الطريق الأمثل لفجر جديد! ..

والتماس العافية والبرء من السقم, لا يتم إلا بتيقن الملتمس بوجود العلة فى جسده فإن لم يبلغ تلك الدرجة من اليقين تعلل بالأباطيل وتعلق بالأوهام حتى يتمكن الداء منه ويعز الدواء فيلهج بلسان غير مبين مفردات الندم ولات ساعة مندم.
ويبدأ التصدي للداء بالتشخيص الناجع الدقيق وغياب ذلك يؤدى إلى نتائج كارثية قد تفضى إلى وفاة المريض عوضاً عن علاجه.
و”الضجة الكبرى” بلغة الشاعر أحمد شوقى حول ميثاق “الفجر الجديد” بين الفرقاء حكومة ومعارضة مدنية ومسلحة قد تكون فرصة لالتماس الجميع سبيلاً آخر لإجماع وطنى ينقذ البلاد من مخاطر حقيقية لا ينكرها إلا مكابر اختار طوعا ألا يرى الأشياء إلا بمناظيره الخاصة ووفق هواه ورؤاه وأمانيه.
حيثيات الأزمة:
بلدنا مأزوم لا جدال فى ذلك فأوضاعه الإقتصادية متردية فالعملة الوطنية تترنح فى كل يوم تطلع فيه الشمس وتتهاوى أمام العملات الأجنبية فتتصاعد وتيرة الغلاء فى بلد يستورد الغذاء والدواء واللباس ومدخلات الإنتاج زراعية و صناعية بتلك العملات الأجنبية. والنتيجة ضيق فى العيش ومسغبة تشكو من هولها الغالبية العظمى من سكان المدن والأرياف وبطالة تعانى منها جيوش جرارة من الشباب الغض أفنوا سنين عددا فى حجرات الدرس حتى تخرجوا فهم يهيمون اليوم فى الطرقات على وجوهم بلا عمل لتفشو فيهم ظواهر غريبة مهدرة لطاقات الأمة إذ تتحدث الإحصاءات الرسمية عن نسب مخيفة ومروعة عن تعاطى المخدرات فى أوساط الشباب من الجنسين ويصرح مسؤول أن الأرض المزروعة بالمخدرات تفوقمساحة فرنسا , هكذا! وما يصدرعن المراجع العام من تقارير رسمية عن تعديات على المال العام يتجاوز المتوقع فى معظم الدول المحترمة . ولا نخوض بلا دليل باكثر مما يقول هذا المصدر الرسمى الذى يملك كل الأدلة فيما تطفح به المواقع الإسفيرية والصحافة ومجالس المناسبات عن فساد وسرقة يشيب لهولها الولدان , مخافة أن نقع فى محاذير البهتان وإشاعة الفاحشةوالمنكرات بين الأسوياء من الناس..وإشكالية أخرى لا نتخرصها صرح بها وزير الخارجية علناً لوسائل الإعلام عن إنعدام التنسيق بين مؤسسات الدولة المعنية بحراسة الأمن القومى للبلاد و هو ما يعنى أن تلك المؤسسات تعد جزراً معزولة تفعل قياداتها ما شاءت من أفعال. ومؤسسات الأمن القومى فى كل بلد هى بالأصالة وزارات الدفاع والخارجية والمخابرات ورئاسة الدولة ووزارات مثل الخزانة وغيرها تتم دعوتها متى ما لزم ذلك حيث تلتئم تلك الأجهزة بصورة راتبة وشبه يومية فى إجتماعات تدلى فيها كل جهة بحصادها من المعلومات فى ذلك اليوم ومن حصيلة ذلك تصدر تقاريراً عن حال البلد وعن مهددات أمنه إن وجدت خارجية أو داخلية ترفع للأجهزة التنفيذية للقيام بما يلزم من الحفاظ على مصالح البلاد العليا عبر التدابير والسياسات.