التكنولوجيا والغارة على الخصوصيات

على مستوى النظر فان الخصوصيات ليست وقفاعلى الحضارة الغربية ونعنى بالخصوصيات المساحات المخصصة فى حياة الأفراد لذواتهم الفردية وما ينطوى على ذلك من الأسرار الخاصة بالفرد وأسرته وما لايرغب فى اشراك الغير فى معرفته لأى سبب من الأسباب.وتأكيدا لاحترام ثقافتنا لتلك الخصوصيات قولنا ” البيوت أسرار” وحث التعاليم الدينية على منع الزيارات فى أوقات معلومة من الليل والنهار. هذا على مستوى النظر لكن الواقع الذى تعيشه مجتمعاتنا وأكثر المجتمعات النامية بل والفقراء فى الدول المتقدمة نفسها يخالف ذلك كثيرا بحيث تبدو الخصوصيات الفردية وحرمتها وتحريم التعدى عليها بالتجسس وغيره من الأساليب, كما لو كانت من مميزات الحضارة .الغربية المعاصرة. ويندرج فى سياق ما يعرف لديهم بالحريات الشخصية : حرية التنقل والسفر والملبس والتملك التى اعتبرت حقا مقدسا وعلى أساسها انبنى الاقتصاد الرأسمالى ومن باب أولى حريات الاعتقاد والتعبير عنه الى غير ذلك. ويساهم الفقر فى المجتمعات النامية فى تقليص مساحة الخصوصيات حيث تلجأ عبقرية تلك المجتمعات الى ابتكار تدابير جماعية للتصدى للفقر كالنفير والفزع وجمعيات التوفير (أى ما نسميه فى السودان بالصندوق) والعيش فى كنف الأسرة الممتدة ونظم المقايضة والاستلاف. وهذه التدابير تزيد بالضرورة من درجة الاحتكاك والتواصل فى هذه المجتمعات الأمر الذى يؤدى الى تضييق مساحة الخصوصيات بل وانعدامها تماما ففى كثير من بلدان العالم الفقير لا توجد أسوار أوحيشان فاصلة بين البيوت وفى أغلب الأحيان تعرف القرية كم يملك فلانا من الدقيق والبصل فى بيته بل وخصائص وتفاصيل حياة الرجل فى بيته. أما المجتمعات المعاصرة فى الغرب فتعيش فى نطاق الأسرة الصغيرة أو فى لا أسروينحصر التواصل بين أفرادها على مجالات محدودة جدا وينطوى كل فرد فيها على جملة من خصوصياته وأسراره يعض عليها بالنواجز. وحتى فى نطاق الأسرة الصغيرة (الأب والأم والأبناء) يحتفظ كل فرد بمساحة خاصة به لايسمح لأحد بولوجها.

لكن يبدو أن التكنولوجيا فى عصر العولمة الذى نعيشه توشك على الانقضاض على هامش الخصوصيات الذى تتمتع به المجتمعات الغربية وبالتالى تحقق مساواة غير مقصودة بين مجتمعات الفقراء والأغنياء فى العالم فى ميدان واحد على الأقل : ميدان ألا خصوصيات بعد اليوم!

كتب “شين فلن” تحت عنوان : هل بقى هناك ما هو خصوصى ؟

حكى الكاتب اجابة على التساؤل الذى طرحه آنفا أن رجلا يدعى ” كيفين بانكستون” كان يدخن خلسة بعيدا عن أعين الناس حيث يختلس جزء من الساعة الممنوحة له لتناول وجبة الغداء ليشعل سيجارته خارج مقر العمل فى الشارع العريض.( يمنع التدخين بتاتا فى مقار العمل وفى المطاعم والمطارات وفى داخل الطائرات والمركبات العامة) فى الولايات المتحدة. لكن صاحبنا فوجأ بصورته على الانترنت وهو يدخن! تصادف وجوده فى الشارع مع قيام احدى شركات اعداد الخرائط بالتصويرفالتقطت صورته. وتكرر عليه الأمر حيث قامت صفحة (قوقل) المعروفة بالتقاط صورته وهو يدخن بينما كانت تلتقط صورا لشارع فى مدينة سان فرانسيسكو. علق الرجل على ذلك قائلا : ان الخصوصية قد غدت سلعة فى طريقها الى الزوال!

