قال: تمرد جدى , عم أبى,على أبيه الشيخ وقد كان أثيراً عنده مقدماً على أشقاء يكبرونه فقد كان حاد الذكاء سريع الحفظ , راجح الرأى رغم اليفاع وصغر السن, قليل الهذر فى سماحة وطيب نفس وتبسم لا يفارق وجهه الصبوح. أتم حفظ التنزيل وهو فى الثامنة ,لذلك ادخره أبوه ليكون خليفة له على شياخة المسيد ورياسة الناس. نعم فقد غادر القرية فى جنح الظلام وهو فى نحو الثالثة عشر من العمر ضارباً فى الأرض حتى اتنهى به المطاف إلى الأزهر الشريف الذى مكث فى حلقاته نحو عام ثم تركه حيث لم يشف غليله من المعارف متنقلاً بين عدد من المشايخ فى الزيتونة فى تونس وفى صعيد مصر ثم التحق بعد أعوام بدار العلوم فحاز على إجازتها السنية ثم نهل من كلية الآداب فى قاهرة المعز, قسطاً من الفرنسية مكنه من دس نفسه فى باخرة حملته إلى مدينة النور , باريس الفخيمة. غاص فى أحيائها الفقيرة وتردد على مقاهيها ذات الصيت ومطاعمها فى الحي اللاتينى , حتى أتقن الفرنسية فنهل من كنوز صحافتها ومجلاتها الثقافية وأقبل على أشعار فحول شعرائها الأقدمين والمحدثين فتفرنس ووضع (البوريه) على هامته الضخمة. ثم لم يلبث بعد حين أن بلغ مبتغاه من كل ذلك حيث أدمن التطواف على مسارحها ومتاحفها حتى بلغ حد التخمة من ذلك كله, فعاوده حنين جارف إلى مراتع الصبا الباكر ,واسترجع ذكرى هوج الرياح تعصف بجذوع النخل عصفاً أوان الفيضان فتساقط البسر الأخضر والذى أصفر من جناها على صفحة الماء المحمر بفعل الطمى الكثيف القادم طراً من هضاب الحبشة والذى يتيح لأسماك القرموط التخفى والتقاط المتساقط من جنى النخيل , والصبية يتصايحون يتقاذفون بالبسر وضحكاتهم البريئة تشيع البهجة والحبور فى أركان المكان ثم يقذفون بأجسادهم الناحلة فى عمق النهر الجسور الثائر الذى لا تعرف سببا لثورانه, أمن عُجب بجبروته فى ذاك الأوان من العام أم غضباً من رياح عاتية تنال من سرعة جيرانه إلى المصب فتلهب ظهر الشواطئ التى يضنيها الإنتظار كل عام طمعاً قى نواله حتى تغدق هى على الناس من جروفها, اليانع من ثمرات اللوبيا والترمس والذرة الصفراء. أم أن هذا النهر العظيم قد طرب لحبور الأطفال وبادل فرحتهم بثورانه الواهب للحياة فرحا بفرح . فكر فى العودة إلى هناك بغرض الزيارة ثم الرجعة إلى باريس لكن غلبه الواقع الذى اعتاده فأوهى عزاءمه .ولعله خاف مصيرا كمصير مصطفى سعيد فهو يحيا حياة كحياة ذلك الرجل اللغز الذى صنعه خيال الطيب صالح عنوانا لإستحالة الجمع بين الماء والنار. وراعه ما تخيل من نظرات الخيبة فى عيون أناس رجوا فيه رجاء الأمل والصحبة والشياخة. كيف لو رأوه أو تخيلوه يضع قبعته على راسه ويقضى الليل متنقلاً بين الحانات ومواخير المدينة الكبيرة لا يلوى على شئ ؟ وهكذا سرعان ما يسقط الفكرة من راسه متشبثاً بالبقاء . كان إن راق مزاجه خرج فى( العصريات) يحمل عصاه على عاتقه ينشد بصوت حسن جهورى مقدمة معلقة لبيد بن ربيعة العامرى وقد كان كلفاً معجباً به يقارن بين أسلوبه وأساليب شعراء الفرنجة فى الحفاوة بالذكري. يزعم أن الذكرى محاولة لحبس الزمن فى أمكنة شهدت الحادثات قد تكون دمنا بالية وبعر آرام وقد تكون صخرة شاخصة تطل على محيط أو حطام سفين على شاطئ ضم محبوبين فى لحظة فرح, لا فرق ذلك كله يخرج من مشكاة واحدة سواء اتفق ذلك الوقوع مع أزمنة الجاهلية الأول أو عصور التنوير والحضارة الراهنة .