فكيف إذا كانت تلك المؤسسات جزراً معزولة يسعى بعضها التكتم على ما عنده من معلومات ضناً بها على الشركاء الآخرين فى الهم إما عصبية لمؤسسته أو توهماً منه أن معلومته هو هى الأهم وهى فوق ذلك زلفى إلى السلطان دون أن يتفطن إلى أن المعلومات الواردة من كل الأجهزة المختصة هى التى تصنع الصورة الكاملة المعينة على وضع السياسات.و إن كان التنسيق الدقيق بين الجهات المنوط بها حراسة أمن البلاد القومى هو الممارسة الأهم فى دول قوية راسخة القدم فكيف الحال فى بلد يصرح قادته صباح مساء أنهمستهدف وجوداً وموارد وحضارة؟. بل ويحار الناس كيف تدار البلاد أصلاً؟ ومن يديرها ؟ أهم ثلاثة أشخاص أم هم أربعة أم هم مثل أهل الكهف ما يعلمهم إلا قليل؟ حتى الحركة الإسلامية التى يحسب النظام عليها صرح نائب أمينها العام السابق الأستاذ حسن عثمان رزق علنا لوسائل الإعلام ولأكثر من مرة بأنها لا تستشار ولا تحكم وأنها لا تتحمل مسؤولية ما يجرى فى البلاد من ممارسات وأخطاء وأن الأمر لا يعدو أن يكون أن بعض افراد كانوا ينتمون إليها فى سالف العصر والأوان يتقاسمون حكمها كما يشتهون أى أن فضيلة الشورى المنصوص عليها فى الذكر الحكيم وعلى سبيل الإلزام والتى ينبغى أن يسهم بها الشعب السودانى فى إدارة البلاد منعدمة حتى بين أفراد النخبة الحاكمة. فمن أين يستمد النظام شرعيته وكيف ينتظر حتى من الإسلاميين مناصرته والصبر عليه ؟ولم يفعلون؟.
فى ضؤ ما تقدم من حيثيات فإن التهوين من عظم الأزمة التى تعيشها البلاد فى معاشها وأمنها يقع فى دائرة التنصل من المسؤولية وخيانة الكلمة والجحود بالنصيحة وهى الدين كله كما قال النبى العظيم عليه الصلاة والسلام. والقول إن ما يعانيه الناس شدة طارئة سوف تزول لم يعد يقنع أحداً لأنه لايقوم على ساقولم تساق بين يديه أدلة علميةدامغة يقبلها العقل .فالذهب الذى قيل إنه سيسد فجوة النفط هو والصمغ العربى يتسرب عبر كافة الحدود والمنافذ مهرباً إلى الخارج هارباً من قبضة بنك السودان المركزى لأن مؤسسات الدولة ضعيفةوقليلة الحول إزاء حدود ينفرط فيها عقد الأمن وتدور فى رحاها الحروب . والخدمة المدنية منهارة وبحاجة إلى عقود حتى تسترد عافيتها.والحديث عن إحياء مشروع الجزيرة إلى سابق عهده الزاهر, حديث مل الناس سماعه ومثله الحديث عن الإستثمارات الكبرى فى الزراعة والتعدين. ذلك لا يكون والحرب الضروس يتأجج أوارها فى أكثر من جهة فى البلاد وهى تستنزف المهج والأرواح كما تستنزف الموارد الشحيحة المتحققة من الضرائب والإتاوات وتلك المجلوبة من الشرق القصى ديناً على أجيال لم تر النور بعد. ومحاولات التنمية فى ظل الحروب تحت هدير المدافع ولعلعة الرصاص تعد ضرباً من إهدار الموارد والثروات وذاك سفه يؤاخى الجنون. انظروا كيف انتهت ملحمة إستخراج البترول فى نهاية القرن الفارط : أصبح جل النفط ملكاً لدولة أخرى والقليل الذى بقى فى حوزتنا غدا فى مدى الراجمات والمدافع المصوبة من تلك الدولة أو من تأويهم وتستضيفهم . هذا درس فى أهمية أن تسبق برامج التنمية الكبرى إستراتيجيات تستشرف المستقبل بكل جوانبه .