الشعبوية

تحاول هذه الورقة سبر أغوار ما اصطلح عليه مؤخرا ب “الشعبوية” أو the Populism وهو إصطلاح يشابه جرساً إصطلاحاً قديماً بدأ فى الظهور أواخر عهد الدولة الأموية بسبب سياساتها المحابية للعرق العربى على حساب المسلمين من غير العرب ثم تقوت فى عهد الدولة العباسية فى أطلقوا عليها “الشعوبية” ويقترب منه محتوى ثم يتباعد كثيراً حيث أن الشعوبية كانت حركة فارسية متحاملة على العنصر العربى كردة على تحامل العرب على غيرهم وقد وصفها القرطبى بأنها حركة “تبغض العرب وتفضل العجم” كما وصف اتباعها الزمخشرى فى أساس البلاغة ” هم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلا على غيرهم.” وهى حركة تضم شعراء وأدباء وفلاسفة من أولئك الكاتب الهيثم بن عدى وابوعبيدة معمر بن مثنى الذى ألف كتباً فى مثالب العرب ومنهم الشاعر المعروف بشار بن برد.وقد تصدى لهم من الأدباء الكاتب الفحل الجاحظ فى كتابه “دفاع عن العصا”. ويرى المؤرخون أنها تطورت من كراهية العرب إلى كراهية الإسلام واصبحت مدخلا للتشكيك فى ثوابت الدين ومطية للزندقة والطعن فيه. والشعبوية تقارب هنا الشعوبية فى بعدها المتحيز ضد كافة الأجناس الملونة والتحيز الفاضح للجنس القوقازى الآرى الأبيض. فالشعوبية التى حملت دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة فى الولايات المتحدة ذلك البلد الذى كان يقاس عليه مقدار ومدى التطور الليبرالى فى كل بلد و الذى بدأ كمنارة وأنموذج يحتذى لأممية تجاوزت الأعراق والعنصرية يرحب بالتعدد الثقافى والدينى والعرقى , إلى الدرجة التى حملت رجلاً أسودا هو الرئيس باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة لدورتين كاملتين فى بلد منح السود حق التصويت والإنتخاب فى الولايات الجنوبية لأمريكا قبل 43 سنة فقط من ذلك التأريخ. وهو حدث عزز الآمال بتلاشى التمييز العنصري فى العالم. لكن من إرتدادات ذلك الحدث كما نرى أنه ايقظ دفين المشاعر البيضاء التى رأت فيه مؤشراً على أفول ريادة الرجل الأبيض وتراجع فى قيمه الثقافية ذات الجذور الأوروبية المسيحية. فنشط قطاع من المشفقين على الثقافة البيضاء تدفعهم مشاعر عرقية وثقافية مع قطاعات أخرى من البيض مشفقة على الثقافة الأوروبية المسيحية لمناصرة ترشيح دونالد ترامب . هذا التيار يضم كذلك كتاباً ومثقفين وسياسيين من أمثال (بات بوكانون) و(ويليام بيكلى) وغيرهما مثلما كان الحال فى الشعوبية الفارسية القديمة فى مواجهة العرب.هذه الجزئية يشابه فيها تيار الشعبوية تيار الشعوبية القديم. وفى أوروبا قام ذات التيار بفعل تدفقات الشعوب غير البيضاء على القارة المكتظة بالسكان وضمن أولئك ملايين المسلمين وبدأ بعضهم يتقلد مناصباً تنفيذية وتشريعية فى كثير من بلدان أوروبا. وازدادت المخاوف بعد تدفقات اللاجئيين السوريين إليها بما رآه البعض تهديداً لأوروبا البيضاء بتراثها الليبرالى والمسيحى معاً فنشطت جماعات فى معظم بلدان أوروبا الغربية وبعض أجزائها الشرقية (بلغاريا) تنادى بالحفاظ على أوروبا بل واغلاقها فى وجه أولئك. هذا ضرب يشابه التحيز للعنصر الأبيض فى الولايات المتحدة. أدى إلى بروز هذا التيار فى أوروبا إلى خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى وتردد صداه بواسطة الأحزاب اليمينية فى فرنسا وهولندا وإيطاليا وسويسرا وحتى فى دول اسكندنيفيا وهو تيار معاد للهجرة والمهاجرين وداع للإحتفاظ بالخصائص الثقافية لكل بلد متشككاً فى وجود ثقافة أوروبية مشتركة . وهذا هو التيار الذى ينتم إليه دونالد ترامب وهو تيار يعرف “الشعب” بأنه مجموع الأمريكيين المنحدرين من أصول أوروبية وهو ما ظل الإعتقاد السائد فى معظم التأريخ الأمريكي بأنه هو “الأمريكى الحقيقى” المسيحى الأبيض. ويعتقد هؤلاء فى وجود حلف شيطانى يجمع بين قوى شريرة فى القمة وتيارات وضيعة ملونة لا قيمة لها فى قاع المجتمع تستهدف حقوق ومكانة البيض الأقدر على حكم أنفسهم بانفسهم.( شؤون دولية عدد نوفمبر/ ديسمبر 2016).
