الكراهية والعنف ومطية للتعايش بين كافة الحضارات وأداة لتحقيق السلام العالمي حفاظاً على المعمورة وعلى النوع الإنساني الذي يعيش على ظهرها.
العالم من قبضة النخب الوطنية إلى سطوة نخب العولمة!
0