وتوشك السدود المقامة على الأطراف أن تصبح هى الأخرى كالأهرامات والنصب التذكارية بلا جدوى بل حاضنات دائمة لمخاطر الفيضانات المدمرة إذا طالها قصف فى غياب الأمن و الإستقرار . وفى كنفهما فقط تعود مشروعات التنمية بالنفع على الناس. ومن المحزن ما نقرأه من شكايات أهل الشمال بأن كهربة المشاريع الزراعية لم تكتمل وأن الزراعة لا زالت تعتمد على( الجازولين) المستورد بعد قيام سد مروى الذى أُنفقت البلايين فى إنشائه من أجل توفير الطاقة الرخيصة وزيادة رقعة الزراعة.ولو أن عقد النفط الذى تسربمن بين أيدينا إستثمرت مداخيله فى تكرمة الإنسان بتنمية مستدامة تعنى بترقية الحاضر وهى ترنو إلى المستقبل لأحس الناس بنفع التنمية يسير بقدمين فى ساحاتهم ولصبروا على الطارئات إن حلت بساحاتهم. و لو أنفق القليل من تلك المداخيل الضخمة على خدمات المياه والصحة وعلى ترقية التعليم العام رأسياًلما ظلت العاصمة والعديد من المدن والبلدات على إمتداد البلاد وعلى مدى أكثر من عقدين تعانى حتى الآن من العطش وإنقطاع المياه وضعف البنى التحتية لمرافق التعليم والصحة. ولو إنصرف الجهد لإستقرار سعر الصرف فى حدود معقولة تحسباً لإنفصال الجنوب منذ العام 2005 لأمكن إعادة العافية للخدمة المدنية عصب الدولة الإدارى بحيث تحقق مخصصات العاملين فيها حد الكفاف من العيش الكريم ولإنتعش الإستثمار و لما إنزلق الحال بعدشهر واحد من إيقاف تدفق النفط إلى القاع الذى بلغه اليوم على عكس توقعات المسؤولين الحكوميين. وعلى ذكر “الأمانى العذبة” التى منانا بها كثير من المسؤولين بعد إنفصال الجنوب, كيف ينتظرون منا تصديق تصريحاتهم بأن ما تعانى البلاد منه اليوم هو الشبيه بآلام الطلق التى تعقبها صرخة و فرحة الميلاد؟!.
نقول ما قلنا ونحن نعلم يقيناً أن الفساد المالى والإدارى والسلوكى موجود فى كل بلاد العالم المتقدم منها والنام لأن البشر خطاؤون. والأمر أكثر إستشراء فى البلاد النامية – مثل بلدنا- لأن تراكم التجربة فىإدارة الدولة الحديثة أقل و وأن إنفاذ القوانين بصرامة على الصغير والكبير كما هو الحال فى الدول الراسخة الأقدام, لم يزل قابعاً فى بطون الكتب و معلقاً فى العوالم الحالمة تحول بينه وبين النفاذ القبيلة والعشيرة والجهة والهوى وما هو أسوأ من الهوى. لكن الحد الذى وصلت إليه الأوضاع فى بلادنا يفوق هذا الحد المتوقع فى أمة نامية ويوشك أن يهددبقاء الدولة نفسها فى ظل الإحتراب الدائر فى أكثر من مكان. ويتساءل كثيرون :