ومن شأن هذا التيار لو استمر فى التصاعد أن يفضى إلى إلغاء الإتحاد الأوروبى و أن يفت فى عضد محاولات فى مناطق أخرى من العالم رأت فى الإتحاد الأوروبى أنموذجاً يحتذى للتكامل الإقتصادى والتسامى على الفوارق العرقية والثقافية كما هو حال الإتحاد الإفريقى الذى صمم على صورته راجيا أن يحقق أهدافاً مشابهة بتوحيد العملة وحرية الحركة والعمل والكسب والإقامة عبر حدود الدول الأعضاء. والعالم يحبس أنفاسه هذه الأيام خوفاً من فوز السيدة مارى لوبان مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية فى فرنسا التى هددت بإخراج فرنسا من الإتحاد الأوروبى.
تفاصيل صعود الشعبوية اليمينية فى أوروبا: وقد فصل فى صعود هذه الأحزاب الشعبويةJohn B. Judis فى كتابه “الإنتشار الشعبوىThe Populist Expansion على النحو التالى: حصدت الجبهة الوطنية فى فرنسا بقيادة مارى لوبان والتى توصف بأنها تمثل أقصى اليمين الفرنسى أكثرمن 27 فى المائة من أصوات الناخبين الفرنسيين فى ديسمبر 2015 ولم يحل دون فورزها فى تلك الإنتخابات الولائية سوى أن الحزب الجمهورى (حزب ديغول) والحزب الإشتراكى قد تكتلا ضدها . وقد فعلا ذات الشئ فى الإتخابات الرئاسية الأخيرة فى مايو الحالى 2017 حيث فاز إمانويل ماكرونى بنسبة تقارب 66% بينما نالت مارى لوبان نحو 34% من جملة أصوات الناخبين وعلى الأرجح أن تتحالف القوى الأخرى على ذات النسق فى إنتخابات التشريعية (الجمعية الوطنية- البرلمان) الشهر المقبل لحرمان الجبهة الوطنية من أغلبية تكبل ايادى الرئيس الجديد وتغير تشريعات هامة فى فرنسا داخليا وفى إطار علاقاتها الأوروبية والدولية.. فى الدنمارك فاز حزب الشعب اليمينى بالمركز الثانى فى البرلمان فى يونيو 2015 وفى النمسا فاز مرشح حزب الحرية نوربرت هوفر فى الجولة الأولى فى رئاسيات عام 2016 وفى سويسرا فاز حزب الشعب فى الإنتخابات التشريعية باكثر من 29 فى المائة أكثر مرتين من جملة حصيلة الحزب الديمقراطى الإجتماعى والحزب الليبرالى. وفى النرويج ظل حزب الشعب جزءا من التحالف الحاكم منذ عام 2013.
صعودها فى الولايات المتحدة: وحول ظاهرة صعود الشعبوية فى الولايات المتحدة وفوز دونالد ترامب ,تشير الورقة إلى أن الفجوة التعليمية بين طبقات المجتمع أشارت عبر إستطلاعات أجريت إلى أن نحو 44% ممن لم يحصلوا على تعليم جامعى يؤيدون وصول قائد قوى إلى الرئاسة لايحفل كثيرا بالإنتخابات وبمراجعة الكونقرس عند إتخاذ القرارات بينما يؤيد ذلك 28% من حملة الشهادات الجامعية. أجرى الإستطلاع عام 2011. كذلك يشير الفارق التعليمى إلى أن الفئات الأقل تعليماً أكثر تشددا ورفضاً إزاء التسامح مع الحرية الجنسية وقبول الشواذ جنسيا بين الذكور والإناث فى المجتمع وكذلك إزاء الإجهاض. وتلفت الدراسة الأنظار إلى أن إنتخاب ترامب لم يكن بمعزل عن برنامج الحزب الجمهورى الإنتخابى لعام 2016 الذى اشتمل على المحافظة على التقاليد الأمريكية المستمدة من المسيحية وتوجيه المناهج الدراسية لتنهل من تعاليم الإنجيل ورفض الحرية الجنسية بما فى ذلك الشذوذ الجنسى والسحاق وإبدال النوع عبر عمليات جراحية ورفض الإجهاض واعتبار الأفلام الإباحية ” أزمة صحة عامة” فى البلاد. وصفت يومية نيويورك تايمز هذا البرنامج فى عدد 16 يوليو 2016 بأنه أكثر برامج الحزب الجمهورى تطرفاً. هذا البرنامج وجد قبولاً لدى الأرياف الأمريكية ولدى البيض تحديداً . وترى الورقة أن هذه الفجوة الثقافية إن استمرت وبقيت رغم تحسن الأوضاع الإقتصادية , ستحدث خلخلة وشرخاً فى الحزبين الكبيرين وستكون ذات مردود سالب على التماسك الإجتماعى والتسامح.
شعبوية مدنية أممية:
هناك تيار شعبوى فى المقابل متضجر من سيطرة النخب على مقاليد الحكم باسم الطبقة الوسطى وهو تيار ليبرالى يضم عرقيات وديانات وخلفيات ثقافية مختلفة كاد أن يجعل من اليسارى )إرنى ساندر(عضو مجلس الشيوخ المستقل عن ولاية الجبل الأخضر (فيرمونت ) شمال الولايات المتحدة والمحاذية لكندا, مرشحاً للحزب الديمقراطى نكاية فى مؤسسة الحزب التى يمثلها نوابه فى الكونقرس وحكامه فى الولايات ومراكز البحوث العديدة فكان شعبوياً بمعنى أنه متمرد على القوالب والمؤسسات التى ظلت تدير دفة السياسة باسم اولئك لفترات طويلة معتمدة على تأييد ميكانيكى يحمل مرشحيها بولاء تليد تكلس إلى دوائر الحكم المختلفة. وهنا يتباعد هذا التيار عن شعوبية العصر العباسي ويقترب من إنتفاضات أممية شعبوية تؤمن بالتعدد الثقافى ,والعرقى والدينى وإنصاف الفقراء حملت زعماء فى أمريكا الجنوبية فى فنزويلا وبوليفيا إلى الحكم. نلاحظ هنا أن نستخى هذه الشعبوية متفقتان على إتهام و إزدراء النخبة وأنها وأعوانها فى اروقة الحكم المختلفة علة سؤ الأحوال وأن الحل يكمن فى تجاوزها وتمكين “الشعب” من إصلاح الحال بنفسه وبعيدا عن إملاءاتها.