وجاء تعليق كاتب المقالة كما يلى: ان كل ما نقوم به الآن من أعمال مرصود ومسجل: ما تبتاعه من أشياء والمكان الذى تذهب اليه والشخص الذى تتصل به عبر الهاتف والصفحة الالكترونية التى تزورها والرسالة الالكترونية التى ترسلها. أضاف السيد كيفن:” واذا خرجت لمحفل عام فانه يصبح فى شبه المؤكد ان تلتقط لك صورة”. يقول كاتب المقالة: ان هناك شىء واحد مؤكد هوانه ليس عمليا فى عالم اليوم اقامة شرنقة خاصة للخصوصيات لأنك لتحصل على غرض من البنك لشراء سيارة أو أى جهة ضامنة لا بد لتلك الجهة أن تحصل على كافة المعلومات الدقيقة الخاصة بك: اسمك وتاريخ ميلادك وعنوانك ورقم السجل المدنى الخاص بك وسجلك السابق فى سداد مستحقات الغير عليك للتأكد من أنك شخص مؤتمن يمكن التعامل معه. وفى مقابل حصولك على بطاقة متجر للبقالة ( سوبر ماركت) فانك توفر على نفسك قرابة مائتين وستة دولارات فى العام ولكن فى المقابل فان المتجر يعلم كم قطعة من (كعك الدوناتس) استهلكت وكم علبة من الشراب أو قارورة شربت وكل ذلك يسجل ويرصد ويمكن أن يساء استخدامه. ( ويقوم المتجر استنادا على جملة مشترياتك كل عام مثلا بتحفيزك بتخفيضات اضافية أو هدية ما فتغمرك السعادة دون أن تعى حجم الاختراق الذى وقع لاحدى خصوصياتك : ماذا تأكل وماذا تشرب وأى نوع من الصابون والشامبو تستخدم.) وهكذا فاننا لاعتبارات عملية نقايض خصوصياتنا فى مقابل مصالح تعود علينا. وتكمن الاشكالية فى التعامل مع الحاسوب فالشباب مثلا وبغرض اللهو البرىء احيانا ومن وحى (الشيطنة) يتبادلون معلومات عن أنفسهم عبر شبكة الكترونية اجتماعية تسمىFacebook تتضمن صورا لأنفسهم قد لا تكون لائقة فى بعض الأحيان و يتبارون فى ضروب من (الشقاوة) يتبادلون فيها عبارات لا تليق وقد يدلون باعترافات على أنفسهم بأنهم قد دخنوا الحشيش مثلا. ثم تمر الأيام والأعوام فيتخرج أحدهم من جامعة مرموقة مثل جامعة (ييل) على سبيل المثال فيخرج للحياة باحثا عن عمل يليق بشهاداته أو يقرر خوض الانتخابات لمنصب ما فيقوم أصدقاء الأمس خصوم اليوم أو قل الحساد وبعض مخترقى تأمينات الحاسوب Hackers ببث تلك الصوروافشاء تلك الأسرار البريئة فتطير الوظيفة المرموقة وتكون على أهلها قد جنت براقش! لذلك فقد عقدت بعض الجامعات دورات لتدريب الطلاب على كيفية مسح تلك الصفحات الخاصة بهم على الشبكة الاجتماعية المذكورة حفاظا على مستقبلهم الوظيفى. وقد ذكرت طالبة جامعية فى السنة النهائية أنها عندما توجت ملكة جمال لاحدى الولايات اتصل بها مجهول يبتزها بنشر صور لها على الشبكة المذكورة فسارعت هى بنفسها الى نشر تلك الصور على طريقة (كتل الدوش) مفوتة عليه فرصة ابتزازها لكنها عانت فى نفس الوقت أسابيع طويلة من( الكسوف) والحرج الشخصى! وأعطت المقالة نماذج عدة لأناس تضرروا بسبب ما حوت جرائد اقليمية صغيرة من حوادث قديمة عفى عليها الزمن وقعت لهم فى مقتبل حيواتهم وتجاوزوها. قالت الحسناء التى ذكرنا آنفا : ” انى أعلم كم هو سهل على أحد أن ينال منك عبر استخدام الانترنت. ان صفحاته لهى المكان الذى يتيح للناس أن يدمروا سمعتك ان لم تكن حذرا بما فيه الكفاية.” وأشارت المقالة الى سرقة ما يربو على مائة وستين مليونا من معلومات تخص أفرادا منذ بداية عام 2005 عرضت للبيع للشركات أو طفحت على الصفحات الالكترونية اهمالا و دون قصد سىء. واستعانت المقالة بعدد من الخبراء ليسدوا النصائح للقراء بتحرى الحذر فى الادلاء بمعلوماتهم الشخصية فى مجتمعات ما بعد عهد الصناعة الرقمية منبهين الى أن معدلات جمع المعلومات عن الأفراد تفوق سرعة تأمين تلك المعلومات من الاختراقات الضارة. ويختتم كاتب المقالة مقالته بكلمة بليغة للسيد “كيفن بانكستون” الذى ضبطته الكاميرات وهو يدخن سيجارة حمراء عادية فى قارعة الطريق ونشرت صورته على نطاق الكون المعمور:

” الأمر ليس أن تضبط وأنت تخفى شيئا , بل القضية أن يمنح انعدام الخصوصية الحكومة سلطة جامحة على الناس. اننا قلقون على خصوصية ضرورية بالنسبة لنا كى نعيش حياة مزدهرة كمجتمع حر.”

وهكذا توشك التكنولوجيا المتقدمة فى عالم التواصل الانسانى أن تسوى بين المجتمعات فى ” كشف الحال”. ويوشك الهاتف الجوال فى مجتمعاتنا أن يقضى على ما تبقى من نذريسير من خصوصية أهملناها رغم رسوخها فى ثقافتنا. ويكمن التحدى فى أنه لا سبيل أمامنا الا المزيد من الاقتحام لعوالم ثورة الاتصال الرقمية لكن مع الحرص على صيانة خصوصياتنا وحمايتها لا عرضها على الملأ

تعليقات الفيسبوك