لماذا لا يثور الناس إذاً؟
وهذا سؤال مشروع. لماذا لا يثور الناس كما ثار الناس فى مصر وتونس واليمن وسوريا؟ والإجابة بسيطة. فالسودانيون يعدون اساتذة فى فن الثورات لا تنقصهم الشجاعة ولا فضائل التضحية فقد ثاروا وانتصروا فى أكتوبر 1964 وابريل 1985 متيقنين أن ثورتهم ستسقط الحكومة المستبدة لا مؤسسات الدولة اللازمة لصون إستقلال البلاد وممتلكات المواطنين وأرواحهم. أى أن ظهورهم كانت مسنودة بحائط القوات المسلحة والنظامية.وهم لا يثورون الآن لأنهم مشفقون من أن يكون فى الثورة زوال الدولة الوطن التى أصبحت هشة ضعيفة توشك الثورة على الحكومة أن تجهز على مؤسساتها اللازمة لبقاء البلد ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم يفشو فيهم الهرج وهو القتل. وأسوأ حال يصل إليه بلد أن يرتبط بقاء الدولة فيه ببقاء الحكومة بل أن تجعل الحكومة من زوالها نهاية للبلد.والمعارضة المدنية المسماة بقوى الإجماع الوطنى التى تتبنى النضال السلمى المدنى لإسقاط النظام وتلك المسلحة تتحملان مع الحكومة جريرة هذا الوضع البائس التعيس. كيف؟
المعارضة المسلحة متمثلة فى الجبهة الثورية نصت فى بيان تاسيسها على إعادة هيكلة القوات النظامية وهى الجيش والشرطة و كذلك الخدمة المدنية والجهاز القضائى بما يعنى إزالة هذه المؤسسات التى تقوم عليها الدولة السودانية بل وأوردت نصاً يهدد الوحدة القائمة أصلاً حسث ورد نص يتحدث عن أن تكون وحدة البلاد طوعية بمعنى أن يحق للأقاليم المختلفة أن تختار غير ذلك إن شاءت ! وهذا النص يستبطن شكاً فى وحدة البلاد و يفتح الباب على مصاريعه لدعاوى حق تقرير المصيروهذه مع تلك تعنى القضاء على الدولة السودانية وزوالها وتحويلها إلى فسيفساء من الكيانات يقتل بعضها بعضاً . وعندما تقول بذلك حركات مسلحة تسمى نفسها الثورية يعنى أن ذلك البرنامج سينفذ عبر الشرعية الثورية غصباً وبفوهة البندقية ثم أقحمت شروطاً لتبنى تلك الأسس تتعلق بشكل الدولة وقوانينها ونظمها هى بطبيعتها من صميم الإرادة الشعبية التى يتخذها غالب الشعب عبر ممثليه فى البرلمانات المنتخبة. والأصوب الذى يتطابق مع أسس الديمقراطية أن يترك ما للشعب للشعب حتى تقوم مؤسساته الديقراطية المنتخبة وإلا كان الصنيع من جنس ما يفترض أن تلكم الحركات تحارب لإزالته: مصادرة الإرادة الشعبية الحرة ! . و للمفارقة فإن إستراتيجية المعارضة المسلحة المستندة على حل القوات المسلحة والأجهزة الشرطية والأمنية, إنما هى فى حقيقة الأمر وصفة لإزالة المؤسسات الوحيدة الضامنة للتغيير فى بنية الحكم مع بقاء الدولة على خارطة الدول وهى وصفة أضمن لبقاء النظام القائم من إزالتهوبالتالى فإن القوى المسلحة تعرقل مسيرة تغيير الحكومة الحالية لأنها تجعل الثورة على الحكومة ثورة لإزالة الدولة. الأمر الآخر هو أن مكونات تلك الحركات المسلحة لا تمثل الأقاليم التى تنطلق منها والتى باسم تهميشها تحارب ولكنها تمثل قبائل بعينها وبطون قبائل وعشائر صغيرة أحياناً حتى قيادات تلك الحركات تتوارثها الأسر والعائلات ! هل ننطق بالحق فيما نقول هنا أم نلقى الحديث على عواهنه ونرم تلك الحركات بما ليس فيها؟ فأى ديمقراطية ترجى والحال كما ذكرنا؟ وأى تغييرإلى حال أفضل يرتجى من الثورة ؟ أما الأحزاب – التى نقربثقلها الجماهيرى ونثمن نهجها السلمى للتغيير ونقر بأدوار مؤسسيها فى تحقيق الإستقلال- فقد كان ينبغى أن تكون أشرس فى معارضتها لتفكيك الدولة وأن تجعل شرطها للتفاوض مع الجبهة الثورية عدم المساس مطلقاً بالمؤسسات الضامنة لبقاء الدولة وإزالة النص الخاص بفتح قضية وحدة الدولة إعتباراًبما أدى لإنفصال الجنوب مع إقرار مبدأ تعميق قومية مؤسسات الدولة المذكورة ومعالجة الأخطاء التى وقعت . إن مسارعة قوى الإجماع الوطنى للموافقة على ميثاق الفجر الجديد فقط مع تحفظ بعضها على إستحياء على العمل المسلح ذكر الناس بتحالف ذات القوى مع تمرد الجنوب الذى استقوت به الحركة الشعبية ثم ابعدت تلك القوىمندائرة الفعل وانتهى بنا الأمر إلى دولتين. ويؤخذ على الأحزاب أيضاً أنها أغفلت وهى تعلم أن المعارضة المسلحة تستقوى أيضاً بدوائر أجنبية تتآمرمع تلك الدولة التى استضافة اللقاء أكدت تقارير مستقلة منشورة بأنها ظلت تعمل منذ ثمانينيات القرن المنصرم على فصل الجنوب حتى تحقق لها ذلك. ترى هل قنعت بذلك أم أن إستراتيجية تجزأة المجزأ مستمرة؟. ورفعاً للإلتباس فإننالا نرى باساً البتة فى التفاوض مع المعارضة المسلحة بل هو فى نهاية المطاف السبيل الوحيد لتحقيق الوفاق الوطنى وإن كانت الحكومة تملك هذا الحق فلا يحق لها إنكاره على قوى سياسية فاعلة فى البلاد. لكن كان بإمكان المعارضة المدنية إختيار المكان المناسب سوى كمبالا وشرطاً للإنخراط فى التفاوض وهو نبذ العنف كوسيلة للتغيير والإمتناع عن التوقيع على كل وثيقة تقر تلك ذلك النهج وليس كما جرىبالموافقة على إسقاط الحكومة “بكل الوسائل” سيما وأن ذلك هو الموقف الذى جعلها تتبنى الوسائل السلمية للتغيير وأنها صاحبة رصيد جماهيرى ونصيب فى إستقلال الوطن يمنحها فضلاً ومزية أخلاقية تجعلها فى موقف قوة. الناس يتوجسون إذاً لأنهم لا يرون جديداً لا فى التكتيك ولا فى المحتوى وكأن الفهم (كِمل)! فلماذا يثورون إذاً؟ دعوة الأحزاب ذات الثقل المشروعة دوماً ينبغى أن تبقى ناصعة صادعة بعودة الحكم المدنى الذى يرد الكلمة للشعب. والحوار مع المسلحين مشروط بالموافقة على رد الكلمة للشعب لا للتحالف للإنتقاص من شرعيته.ولا يحملن بغض الحكومة إغفال الناس لمسؤوليات صنيعهم فيما سيأتى بعدها.