عفت الديار محلها فمقانها بمنى تأبد غولها فرجامها
والفرنجة يهيج الذكرى لديها ما كان من غزوات البحار والقرصنة واجتياح المجاهيل على السفائن العظيمة والملاحم التى يستعر فيها القتال فتسيل الدماء حتى تلون زرقة البحر. والعرب تفتأ تذكر البيداء والجمال والأفراس المخضبة ظهورها بالدماء والأشلاء! كل يغنى على ليلاه لكن ابن زياد فاتح الأندلس نجح فى محاكاتهم وهو ما أدهش محمود طه المهندس فقال مستغرباً :
أين القفار من البحار و أين من جنّ الجبال عرائس الدّهماء ؟
حتى نحن على تخوم أوطان العرب البعيدة نعيد رجع الصدى:
ما دايرا لك الميتة أم رمادن شح
دايراك يوم لقا بدميك تتوشح
الميت مسلوب والعجاج يكتح
أحى يا على سيفو البسوى التح!
نبقى نحن الناس ويتغير المحيط من حولنا, ذات المشاعر المتنافرة فى الأثرة والإيثار و فى الحب النبيل والبغض المدمر. قال لى ذلك وكأنه يلتمس لنفسه الأعذار فى عزوفه عن المجئ إلى البلد و ” الذكرى سلوى فى كل زمان وفى سائر الأمكنة, مزية خص الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات “. كيف وقد شاخ أعزباً تغضن إهابه وغارت شلوخه فبدت كأخاديد قديمة. لقد استعاض عن المجئ بان أرسل يطلب من أخيه أن يرسل إليه ولده الذى هو انا إلى باريس لتلقى العلوم والمعارف. وغلب فى ظنى أنه أراد أن يرى البلدة التى هجرها صغيرا مجسدة فى شخصى الضعيف واحتفى بمقدمى كل الحفاوة وبكى كالأطفال وهو يعانقنى مرة ومرات.. يسألنى عن زينب والسارة وعن حبه الأول فى سنى مراهقته الباكر (زينة بت الحاج سعيد ) وعن خادم الله وحاج خلف الله وجبارة الله حاجب العمدة كيف فعل وعن المسيد الذى رجاه جدنا الوقور ليكون خليفته عليه. قلت بقيت منه المبان وانفض سماره وأصبح ديوان القرية للعزاء وتلقى المعزين فخنقته العبرات فخرج مسرعاً من المكان كى لا أراه يسرف فى البكاء كما فعل ساعة مجيئى.
أجهد نفسه فى تعليمى الفرنسية كان كمن يسابق الزمن. كان كثيرا ما يطلب منى إلقاء الشعر عليه وكنا نتناقش ونختلف فى تقييم القصائد فأنا فى المعلقات معجب بذهبية عنترة بينما كان هواه مع لبيد.يحب فى لبيد فخامة العبارة فلبيد مثل عنترة فارس من سادات العرب أدرك الإسلام فاسلم وجاهد فى سبيله فهو صحابى من الصحابة فى عباراته رهج السنابك ونقع المعارك والغارات يسير على نهج أضرابه من فحول شعراء الجاهلية يبتدر القصيد بالبكاء على الأطلال حيث كانت المحبوبة ولكن بعبارات وكلمات هادرة كالسيل أو كقذائف الموت الحارقة:
ومدافع الريان عرى رسمها خلقا كما ضمن الوحى سلامها
والمدافع أماكن يتدفق منها الماء ويندفع بغزارة فى موضع فى جبل الريان لكنها استخدمت اسما على السلاح الفتاك بعد اختراعه فى العصور الحديثة يندفع من فوهاتها ليس ما يسبب النماء كالماء أصل الحياة والأحياء لكن الحمم الحارق المفضى إلى هلاكها. قلت صاحبك يلبس كلمات الذكرى الحبيبة أبواق الصخب والضجيج وصيحات المعارك الضارية وفى غناء الغرام مندوحة عن ذلك كله, تامل كلمات صاحبك الوعرة:
دمن ترجم بعد عهد أنيسها حجاج خلون حلالها وحرامها