تعريف الشعبوية: ونورد هنا تعريف مايكل كيزن للشعبوية بأنها: :لغة يرى متحدثوها أنها تَجمّع للناس العاديين لا تقيدهم طبقات يعارضون النخب ويرونها تبحث عن مصالحها وحسب لا مصالح عامة الناس. وتروم هذه الشعبوية من تجمع الناس العاديين ,الوقوف فى وجه تلك النخب والتصدى لها.وتؤمن بهوية مدنية لا تسند إلى الأعراق تؤمن بالمساواة المطلقة بين بنى البشر وبحقوق الأفراد فى الحياة والحرية والسعى نحو السعادة وفى حكم ديمقراطى يقوم على رضا الشعب.: They belong to a broadly liberal
version of “civic nationalism,”
which the historian Gary Gerstle defines
as the “belief in the fundamental equality
of all human beings, in every individual’s
inalienable rights to life, liberty, and the
pursuit of happiness, and in a democratic
government that derives its legitimacy from the people’s consent.

ويختار جون باديس تعريفا آخر للظاهرة بأنه يصعب وضع مصطلح ثابت يصفها بدقة ويقول إنها مثل العائلة ( الإخوة والأخوات , الأبناء والبنات فى الأسرة) فى مواجهة الآخر لا يتصف أعضاؤها بصفات متطابقة لكنهم يظاهرون بعضهم بعضاً فى مواجهة الآخر.
ويتساءل فريد زكريا ما هى الشعبوية؟ ويجيب بأنها تعنى أشياء مختلفة لمجموعات مختلفة لكن الشعبويين متفقون على شئ واحد هو الشك والعداء للنخب والتيار السياسى الغالب mainstream ومؤسساته السياسية( قيادات الأحزاب , أعضاء الكونقرس, مراكز البحوث وحكام الولايات…) وترى الشعبوية أنها المتحدث الأصيل عن الطبقات المنسية من عامة الناس وتسستبطن شعوراً بأنها وحدها التى تتمتع بالوطنية الحقة.
أسباب صعود الشعبوية :
سنستعرض تفسيرات مختلفة لهذه الظاهرة التى تكاد تقلب موازين الواقع السياسى برمته فى العالم وهى مثل الظاهرة المناخية , ظاهرة السونامى يصعب التنبؤ بمتى وأين تحط رحالها ومقدار الأثر القادرة على فعله. غير أن التحليلات التى ظهرت حتى الآن لم تخرج الأسباب عن سببين أثنين: فشل إقتصاد العولمة القائم على حرية التجارة وفتح الحدود في تحجيم الفقر وتحقيق الرفاهية بل جاء وبالاً على الطبقات الضعيفة من فقراء البيض فى الولايات المتحدة وفى دول أوروبا الصناعية. السبب الآخرثقافى يرى مهددات تحيط بالمفاهيم التقليدية التى نشأ عليها جيل الكبار بظهور مظاهر إباحية فى العلاقات الجنسية وصلت حد إعادة تعريف الأسرة من رجل وإمرأة إلى رجل ورجل وأنثى وأنثى بالإضافة إلى صعود الأعراق الأخرى غير البيضاء على نطاق المعمورة.
من مدرسة كنيدى فى جامعة هارفارد كتب كل من( بيبا نوريس) من جامعة هارفارد و(نورلاند إنقلهارت) من جامعة ميتشجان, مقالة مشتركة بعنوان: ” ترامب وخروج بريطانيا من أوروبا وصعود الشعبوية: المعدمون إقتصادياً وردة الفعل الثقافية.”
Trump, Brexit, and the Rise of Populism:
Economic Have-Nots and Cultural
Backlash
Faculty Research Working Paper Series والمحتوى موجز فى هذا العنوان الطويل لأسباب ظاهرة الشعبوية إذ أنه بحث واستعرض النظريتين اللتين ردتا صعود الشعبوية لدى 268 حزب فى 31 قطراً فى الغرب إلى :إما لبعد إقتصادى متمثل فى الخوف والشعور بعدم الأمان على الأوضاع التى لحقت بسوق العمل وإما أن الأمر يعد ردة فعل عنيفة وصرخة حرى في المناطق الريفية التى لا يزال الدين والتقاليد المحافظة تلعب دوراً فى حياتها وهى مواطن الصناعات القديمة فى غرب أوروبا أو لدى فقراء البيض من العمال خاصة فى حزام الحديد و الزراع فى وسط الغرب الأمريكى وجنوبه الغربى والشرقى معاً. ردة الفعل التى عبرت عن نفسها فى صور عديدة كراهية للآخر المخالف لوناً وشكلاً ودينا وثقافة. تنكر ليبرالية بلا سقوف تكاد تعيد النظر فى مسلمات ثقافية ودينية وأنماط حياة راسخة فى تلك البقاع.