وبصريح العبارة فالناس فى الوسط النيلى متوجسون . والوسط النيلى ليس الجغرافيا الخالية من السكان التى تستثنى الغرب والشرق والجنوب الجديد فالوسط النيلى هو الكثافة السكانية حيث اختلطت كل العرقيات ومن كل أقاليم السودان فى الحواضر الكبرى بدأ بنيالا وإنتهاء ببورسودان مروراً بالأبيض وكوستى ومدنى وسنار وسنجة والقضارف وكسلا والعاصمة الخرطوم. وأحسب أنه لايجزم عاقل منصف أن عرقاً معيناً يشكل أغلبية فى أىٍ من الحواضر المذكورة: نعم الوسط النيلى تمثل ثقله السكانى الجزيرة الخضراء التى تضم بين ضلوعها كل أبناء السودان بل وتضم سودانيين فى جل المنطقة الواقعة جنوب ود مدنى: عرقيات عديدة متحدرة من غرب إفريقيا من النيجر والكميرون ونيجريا وبوركينا فاسو ومن المغرب القصى وموريتانيا . وتمثله القضارف وإن بعدت عن النيل شرقاً وهى سلة غذاء السودان ونسبة سكانها من قبائل دارفور وحدها تفوق تعداد قبائل البطانة والبجاة.والحال كذلك فى ولاية سنار والنيل الأزرق والابيض وأجزاء من شرق كردفان. الأمر إذاً ليس أمر أعراق فسكان الولاية الشمالية وولاية نهر النيل مجتمعتين لا يجاوز المليون إلا قليلا . والوسط النيلى بهذا التوصيف يشكل عدداً القاعدة العريضة الغالبة لأهل السودان. وهؤلاء متوجسون لأنهم ينعمون ببعض الأمن لبعدهم النسبى عن مواقع المعارك وكثير منهم مبغضون للحكومة بل ويرجون زوالها اليوم لا غداً.متوجسون من خطاب بعض الحركات المسلحة الساعية لتعميم الكارثة على كل البلاد ظناً منها أن ذلك يعجل بالثورة بينما هو فى الواقع الترياق القوى المضاد للثورة لأنه الطريق السالك لفناء الوطن وعندما يصبح الأمر خياراً بين الفوضى والأمن سينحاز الناس للأمن وإن شابته الشوائب . ومتوجسون ايضاً بإعتبار ما جرى فى بلدان شقيقة قريبة وبعيدة عندما حلت فيها مؤسسات الدولة وتحديدا القوات المسلحة النظامية بحسبان أن النظام المستبد المباد قد ذهب بقوميتها , فعم الخراب ورغم قسوةوطغيان النظام البائد هناك كانت العبقرية الشعبية قد بدأت فى إضعاف الفوارق المذهبية والعرقية وبدا الناس يتساكنون ويتزاوجون واليوم لا تكاد تجد حياً من أحياء المدن والبلدات فى تلك البلاد العريقة يضم مذهبين أوعرقين مختلفين فالفرز الطائفى والعرقى أصبح سيد الموقف. رجعية حقيقية إلى أزمنة العشيرةوالقبيلة تتدثر نفاقاً بنبيل الشعارات. ومقارنة الوضع فى السودان بجنوب إفريقيا وزيمبابوى وجنوب الولايات المتحدة قبل إقرار قانون الحقوق المدنية عام 1965 أمر مثير للضحك والشفقة معاً فلا توجد فى قوانين السودان منذ أن نال إستقلاله نصوص تمييزية تفرق بين الناس على أساس اللون أو العرق او الجهة او الدين فأين ذلك من نظام الفصل العنصرى المقنن بين بيضانوسودان الذى كان فى جنوب إفريقيا أو مما كان فى الولايات الجنوبية فى أمريكا بين ذرارى أفارقة وذرارى أوربيين “سواسية- منفصلون” وكان السود فيه مواطنين من الدرجة الثانية بنص القانون. الفوارق العرقية بين السودانيين لا ترى بالعين المجردة حتى لأفارقة شمال إفريقيا المجاورين لنا. فلا تضخموا الفوارق مطايا للزعامة وكراسى الحكم. يوجد بالفعل تحامل إجتماعى وجهوى وتنابذ بالألقاب هو من مخلفات التأريخ والتخلف بدأ فى التراجع والتلاشى ايقظته الفتن الأخيرة والسياسات الخاطئة وبعثت فيه الحياة . وقمين بالسلاموالإستقرار ورد المظالم أن يعيده إلى قمقمه. وتحرياً للصدق نشير إلىبيان بالإنقليزية للدكتور جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة نفى فيه أن يكونوا قد إشترطوا حل الجيش والشرطة مشيراًإلى أنهم طلبوا إدماج مقاتليهم فيهما. لكن تبقى إشكالية الأسس التى ينبى عليها هذا الدمج فإن صح وصفنا لتركيبة الحركات المسلحة القبلية والتى لاتمثل بحال غالب أهل الأقاليم التى تنطلق منها فإن مثل هذا الدمج لن