تأمل قوله (تجرم)! ثم عواصف تلى ذلك:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها
قلت: قارن ذلك بقول مواطننا عنترة وعباراتها الحانية الودود فى مخاطبة حبه:
يا دار عبلة بالجواء تكلمى وعمى صباحا دار عبلة واسلمى
قال ضاحكا لم تحسن الحفظ تجد مثل ذلك عند لبيد كما تجد الوعورة بعينها وأكثر فى ذهبية صاحبك فارس بنى عبس: تأمل قول لبيد فى محبوبته :
مُرية حلت بفيد وجاورت أهل الحجازفاين منك مرامها
الشعر يابنى ,قال, فيضان الوجدان يذوب رقة كنسيم الصبا أو يهدر كسيل العرم أو كجلمود صخر حطه السيل من عل.الصخب الرنان كصخب أبيات لبيد ليس دالة على البداوة فالموسيقى التى تستهوى الشباب فى عصرنا هذا صاخبة إلى حد الجنون أحسب أنها تروم الوضوح والتعبير الحر عما يجيش فى النفس بلا مخاتلة وادعاء كاذب يتصنع الرزانة يتخفى فى قفازات من المخمل! ومع ذلك لا أقول إن الرقة فى القول نقيض الصدق عن مكنونات الدواخل وأنها على الدوام مخاتلة لكن أقول كل ينفق من تجربته وتركيبة وجدانه فلا نسقط الظنون على ما لم نألف ولا نقصر الخير والجمال على هيئة واحدة لا تتغير فالدنيا أجمل بالألوان. ولبيد فارس مغوار شهد الوقائع وركب الصعاب فلا غرابة أن تحمل عباراته بعض ذلك. تأمل بيت قطرى بن الفجاءة كيف جاءت أشعاره كقاذفات اللهب وهو يخوض المعارك:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعى
فإنك لو سالت بقاء يوم على الأجل الذى لك لن تطاعى
فصبرا فى مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمستطاع
قلت أشكل علىّ سأمه من الحياة وتوقه للموت والمغادرة حين قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد
قال: قيل إنه قالها لما جاوز المائة وهى جزء من قصيدة جميلة مطلعها:
قُضى الأمورُ وأنجز الموعود والله ربى ماجد محمود
يقول فيها ,وكأنه يجيب على سؤالك:
يوم إذا يأتى علىّ وليلة وكلاهما بعد المضاء يعود
وأراه يأتى مثل يوم لقيته لم ينصرم وضعفتُ وهو شديد
تأمل قوله عن سير الأيام السرمدى على ذات المنوال بلا كلل ولا ملل تسير مسارها دون ما وهن لا نصب بينما يضعف هو ويصيبه الوهن وتناله أعراض الفناء. لقد عدد في تلك القصيدة كما ترى ما شهد من أحداث وأبان أنه أدى دوره وقام بما أملته عليه الظروف من خدمة أهله والذود عنهم فكأنه لم يعد يبالى إن غادر الفانية ورحل:
وحميت قومى إذ دعتنى (عامر) وتقدمت يوم الغبيط وفود
أكرمت عرضى أن يُنال بنجوة إن البرئ من الهنات سعيد
وشبيه بذلك قول زهير بن أبى سُلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قال: يتأسى بعض شجعان الفرنجة عند دنو الأجل بالقول : لقد حان وقتى! ويستبطن قولهم حكمة مفادها أن لكل مخلوق أوان للرحيل ففيم الجزع؟ واستطرديقول : يبدو لى ان الوحدة تلد العزلة والعزلة مطية السأم فإذا طال بالإنسان العمروغيب الموت من شاركه الذكرى من الأهل والأصدقاء والجيران وزملاء المهنة فلم يجد من يؤانس استوحش. انعكس الحال فقط عند غبريال غارسيا مارسيل فى رائعته ( مائة عام من العزلة) حيث استوحش صاحبه الغجرى (ميلكيادوس) صديق (هوزى أوركايدو بيونديا) من الموت فعاد للحياة بعد أن مات لأنه لم يطق صبرا على الوحدة الموحشة فى الموت هناك وانه قد هرب بجلده من بقاع يغشاها الموت إلى هذا الصقع البعيد الذى لم يكتشفه الموت بعد! قال ذلك وضحك طويلاً ثم قال ألا ترى الشيوخ والعجائز يحسنون المؤانسة ويتجمعون فى حميمية لا تخطؤها العين يجترون ذكرياتهم وخيباتهم معاً؟ وإذا تساقط أولئك وفنيت آجالهم جلس من بقى منهم على قيد الحياة وبين الأحياء وحيداً ضجرا قد تسلل إلى حياته الملل فباخت عنده الحياة : يتذكر واقعة يرويها بحماسة فى مجلس وهو يتفرس وجوه السامعين فلا يجد بينهم من يتفاعل معها ويستأنس تارة بطرفة يقولها فى مجلس آخر لم يشهدها معه شاهد, فلا يحظى بسوى ابتسامات مجاملة بعضها صفراء! فيبدو غريبا بين الأحياء ثم يصيب الضجر نفسه و يلازمه الملل, فيتهامس فى حضرته الأقارب قبل الأباعد يظنون به الخرف قبل أن يبلغه. عندئذ يستبطيء مجى هادم اللذات وهازم المسرات التى لم يعد له فيها من نصيب فيتمنى أمنية لبيد وزهير. وحسب المنايا أن يكن أمانيا كما قال أبو الطيب.
علمت عنئذ عمق معاناته وأنه يعيش تلك الوحشة التى وصف ,وانها سبب مجيئ إليه وأننى بالنسبة له مثل الطلل البالى والأثافى والنؤيا تحمل ما يتساقط من الأمطار بعيدا عن الخيام, تحي موات الذكريات الحبيبة إلى النفس كأنما الذكرى هى الحياة الحقة, فأحجمت عن البوح بسؤال كدت ألقيه عليه: ترى أكان يسأم لبيد وزهير من طول العمر لو جئي بهما إلى باريس بمباهجها التى لا تنتهى وطوفوا بهما على شواطئ نهر السين وعلي ساحات مخضرة خضرة طاغية وبحيرات بهية تزين شطآنها الأزاهير فى مواقع عديدة من تلك المدينة العجيبة؟ أو أخذوهما إلى شواطئ اللازورد الحالمة ؟ ألم تسحر الشواطئ الشبيه بها فى نابولى طه حسين الذي رآها بعين البصيرة خيالاً بديعاً يبهج الروح أشرك في متعته تلك صاحبه الكفيف مثله ابوالعلا شيخ المعرة الفيلسوف الشاعر؟ حيث قال فى “مع ابى العلاء فى سجنه” :
فلَمْ أكَدْ أبلغ مدينة نابولي، وأنفق فيها يومًا وبعض يوم حتى خرجْتُ للتروض مع أسرتي على سواحل هذه المدينة، وبينما كانت زوجتي وابناي وصاحبي ينظرون إلى البحر والسماء، وإلى الجزر والرُّبى، وإلى هذه المناظر الكثيرة المختلفة التي كانت تُحْدث لهم متعة، وتُطلق ألسنتهم بالإعجاب، وتُبهر نفوسهم وتَسْحر قلوبهم، كُنْتُ أحسُّ هذه الطبيعة التي لم أكن أراها ولا أتصورها، ولا أعرف لها كُنْهًا تدنو مني قليلًا قليلًا، ثم تَنْفُذ إلى نفسي، ثم تملأ قلبي رضًا وأملًا، وحبًّا للحياة.
ساءلت نفسى مجدداً أكان يغشاهم السأم والزهد فى الحياة هنا بين المروج الخضر وزرقة البحر والسماء الأخاذة تظلل المكان ؟ وأبوهما آدم قد رام الخلود الأبدى؟
أجبت نفسي : أى نعم مع ذلك كله , يعتريهم ما اعتراهم فالناس هنا ومع سحر الطبيعة ورغد العيش يبلغ بهم التبرم وكراهية الحياة حد الإكتئاب فيقتلون أنفسهم وبأيديهم . ولله فى الخلق شؤون!