أجرى الأستاذان دراسة دقيقة مدعمة بالإحصائيات والبيانات لمعرفة جذور وابعاد هذه الظاهرة التى توشك أن تغير وجه التأريخ. وتوصلا إلى نتيجة هامة مفادها أن البعد الثقافى وتباعد الشقة بين الأجيال هو السبب الأهم فى صعود الأحزاب الشعبوية . وهى أحزاب بوسع مؤيديها قبول وسلطة صارمة (أوتوكراتية) أقرب إلى الديكتاتورية لديهم أو ما أطلق عليه فريد زكريا مصطلح “الديمقراطية اللا ليبرالية” فى كتابه لعام 2003 “مستقبل الحرية The Future of Freedom فى سبيل الحفاظ على القديم وحمايته. تأمل إعجاب ترامب بالرئيس الروسى فلادمير بيوتن.و تعتبر شعارات وتطبيقات , الحرية الجنسية ,زواج المثليين والإجهاض تطورات مزعجة لكبار السن التقليديين الذين يعيشون فى الأرياف وهم شرائح أقل تعليماً وأكثر تديناً .صحيح أن عامل الخوف الإقتصادى موجود أيضاً بين هؤلاء من جراء العولمة وهروب الصناعات إلى الخارج وفقدان الوظائف لكنه يحتل الموقع الثانى بعد البعد الثقافى. وتدليلاً على ذلك فليس جميع أولئك من المعدمين إذ لاحظت الدراسة أن بينهم ممن يمكن وصفهم بأنهم من طبقة البرجوازية الصغيرة: أصحاب المحلات التجارية الصغيرة, تجارة العائلات الصغيرة وهكذا بينما تعارض هذه الأحزاب الشعبوية اليمينية, طبقات أكثر فقراً تعتمد على برامج الدعم الإجتماعى الحكومية. ( التى توفرها أحزاب الوسط واليسار.)
وتشير الورقة إلى أن ظاهرة الشعبوية ليست جديدة فثورة الطلاب فى فرنسا عام 1968 والتى عطلت الحياة تماماً فى فرنسا أدت إلى فوز الديغوليين فى إنتخابات يونيو من ذلك العام فوزا ساحقاً حيث حولت الطبقة العامة أصواتها لليمين الذى يمثله الديغوليون بإعتباره الضامن للقانون والأقدر على الوقوف فى وجه الفوضى.
فى ذات السنة أدت ثورة الشباب فى الولايات المتحدة إلى عدم ترشح ليندون جونسون لولاية ثانية وأدت للمرة الأولى فى التأريخ إلى تحول الطبقة العاملة فى أمريكا لتصوت لرجل (رجعى) هو جورج والاس حاكم ألباما العنصرى وأحد مرشحى الحزب الجمهورى للإنتخابات الرئاسية الأمر الذى أدى لفوز ريتشارد نيكسون حيث وجهت تلك الطبقة فى النهاية أصواتها لينكسون بدلاً عن مرشح حزبها الديمقراطى الأقرب لليسار جورج ماقفرن بحثاً عن رئيس يحفظ النظام ولا يبتعد كثيرا عن التقاليد السائدة فى المجتمع.
فى أوروبا الغربية تنامت ظاهرة الشعبوية فى بعدها اليمينى الرافض للهجرة والكاره للمسلمين تحديدا .وقد تجلت هذه الظاهرة فى فوز شعارات الشعبوية فى بريطانيا التى أدت لفوز استفتاء شعبى خرجت بموجبه بريطانيا من الإتحاد الأوروبى وهو خروج تردد صداه فى أحزاب أوروبية أخرى كالجبهة الوطنية فى فرنسا وأحزاب فى هولندا وغيرها.
و نعود لورقة أستاذى جامعة هارفارد وميتشجان التى ابتدرنا به تحليل ظاهرة الشعبوية حيث تحلل الورقة أسباب العديد من التحولات فى أوروبا. ظهور الأحزاب التى تسمى أحزاب البيئة كالخضر مثلاً لعبت دورا فى إجبار الأحزاب التقليدية الكبرى على تضمين برامجها برامج لحماية البيئة . وهذه الأحزاب ذات توجه عالمى مؤيد للهجرة وتخفيف القيود على الحركة تتزايد شعبيتها بين سكان المدن الكبرى. لكن أحزاباً يمينية شعبوية مثل حزب الربييلكانر فى ألمانيا والذى يتهم بأنه الأقرب لطروحات النازية ينشط ويؤثر حيث تبنى الحزبان الديمقراطى المسيحى والديمقراطى الإشتراكى مواقف تحد من الهجرة لمحاصرة شعبية هذا الحزب.
الجدير بالملاحظة ما اشارت إليه الورقة عن تفشي الشعبوية لدى أحزاب أوروبا الشرقية فهى رغم أنها تؤيد إعادة سيطرة الدولة على الإقتصاد مركزياً إلا أنها معادية للأجانب وللهجرة وبخاصة فى بلغاريا. وترى الورقة أن طروحاتها الإقتصادية تقترب من رؤى دونالد ترامب العازم على تطبيق قوانين حمائية مع الحد من حرية الحركة الإقتصادية عبر الحدود.