يحقق قومية الجيش التى يُنادى بها وسيكون من حق قبائل السودان التى تعد بالمئات المطالبة بتمثيلها فى الجيش وهذا ما يستحيل تحقيقه. ومبلغ علمى أنه لم يقدح أحد فى الطريقة التى يتم بها القبول للكلية الحربية وأن ما ينطبق عليها هو عين ما ينطبق على كليات التعليم العالى المدنى والشرطى كما لم نسمع بان الإحالة إلى التقاعد فى الجيش قد تمت على أسس جهوية. وإن كان ذلك قد وقع او بعضه يلزم معالجته برد المظالم وتصحيح الأخطاء ووضع الآليات المناسبة التى تحقق الشفافية التامة وتجفف منابع العنصرية البغيضة وليكن ذلك من صميم القضايا المعروضة على طاولة التفاوض لتحقيق السلام .وسيظل السودان شئنا أم ابينا هوهذا العناق المتوسطى العربى الإسلامى الإفريقى حضارة وعرقاً لا فكاك منه وهو عناق عمره قرون إبتدره عمارة دنقس مؤسس مملكة الفونج من جنوب النيل الأزرق وسليمان العربى سليل أبى زيد الهلالى جد الفور فى القرن الثامن عشر وسلاطين المسبعات فى كردفان وآدم أم دبالو سلطان مملكة العباسية فى جبال النوبة. ولهذه الطبيعة المزدوجة لثقافتنا يصبح الحرص على علاقات متينة مع الجوار هو الإستراتيجية الوحيدة المتاحة فى هذا المكان من العالم كما قلنا فى مقالة سابقة فى فنون البقاء ومع الجنوب يعد الأمر أوجب مهما اكتنفت ذلك الصعاب . ذلك لأن المصالح المشتركة المنتظرة من علاقات طبيعية بين الشعبين أعظم منها مع أى جوار آخر فضلاً عن كونها زلفى بين يدى علاقات أمتن مع إفريقيا السمراء ومن ورائها الغرب. تلكم الثقافة الجسر بين عالمين هى التى جعلت السودان فى السابق حكماً مقبولاً لدى الأشقاء العرب والأفارقة.
هذه المرافعة لا تعنى بحال أنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن الآن فالحيثيات التى سردنا آنفاً تلح على ضرورة التغيير, التغيير الذى يسرع صهر القوميات والثقافات العرقية لخلق وئام إجتماعى يجد الجميع أنفسهم جزءا منه. التغيير الذى لا يجعل مجرد شبيه العودة إلى ما بعد عبود ونميرى حلاً فذاك تكرار للأخطاء وعودة للحلقة المفرغة. العودة تكون لنظام مدنى حر بأسنان وناب يتفق عليه كل الفرقاء.
والحل؟
والحل أراه فى أن ينضم المؤتمر الوطنى بشجاعة إلى قوى الإجماع الوطنى الساعية إلى نقل البلاد إلى مربع جديد عبر الحوار الشامل لإنقاذ البلاد من المخاطر المحدقة بما تبقى من وحدتها وسلامة أراضيها ليس بالطبع كقوة معارضة للحكومة المفترض أنه هو الذى يدير دفتها ولكن بإعتباره الحزب الحاكم الذى يقر وفق تصريحاته الرسمية بمبدأ التداول السلمى على السلطة وفق مبادئ الديمقراطية وهذا مشترك بينه وبين أحزاب قوى التجمع الوطنى فى مقابل الحركات المعارضة المسلحة الحالية والتى ترى تحقيق التغيير بكافة الوسائل بما فى ذلك القوة المسلحةوبالتالى يصبح التجمع تجمعاً لقوى الإصلاح الديمقراطى لا تجمع معارضة فى مواجهة حكم, على أن ينخرط الجانبان ( أنصار التغيير السلمى بما فيهم المؤتمر الوطنى وفق هذا المقترح , وأنصار الكفاح المسلح ) فى حوار جاد معها لوقف الحرب والإتفاق على فترة إنتقالية عبر الثوابت التالية التى يتبناها أنصار التغيير السلمى كمبادئ للحوارمع تجمع المعارضة المسلحة (الجبهة الثورية):
– الحفاظ على مؤسسات الدولة القائمة :الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والخدمة المدنية على أن يصار إلى تعميق قوميتها وتأكيد تمثيلها لكل المكون السودانى بعد تحقيق السلام وفى البرلمان المنتخب. وأن يترتب على ذلك نبذ العنف نهائياً وحل كافة المليشيات المسلحة وفق الضوابط المعمول بها عالمياً.ولإبداء الإهتمام اللازم بقومية المؤسسا تكون لجنة من سياسيين وأكاديميين لوضع أسس لإصلاح تلك المؤسسات وتأكيد قوميتها
– الإتفاق على تكوين لجان متخصصة لتقديم توصيات لإصلاح التعليم العام والخاص والخدمة المدنية.
