التحرر من نظرية المؤامرة!

والمعنى الذى تقول به المعاجم فى توضيح معنى “نظرية المؤامرة ” هو أنها تعنى الإعتقاد فى وجود فاعل خفى لحدث سياسى أو إقتصادى مجلجل غير الذى يبدو من ظاهر الأشياء . وقد يكون ذلك الفاعل مجموعة أو منظمة تآمرت على القيام بذلك الفعل تحقيقاً لأغراض بعينها. ويتضمن ذلك رفضاً للرواية التى ينعقد عليها إجماع جل الناس أو تؤيدها الوقائع المنطقية أو القرائن المتحصل عليها الدالة على الفاعل الحقيقى للأحداث. والإيمان بنظرية المؤامرة ينم عن فقدان للثقة تام أو جزئى بالسلطة السياسية أو الدينية أو أى سلطة رسمية ذات ولاية ما على الناس فى شان من الشؤون. وانعدام الثقة فاش فى كل المجتمعات الإنسانية بدرجات متفاوتة. ففى الغرب تقل الثقة كثيراً فى السياسيين المحترفين وينظر الى مواقفهم ونواياهم بكثير من الريب والشكوك استناداً الى خبرات تراكمية عنهم وضعت مصداقيتهم على المحك. ولكن مع ذلك يتم انتخابهم لقيادة بلدانهم بنسب مشاركة متدنية فى الغالب كانهم من قبيل الشر الذى لابد منه ولأن وسائل الرصد والضبط قد تقوّم بعض الإعوجاج. وتكثر هذه الفئة من المتشككين بين الطبقات عالية الثقافة من أساتذة الجامعات وللمفارقة أيضاً لدى الطبقات القابعة فى أسفل السلم الاجتماعى من العمال والفقراء حيث لا يجد أولئك تفسيراً لشقائهم سوى مؤامرات الكبار أصحاب الدرهم والدينار. فالطبقات المستنيرة من المثقفين الملتزمين لا تجنح الى نظرية المؤامرة رغم ذلك لأنها تملك الوسائل التى تمكنها من التحقق من حقائق الأشياء . فهى من ناحية تنفذ الى لب القضايا عبر المتاح من الوثائق والمستندات فى مجتمعات تتسع فيها دوائر الشفافية وتتمكّن بذلك من تفنيد التبريرات الرسمية للسلطات التى قد تنجم عن أهواء السياسة وموازناتها. بعض هذا الجهد يساعد فى تصحيح المسار و الخطط والسياسات وبعض هذا الجهد يتبدد سدى حيث تتمكن جماعات المصالح عبر حملات العلاقات العامة المؤثرة, من طمسه أو تشويهه وإبرازه على غير حقيقته فلا يصار اليه . وقد تدفع مثل تلك الحملات المضللة أولئل المتشككين من أهل الرؤى المخالفة الى القنوط من إمكانية الإصلاح فيندفعون الى مزيد من الشك. وعندئذ يفسحون مجالاً أوسع لأصحاب المصالح فيدمغونهم بأنهم يغردون خارج السرب وخارج أسوار التيار العام! وتلك سبة تجعل صاحبها كالأجرب الذى لا يجرو أحد على الاقتراب منه فى تلك المجتمعات. أنظر الى الحفاوة التى يجدها مثقف مستنير مثل ” نعوم شومسكى” خارج بلاده مقارنة بتأثيره داخلها الذى يتضاءل بحيث يصل الى درجة الصفر رغم قراؤه الكثر هناك. و مثله مثقف آخر وروائى مرموق هو السيد” غور فيدال”.
ونستدرك فنقول إنه من السذاجة أن يكون المرء ِصدّ يقاً فى زماننا هذا فرغم أن الحفاظ على الأسرار فى ظل الثورة الخرافية لوسائل الإتصال الحديثة إلا أنه بمقدور ذات الوسائل أن تحور الحقائق وتمارس الواناً من التدليس الذى يغيّب الحقيقة. وقد بلغ الشك حداً بأحد أصدقائنا من الأمريكيين جعله يصنع طعامه بيده متداوياً عند المرض بالأعشاب وأشتط فرفض علم النفس (السايكولوجى) فسماه (تريكولوجى) أى علم الخداع ! وليدلل على ذلك كان يتلاعب بقلم الرصاص (المرسمة) فيتراءى ذلك القلم الواحد بالعين المجردة أقلاماً عديدة ويقول هذا ما يصنعه (السايكولوجى) بعقول الناس! والمطلوب شىء من الشك الديكارتى أو الشك المنهجى الذى يفضى الى الوصول الى الحقائق. ومن أشهر نظريات المؤامرة :
الزعم بأن المركبة الأمريكية لم تهبط على سطح القمر عام 1969 وأن الأمر برمته لا يعدو أن يكون (فبركة) من قبل وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا). وأن( السونانمى) المدمر الذى ضرب المحيط الهندى قبل أعوام وأودى بحياة مئات الأولوف ما هو إلا عمل تخريبى من صنع تكنولوجيا أمريكية متطورة. ومن ذلك أيضاً أن السفينة (تايتنيك) الأشهر فى التاريخ الحديث والتى غرقت عام 1912 وغرق معها نحو خمسمائة وألف من الناس, لم تكن هى التى غرقت وانما غرقت أخت لها تدعى “أولمبيك”. او أن سبب غرق أتلانتيك كان لعنة من لعنات مومياء الفراعنة. وأن النازيين قد حطوا على سطح القمر عام 1942 وأن بعضهم قد جاءوا من هناك. كذلك فان مطعم الدجاج الأمريكى الأشهر فى طهى الدجاج مقلياً فى الزيت الحار ( كانتاكى فرايد شكن) يملكه عنصرى أبيض من جماعة (كوكلاس كلان) وأن دجاجه المحبب يحتوى على مادة تسبب العقم للسود كى لا يتكاثروا! واتضح بعد ذلك أن مالكه من أولئك السود!! وهناك أخرى تتحدث عن أن العالم مسير ومسيطر عليه من قبل مخلوقات زاحفة تشبه الديناصورات وأن فترة العصور الوسطى الأولى لا وجود لها كما أن الملك شارلمان شخصية أسطورية من صنع الخيال وكذلك كل الفنون المنسوبة لتلك الحقبة. وفى عجلة من أمره وانبهارا بالفلسفة الفرنسية سارع الدكتور طه حسين الى استخدام الشك الديكارتى (كوجيتو) لتاليف كتابه الشهير ” فى الشعر الجاهلى” مشيراً الى أن الشعر الجاهلى من صنع رجال فى العصر الأموى و العباسى أمثال حماد الراوية وغيره نظموه إبان تفشى العصبية القبلية تمجيداً لقبائلهم وأسلافهم ونسبوه لرموز أسطورية من تلك القبائل لا وجود لها إلا فى الخيال عاشت فى العصر الجاهلى. ودعا لاستخدام منهج ديكارت بالشك فى المسلمات جميعاً لبناء معرفى جديد. وأحسب أن الرجل قد تعجل فى استخدام ذلك النوع من الشك فأفضى به الى نتائج لا تقوم على ساق. ولعلنا نكتب بتفصيل فى تلك المسألة لاحقاً إن شاء الله.
وأسوأ ما يمكن أن يندرج فى سلك عقيدة (نظرية المؤامرة) الشك فى النوايا الخيرة ونفيها لأن ذلك يعد شكاً فى وجود المشاعر الانسانية التى تحمى النوع البشرى من الإنقراض . ومن ذلك ما عبر عنه بيت أبى الطيب المتنبىء:

والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم!

ونظرية المؤامرة قليلة التأثير فى المجتمعات المتطورة لأنه بالإمكان التيقن من كثير من الأحداث عبر وسائل عديدة موضوعية ومقنعة ولصعوبة أن يتواطأ جل الناس على المؤامرات. لكن الاعتقاد فى هذه العقيدة فى مجتمعاتنا النامية يعد محرضاً قويا على (اللا فعل) وقد تتواطأ هذه العقيدة مع عقائد بالية ودفينة فينا ورثناها عن ماضينا البعيد هى التى تجنح حالياً بمجتمعاتنا الى العديد من ممارسات الدجل والشعوذة حتى لدى قطاعات –للأسف- من المتعلمين وهى عقائد فى مجملها مخالفة لتعاليم الدين الحاضة على إعمال العقل والفكر والتعويل على وسائل التحقق المادى التجريبى والعقلى لمعرفة أسرار الطبيعة فى الوصول الى الحقيقة . “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته” “اعملوا فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.” إن المسارعة لإرجاع كل مصيبة وكل خلل فى حياتنا الى المؤامرات الخفية يقعد بنا عن الكد الشاق والسعى الحثيث المفضى بالناس الى النهضة.
صحيح أن جل نظريات المؤامرة مثل تلك التى ذكرنا آنفاً صناعة غربية تشكك فى الروايات المؤرخة للحادثات والمجمع عليها من قبل التيارات الرئيسية الغالبة هناك و بالطبع فإن جل المؤمنين بها ينتمون الى تلك المجتمعات الغربية, لكن تكمن المشكلة عندنا فى أننا نتخير هذه النظريات الشاذة التى تجافى فى أغلب الأحيان العلم التجريبى والتحليل المنطقى الذى يستند الى العقل لنعلق عليها ضعفنا وعجزنا عن العطاء وتهيبنا من إقتحام الصعاب والأخذ بأسباب النهضة. ولئن كان لنظريات المؤامرة فى الغرب من فوائد فهى أنها تستنفذ المزيد من الجهد لتفنيدها عبر العلوم التجريبية والانسانية لقطع الشك بالقين فتضيف فصولاً جديدة فى المعارف الإنسانية. أما نحن وفى ظل افتقارنا لوسائل التفنيد تلك يتعين علينا تصحيح مناهجنا وتنقيتها من شوائب الخرافة والتخمين والتفكير الرغبوى فى ميادين التعليم وفى الادارة وفى الخطاب العام عبر وسائل الاتصال لمجانبة التهويم المخدر الذى يرفع عن كواهلنا مؤونة التجويد والإتقان اللازم للبقاء فى عالم يسير قدماً فى ميادين العلم والتقانة وصناعة المستقبل.

تعليقات الفيسبوك