وجدت الورقة أن تماسك الطبقة الإقتصادية الإجتماعية قد ضعف كثيرا فبت تجد بين الطبقات العمالية محدودة الدخل تماهيا مع طبقات أكثر رفاهية إنحيازا لرؤى ثقافية مشتركة.
إن من أسباب صعود الشعوبية المحافظة تمدد تيار ما يعرف( بتيار ما بعد الماديات) Post-materialistic وهو تيار متسامح إزاء الحرية الجنسية والشواذ والإجهاض والأقليات ومؤيد لحقوق الإنسان والعون الخارجي للشعوب الفقيرة . وحسب إفادات منظمة “مسح القيم العالمية World Values Survey فإن هذا التيار برز فى أوساط الشباب المتعلم المُنَعَم فى الدول الغربية وبدأ ينتشر فى أوساط المجتمعات الغربية مؤشرا على تغييرات فى بنية القيم المتوارثة. لكن لاحظت الدراسة أن نقدا وعدم ثقة فى مؤسسات الأحزاب السياسية القائمة صاحبت ذلك فى أوساط المواطنين.
هذا الصراع الثقافى الذى أبرز الشعبوية الجديدة التى ترجح الورقة أنها ظاهرة عابرة , مرده لإختلاف أوضاع الأجيال . فكبار السن الذين عاشوا بين الحربين عاشوا ظروفاً إقتصادية عصيبة وغير مستقرة بينما عاشت الأجيال الحالية ظروفاً مستقرة ميسور العيش فيها فى ظل دولة الرفاهية الى أعقبت الحرب . لذلك فبينما تصيب الصدمة الأجيال الأكبر سناً من تآكل القيم القديمة تتبنى الأجيال التى عاشت فى كنف الإستقرار والرفاه المادى ,التغيرات الإجتماعية الليبرالية المتسامحة إزاء الآخر والأكثر قبولاً للتنوع العرقى والدينى والثقافى وتكون متفتحة الذهن لكل جديد يطرأ.
وترى الورقة ايضاً أن قضية النوع (الجندر) تلعب دورا فى هذا الحراك حيث أنها باتت تهدد سطوة الثقافة الأبوية التى تحدد بصرامة أدوار محددة لكل نوع . إن نشاط الحركات النسوية قد افضت إلى تطورات كبيرة بالمطالبة بالمساواة فى البيت وفى أماكن العمل ونجحت فى تغيير العديد من القوانين لصالح المرأة الأمر الذى أحدث ردود أفعال تساهم فى صعود رافضة لدى كبار السن من التقليديين .هذه المقاومة الرافضة تعبر عن نفسها ببروز هذه التيارات والأحزاب الشعبوية اليمينية فى الغرب.
وكان بعض الباحثين قد عزا بعض مظاهر الظاهرة مثل كراهية الهجرة والأجانب إلى فشل الدول الأوروبية فى تبن سياسة حقيقية تروم إدماج الأقليات التى جلبت أو إختارت العيش بين الشعوب الأوروبية عبر ما أسموه سياسات التعدد الثقافى التى تدعيها بينما تكمن الحقيقة فى ان إعتبارات عرقية وثقافية كانت تستبطن تلك السياسات فلم يحدث إدماج لأقليات عاشت فى أوروبا لعقود طويلة لم تشعر بإنتماء حقيقى لتلك المجتمعات. (أنظر Kenan Malik:
The Failure of Multiculturalism)
وفى كتاب جون جوديس المشار إليه آنفا The Populist expansion والذى يمكن ترجمته إلى ” إنتشار أو صعود التيار الشعبوى”. يرى المؤلف أن الشعبوية بدات منذ تسعينيات القرن التاسع عشر الميلادى فى الولايات المتحدة ثم اوروبا الغربية وبدأت تتنامى منذ ذلك الوقت تقود قطاعات جماهيرية واسعة من المجتمعات على ضفتى الأطلنطى ضد المؤسسية السياسية القائمة فى قضايا مثل العولمة وحرية التجارة والهجرة .وهو تمرد يعارض قناعات النخب فى أوروبا وأمريكا كما أن له أكثر من وجه: يسارى يمثله صعود إرنى ساندر مؤخرا فى الولايات المتحدة فى إنتخابات 2016 الرئاسية ويمينى متطرف مثله دونالد ترامب. يتفق الكاتب مع من تقدم ذكرهم أن الشعبوية ليست إيدولوجية قائمة على طبقية بل هي خطاب تتبناه قطاعات من الشعب يتكرر ظهورها فى التأريخ الأمريكي فأمريكا عرفت حزبا يسمى حزب الشعب عام 1892 وهو حزب ثالث تبنى رؤي ليبرالية تدعوا لإسترجاع السلطة لبسطاء الناس من الأثرياء وهى تتبنى تعريفاً مدنيا للهوية الوطنية .وطروحات ذلك الحزب تشبه كثيراً طروحات إرنى ساندر.