-الإتفاق على تحويل نظام الحكم الحالى إلى نظام ديمقراطى تعددى حقيقى فيدرالى يعتمد نظام التمثيل النسبى فى الإنتخابات بما يمكن من مشاركة جميع الهيئات السياسية فى الحكم وتسمية فترة إنتقالية بعد الإتفاق على شكل التحول الديمقراطى.
– إقامة نظام إتحادى حقيقى تنتخب فيه الولايات حكوماتها ومجالسها التشريعية بصلاحيات تمكنها من التعبير الحر عن خصوصياتها الثقافية على أن يتولى المركز مسؤوليات السيادة والحفاظ على أمن وسيادة البلاد صيانة الدستور فى وجود جيش إتحادى تحت إمرة الحكومة الإتحادية وكذلك شرطة فدرالية على غرار الدرك أو الجندرمة وأن يتولى المركز شان العلاقات الخارجية والمالية وصناعة النفط والتعدين والتعليم الثانوى والعالى ورعاية الحدائق العامة والبيئةوالغابات والطيران.
– إذا دعت الحاجة إلى وسطاءوإلى ضمانات بالتنفيذ يمكن السعى المشترك فلتكن جهازاً من المنظمات الإقليمية لرعاية الإتفاق والإلتزام بتنفيذه .والمنظمات هى الجامعة العربية والإتحاد الإفريقى ومنظمة التعاون الإسلامى ومنظمة عدم الإنحياز.
وبعد….أقول بكل الصدق نحن جميعاً تواقون لفجر جديد يجمع شتات العرقيات والجهات والمعتقدات على قدم المساواة تجاوزاً للصور النمطية ولمرارات الماضى وجراحات التأريخ فى كنف الحوار والسلم الإجتماعى وعبر الوفاق الوطنى لا (زندية) بحد السيوف و(الزندية) بطبعيتها لا تحقق ذلك.وأحوج مانكون اليوم للتسامى فوق الايدولوجيات والتعصب الأعمى والتحزب البغيض إلى فضاء إنسانى يجعل همنا الأول حقن الدماء فالقاتل والمقتول من أهلنا . و الذين بقوا فى العراء فى أرجاء دارفور لعقد كامل وأولئك الذين يتحولون إلى نازحين فى جبال النوبة والإنقسنا يجب السعى الحثيث إلى إقالة عثراتهم وتأمين روعاتهم وتمكينهم من العيش الكريم فىقراهم بحيث يعود صغارهم إلى مدارسهم لا أن نضيف أعداداً أخرى إلى بؤساء ونازحين بل ومقتولين مثل من قضوا نحبهم فى تلك الأنحاء. تلك مسؤولية الجميع فى الحكومة والمعارضة مسؤولية لا يسقطها إختلاف الرؤى السياسية والفكرية ولا يسلم من من تبعات التقاعس عن النهوض بها أحد. ومسؤولية قادة الرأى وحملة الأقلام تكون ببذل النصح المجرد من الأهواء وبمضاعفة الصدع بالحق والدعوة إلى السلام والتاريخ والأجيال القادمة شهود علينا جميعاً.

تعليقات الفيسبوك