ورغم ان المؤلف أشار إلى أن تأريخ الشعبوية بدأ فى القرن التاسع عشر وتكرر ظهور الظاهرة فى القرن العشرين والحادى والعشرين إلا أنه يرى أن الكساد الإقتصادى الذى ضرب إقتصاد الولايات المتحدة وبالتبعية الإقتصاد العالمى عام 2008, هو الذى أحيا هذه الظاهرة فى أمريكا وأوروبا حيث تميزت الشعبوية التى فشت فى تلك المجتمعات بتذمر من النخب وضيق من طروحاتها فى كافة التيارات السياسية والثقافية واختطت الظاهرة لنفسها صورا وقوالب جديدة.ويشير إشارة تأريخية إلى أن عقد السبعينات من القرن الماضى الذى بدا يشهد منافسة للصناعة الأمريكية وتصاعد لقوة إتحادات العمال قد جلب مخاوف للرأسماليين الذين سعوا عام 1965 لإستصدار قانون مساند بقوة للهجرة على الولايات المتحدة مثل قانون “جمع شمل العائلات” الذى جلب أعدادا كبيرة من العمال المهرة وغير المهرة من أمريكا اللاتينية وآسيا إلى أمريكا وأن هؤلاء قد حلوا محل العامل الأمريكى الذى يتقاضى نحو 18 دولارا فى الساعة خاصة فى مصانع صناعة وتعبئة اللحوم بينما لا يتجاوز اجر العامل المهاجر فيها الستة دولارات فى الساعة. يقول مؤشر Pew بحلول عام 2005 أصبح أولئك العمال المستجلبين والذين لم يحصلوا على إقامات قانونية يشكلون بين 20 إلى 25 فى المائة من العاملين فى صناعة اللحوم. ويقول الكاتب إن تسهيل الهجرة على ذلك النحو لم يجد تاييدا واسعاً فى البلاد.وواضح ان ذلك فى إطار صراع نشأ بين ليبرالية الصفقة الجديدة للرئيس روزوفلت التى وسعت من البرامج الإجتماعية لدعم الفقراء ثلاثينيات القرن العشرين وبينما يعرف بالليبرالية الجديدة المتحيزة لدنيا المال والأعمال وهذا ما انتهى بالكاتب إلى تأكيد دور الكساد العالمى فى إحياء الشعبوية.
وفى مقالة فريد زكريا فى عدد نوفمبر/ ديسمبر ل “شؤون خارجية” حول الشعبوية Why We Are All Deplorable? يشير الرجل إلى أن الشعبوية لم تطال دولا آسيوية هامة كاليابان وكوريا الجنوبية وهما من الإقتصاديات المتقدمة فى العالم. كما أن الظاهرة تراجعت فى أمريكا الجنوبية بسبب إخفاقات الأحزاب اليسارية فى الأرجنتين وفنزويلا وبوليفيا خلال العقد الفائت. بينما فى أوروبا ومنذ الستينيات من القرن العشرين ,ضاعفت الأحزاب الشعبوية اليمينية فى أوروبا حصيلتها من أصوات الناخبين ضعفين بينما ضاعفت الشعبوية اليسارية أصواتها خمسة أضعاف. وفى العقد الثانى لهذا القرن الحادى والعشرين, ارتفعت نسبة مقاعد الأحزاب الشعبوية اليمينية إلى 13.7 وارتفعت نسبة مقاعد الشعبوية اليسارية إلى11.5 . وفى مقالة أخرى له بعنوان : القوة الدافعة لصعود الشعبوية فى كل مكان هى الهجرة. The Force Behind Populism Everywhere: Immigration أى الهجرة من العالم الثالث إلى أوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة. يقول إن الشعبوية لم تتصاعد فى اليابان وكوريا الجنوبية لأن تلك الدول لم تشهد هجرات إليها من العالم الفقير. وفى أوروبا لم تتصاعد الشعبوية فى أسبانيا التى تشهد تدفقات من خارجها لكنها فى معظمها من متحدثين بالأسبانية أى أن العامل الثقافى حاكم هنا بينما يشهد اليسار لديها صعوداً ملحوظا.
وفى مايو 2016 كتب شادي حامد فى “أتلانتيك” عن ميول دونالد ترامب للحكم التسلطى الأوتوقراطى مشيرا إلى جنوح نحو تغليب رأى الأغلبية للإنتقاص من الحريات العامة. مشيراً إلى أن هناك منافسة دائمة بين الليبرالية التى تقدس جميع الحريات وبين الديمقراطية التى قد ترفض أوتقيد بحكم الأغلبية الأوتوماتيكية بعض الحريات. وهذا أنموذج للشعبوية التى تريد حرمان حقوق كفلتها دساتير غربية. يشبه شادى تيار الشعبوية اليمينية فى الولايات المتحدة بموقف التيارات العلمانية فى مصر بانها تخوفت من فوز الاخوان المسلمين رغم أنه تم بعملية ديمقراطية نظيفة بإعتباره نذير بتغيير نمط معاشهم ولباسهم وتربية أبنائهم وبناتهم مشيرا إلى إفادة من قريبة له فى السبعين من عمرها إلى ان البلاد تتجه إلى مصر أخرى لم تألفها من قبل ولا تعرفها. هذا شبيه بسخط التقليديين فى الولايات المتحدة على النخب حتى اليمنية المعتدلة واتهامها بأنها متساهلة مع تيار ثالث يروم الإعلاء من ليبرالية بلا سقوف تغير المألوف فى تحالف مع جماعات متمردة على التقاليد ومتحالفة مع الأفارقة الأمريكيين.
ومن طريف العناوين فى بحث ظاهرة الشعبوية مقالة مايكل كيزن أستاذ التأريخ فى جامعة جورج تاون , حيث جاء مقاله الذى اختارته مجلة شؤون دولية لنوفمبر/ ديسمبر 2016 عنوانا لغلافها: شعبوية ترامب , أنين قديم (أو شكايات ممضة إن شئت) فى قنانى جديدة!
Trump and
American
Populism
Old Whine, New Bottles
Michael Kazin
يقول إن ترامب قد وجد أرضاً خصبة تمور بمشاعر رفض وإستنكار عميقة لدى قطاعات تضم الملايين من البيض من الطبقة العمالية والوسطى رغم أنه ليس من أولئك فى شئ بل هو من طبقة المليارديرات يتباهى بثروته العظيمة وبمنتجعات يملكها موقوفة عليه وحده ,يتردد عليها برحلات مكوكية ويملك عقارات وفنادق عديدة ويؤمن بسياسة ( تغاير أشواق من أيدوه )تخفف الضرائب على من هم على شاكلته من الأثرياء. ويستعرض بملكة وعلم المؤرخ تكرار هذه الظاهرة فى الحياة الأمريكية منذ القرن التاسع عشر. أهم خلاصات هذه المقالة الهامة أن الحركات الشعبوية يمينية ويسارية تنجح فى الصعود قريباً من ذرى السلطة أو تصلها كما فعل ترامب إلا أن إستقراء التأريخ يؤكد أنها تلعب دورها فى تصحيح المسار بتعديله لكن لأن مؤيديها لا يتماهون إلا فى غضبة كبرى على واقع يرونه بئيساً وبحاجة إلى التغيير, فسرعان ما يدب الخلاف بينهم فيتفرقوا أيدى سبأ.لأنهم فى الغالب لا تجمعهم طبقة إجتماعية واحدة أو أيدولوجية موحدة كما تقدم فى ثنايا هذه الورقة , يجمعهم غضب من النخبة المسيطرة لمدد متطاولة دون أن يطرأ على حيواتهم تحسن يذكر ويحملونها كل أسباب الفشل. ثم تصطدم الهبة الكبرى والغضبة المضرية بواقع صلد ثخين يتأبى على التغيير إلا هنا وهناك وهنالك… فترضى الجموع الغاضبة ببعض ذلك فينفض السامر وتنتظر الدنيا عودة الظاهرة بعد عقود أو قرون فتتجدد الحياة بذلك كأن صعوبة التغيير جبلة فى الإنسان لا تقع إلا بمقدار.
كيف أفضت الشعبوية اليمينية إلى عنصرية بيضاء؟
وفى بحث هام أعده جيم بيرغر للمركز العالمى لمحاربة التطرف فى لاهاي بهولندا تحت عنوان: (هوية) وطنية أمريكية خطيرة؟ ( كلمة هوية اقتضاها السياق فالعنوان فى الأصل هكذا A Dangerous new Americanism?, تتبع الباحث جذور العنصرية الأمريكية وهى احدى إفرازات الشعبوية وردها إلى مصادرها الأولى المتمثلة فيما أسماه : الإسرائيلية البريطانية وتجدر الإشارة باكرا إلى أن الإسرائيلية هنا لا علاقة لها بدولة إسرائيل ولا باليهود بل ترى فى اليهود والسود أنهم من سلالة الشيطان وأن الجنس الأنقلوساكسون هو شعب الله المختار وهم احدى قبائل بنى إسرائيل التائهة والمفقودة وعلى ذلك اعتبرت الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة هما وريثتا إستكمال عهد الله النصوص عليه فى العهد القديم وهما كذلك يمثلان إستمرار دولة إسرائيل الأولى النصوص عليها فى العهد القديم فى العصر الحديث. ويدلل المؤمنون بهذه النظرية على صحة مزاعمهم بتتبع سلالات فى الإنجيل وقصص فلكولورية. نشطت هذه الحركة بين عامى 1870 حتى1910 والحركة فى مبتداها كانت ترى فى نفسها عرقاص مباركاً سيدا على بقية الأعراق ولكنها لم تتبن أى دعوة للفعل ضد الأعراق الأخرى. لكن نهج الحركة تغير بعدذبولها فى بريطانيا ومجيئها إلى أمريكا وكندا حيث وجدت نصراء لها بين البيض أفرادا ومنظمات فى ثلاثينيات القرن العشرين وواجهت مشكلة مع اليهود واليهودية باعتبار الأنقلو ساكسون هم شعب الله المختار. وازدادات حدة ذلك بعد الحرب العالمية الأولى فنشطت فى أوروبا وأمريكا “معاداة السامية.” وفى عام 1920 طبع كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون.” وساعد فى إنتشار الكتاب كتابات ويليام جى.كاميرون عضو “حركة الإسرائيليون البريطانيون ” الذى التحق للعمل بهنرى فورد صاحب مصانع السيارات المعروف ,عبر أعمدة صحفية جمعت فى “اليهدى العالمى أوJew The International وتحولت الحركة إلى حركة متطرفة فى عدائها للشيوعية وإعتبار قيام الإتحاد السوفيتى مؤامرة يهودية وأعيد تفسير الإنجيل بحرمان اليهود من أى صلة بالقداسة وتفضيل الله وتوقعت هذه التفسيرات نشؤ حرب فاصلة بين الإسرائيلية البرييطانية التى تضم الأنقلوساكسون ضد الإتحاد السوفيتى , الصنيعة اليهودية , ينتصر فيها الأولون.لكن ظهور الحركة الصهيوينة وسعيها لإقامة وطن قومى يضم اليهود شكل تحديا لطروحات الإسرائيليين البريطانيين أو الأنقلوساكسونو وتحولت طروحات الحركة بدلاً عن الأنقولوساكسون إلى الهوية المسيحية والجنس الأبيض وهذه اعتبرت اليهود ابناء الشيطان والسود جنس جلبه الشيطان من كوكب آخر فى بداية الخليقة.
ويشير الباحث إلى نشؤ التطرف بانه بدا من هنا (من هم داخل الدائرة) فى مواجهة (من هم خارج الدائرة ) أى (نحن) و(هم). و(نحن ) هنا تمثل الأبيض المسيحى و(هم) تمثل الجميع : السود,اليهود, المكسيكيين والمسلمين. يستشهد بذلك بأقوال لترامب أثناء الحملة الإنتخابية ضد المسلمين والمكسيكيين واليهود.
ويخلص الباحث إلى خطورة هذه الهوية المسيحية البيضاء التى ستؤدى إلى نتائج خطيرة ويدعو لمقاومتها والتمسك باهداب التنوع والمحافظة على الحريات كمبادئ راسخة فى الثقافة الأمريكية.
ويلاحظ من جملة هذه المصادر أن المخاوف الثقافية تعلو على العامل الإقتصادى الذى تسببت فيه العولمة بتحرير التجارة وتيسير حركة المال والأعمال عبر حدود الدول حيث تسببت فى بطالة وفقر فى قطاعات بيضاء بسبب هروب الصناعات من مواطنها الأصلية فى الغرب ,إلى بلدان فى آسيا تتسم برخص الأيدى العاملة.رأى أولئك ايضاً فى تدفقات المهاجرين بسحناتهم المختلفة وأديانهم وثقافاتهم خطراً يتهدد بلدانهم ونذيرا بتغيير وجه الحياة فيها فتنامت العنصرية والإسلامفوبيا حيثما كانت غالبية المهاجرن من المسلمين.
خاتمة:
ظاهرة المد والجزر سمة متكررة فى التأريخ البشري فقد اشار مارتن بيرنال فى كتابه “أثينا السوداءBlack Atheena إلى أن أريحية الثورة الفرنسية وشعاراتها فى الإخاء الإنسانى المتمثلة فى الإعتراف بفضل غير الأوربيين (شعوب وادى النيل والفنيقيون) على الحضارة اليونانية قد أعقبه إنكماش أوروبى تمثل فى صعود المدرسة الرومانسية. والشعبوية فى بعدها الإقتصادى تعد إنكفاءا ومقاومة لآخر مراحل تطور الرأسمالية فى قولبة العالم بإزالة الحدود ودمج الإقتصاديات لكنها فشلت فى مجرد الحفاظ على مستويات العيش التى ظل يتمتع بها الأوروبى والأمريكى فحدث هذا الإنقلاب الذى يوشك أن يعيد الجنى إلى الجرة. ترى ما آثار ذلك كله على بؤساء العالم الفقير. ذلك شأن ينبغى أن يتحسب له إنسان ذلك العالم بإهتبال السانحة لإقامة نظام يكون فيه هو السيد المالك لأمره.
تطرح هذه الظاهرة تساؤلات واستحقاقات أيضاً. هل تسير الحضارة الإنسانية فى خط مستقيم إعتبارا بالتجارب البشرية السيئة والخيرة صعوداً إلى ذرى أكثر رقيا وإنسانية كما ادعت الحداثة؟ أم أن الخير والشر يتبادلان الأدوار وفق ظروف معينة وحادثات تقع وأن الأمر يتطلب حذق الساسة والنخب بأن لا يكفوا عن الحذر فى توخى الخير ودرء أسباب الشر وأن تلك هى معركة الإنسانية منذ أن كان الإنسان؟!
أما الإستحقات فعلى دول العالم الثالث أن تختط لنفسها الطرق الأنسب لمجتمعتها والعمل على تفادى حالات الإستقطاب داخل مكوناتها إعتبارا بالحالة التى تعيشها المجتمعات الغربية هذه الأيام سيما وأن مجتمعاتنا أكثر هشاشة وأن قوة القانون فى الغرب قد تعصم مجتمعاته من التفكك وأن يسعى العالم الفقير إلى التكاتف والتلاحم مستغلاً فجوة هذه الشعبوية التى قد تفضى لإنكفاءات فى العالم المتقدم وفق شعارات مثل “أمريكا أولاً!” تتيح قدرا من الإستقلالية لمجتمعاتنا فى الحركة والتقدم.
لكن هل صحيح أن أمريكا تدير ظهرها للعالم أم أن العالم يحبس أنفاسه هذه الأيام رعباً من إندلاع حرب نووية مدمرة؟

وبعد….فهذه الصفحات سياحة عجلى تهدف إلى اعطاء صورة عامة لصعود الشعبوية فى العالم الغربى: أوروبا والولايات المتحدة وهى ظاهرة لو تنامت ستترتب عليها نتائج غير مالوفة فى العلاقات الإنسانية. ونؤكد أن ما حوته هذه السطور ليس بديلاً عن دراسة متأنية للظاهرة واستنتاج ما يمكن أن ينتج عنها خاصة لما تحمل من كراهية للآخر المختلف عرقاً وديناً وثقافة. ولكنها, هذه الصفحات, لمحة تعطى الفكرة العامة للظاهرة قد تصلح كمقدمة لدراسة أوفى وأعمق نأمل أن تسلط المقالات الأخرى فى كراستنا المرتقبة monograph مزيداً من الأضواء على الظاهرة.

تعليقات الفيسبوك