البشارة

رنا عبد التواب ببصره الى النيل الممتد أمامه عبر شارع الموردة فى أمدرمان وأخذت لبه الزرقة البديعة التى آست مياهه بعد إنقضاء الخريف وانحسار الفيضان وترسب الطمى الداآن السمرة فى أعماق النيل أو على شطآنه حتى يتيح لصفحة السماء الزرقاء أن تنعكس على صفحة مياهه . هنا توقفت قدما عبد التواب عن تحريك عجلة ماآينة الخياطة (السنجر) التى ظل يقتنيها ويعيش على ريعها منذ ثلاثين عاماً خلت. وفعل الهواء البارد الذى ينبعث من الشمال آلما دنا الشتاء فعله فى الرجل والذى نسب مصدر إنبعاثه الى هذا النيل العظيم الذى يمر من هنا, فاستكان الى خدر لذيذ دقدق دواخله ونبش صفحاتها صفحة بعد أخرى فأسند عبد التواب رأسه الى راحة آفه اليمنى مستنداً بساعده على طاولة الماآينة وغاص عميقاً فى أغواره البعيدة فرأى بعين الخيال المرآب الشراعى الصغير الذى يسبح فى هدؤ على صفحة الماء أمامه, مراآب عديدة بعضها ضخام يضيق بها المكان آما آان الحال قبل ثمانين عاماً مضت عندما آانت الموردة مورداً فعلاً لا قولاً ترد اليه المراآب من آل مكان بالخير العميم. ذلك قبل أن يجلب الإنجليز هذا الجسر الحديدى (الكوبرى) ليربط بين الخرطوم وأمدرمان. آان المرسى الكبير يعج بأجناس شتى من البشر جاءوا من آل مكان : دناقلة , محس , صعايدة قدموا من مصر وأناس جاءوا من سنار ومن غرب إفريقيا , يمانية وبعض اليونان ترتفع أصواتهم بالصياح ثم تخفت وهم يفاصلون فى أسعار السلع المحمولة على ظهور تلك المراآب. بعضهم وسطاء وبعضهم مجرد “نوتية” ورواويس والبعض الآخر تجار تبدو عليهم آثار النعم يرفلون فى ثياب بيضاء وعلى رؤوسهم العمائم المكورة بعناية تزين أآتافهم الشالات المطرزة الزاهية الألوان. وفجأة انزلقت ذاآرة عبد التواب من هذا المشهد الصاخب النابض بالحياة الى والده جاد الرب فأقحمه بخياله فى هذا البحر المائج من الخلق. وبدا جاد الرب صخاباً ملحاحاً يفاصل فى الأسعار يكثر الحلف بالطلاق والحرام وأحياناً يزأر مغاضباً أو ضاحكاً يملأ الأفق بقهقهات عاليات تُسمع وآأنها تخترق جدار الصوت. آان جاد الرب فاحماً آالأبنوس, فارعاً قوى البنية عملاقاً ذا صوت له صليل آصليل الأجراس اذا صاح مزمجراً. قال لابنه عبد التواب إن جده جاء من صعيد مصر وأن أمه من الدناقلة صناع المراآب الذى قدموا من الشمال الى منطقة آررى قبل المهدية بنحو مائة عام. آان جاد الرب ماهراً فى جمع المال “آسيباً” آما يقولون لكنه آان متلافاً له حاذقاً فى تبديده ايضاً بذات القدر. لذلك اشتهر بالسفه وذاع خبر ولعه باللهو والغناء والشراب والنساء. وآان يسيراً على مثله بما حباه الله به من بسطة فى الجسم وسعة فى الرزق ووسامة ورجولة لا تخطئها العين أن يسلك نفسه فى زمرة وجهاء أمدرمان إن اراد لكنه عجز عن آبح جماح نفسه التواقة الى التفلت من آل قيد. ولم يستيقظ جاد الرب من نزواته الا بعد أن غطى الشيب جل فوديه وبدا الشباب الغض والمال يتسلللان من بين يديه فأسرع يبحث عن زوجة قبل فوات الأوان فتبارى وغريمه الجيلى فى مصاهرة عمدة المدينة الشيخ سلالاب بالزواج من آريمته الحسناء “العازة”ففاز بتلك الحسناء الجيلى الذى فضله العمدة على جاد الرب الذى وصفه بالسفه وأن سفه من قبيل ذاك الذى لا حلم بعده. وغص جاد الرب بالحسرات وربما ذرف العبرات على ضياع العازة وجاه أبيها العمدة وزاد من حسراته أن يظفر بها غريمه الجيلى الذى لم تكن تحلو الحياة له الا بمصاولته فى آل ميدان. والغريب أن جاد الرب لم يعترف قط بما رماه به الناس من الطيش والسفه وأنحى باللائمة فيما آلت إليه حاله على الجسر “الكوبرى اللعين” الذى جلبه الإنجليز من أسكتلندا بعد أن شاخ هناك ليربط الخرطوم بأم درمان فأمات مرفأ الموردة وقطع أرزاق المسلمين. وآاد الرجل من فرط القهر والغيظ و الغنوط أن يقنع من حوله من الناس أن ” الكوبرى اللعين” ما هوالا دسيسة استعمارية تستوجب المقاومة ضد “الكفرة الملاعين”. وبدا عبد التواب لفرط غيظه وغضبه على والده الذى واراه التراب قبل عشرين عاماً , آأن أباه الذى لم يورثه درهماً ولا ديناراً قد أورثه فقط حسراته ولوعاته على عدم الظفر بالعازة بنت العمدة زوجاً له فتأوه نافثاً من صدره الزفرات:
– لو آان الوالد رحمه الله قد تزوج العازة بت سلالاب ما آان دا الحال… آان على الأقل ورثنا حوش العمدة وما آان ود العباس بيطردنا الليلة بالمحكمة من بيت بندفع إيجارو ستين سنة! لكنه عند تذآره أن ابن العازة بت العمدة سلالاب هو هذا “الخاتم” الذى ظل يشارآه ايجار هذه “الدآان الصغير”منذ ثلاثين عاماً إذ لم ينل من ثراء جده سلالاب سوى دريهمات اشترى بها ماآينة خياطة “سنجر” مثل التى يجلس عليها هو. لكن سلوته فى رقة حال الخاتم لم تكتمل وعاوده الغيظ والنقمة على أبيه جاد الرب فتمتم قائلاً لنفسه:
– لكن الخاتم على الأقل ساتر شيبو فى بيتو.. لا حول ولا قوة الا بالله… ولم تقف مصائب عبد التواب المسكين عن حد الطرد من البيت الذى يعيش فيه والذى يتعين عليه إخلاؤه قبل نهاية الشهر إن لم يسدد إيجار ثلاثة أشهر خلت, فإنه مهدد أيضاً بإخلاء هذا الدآان لأن المالك الجديد له وهو واحد من هؤلاء المغتربين الذين أصابوا حظاً من الثراء يريد هدم الدآان ودآاآين أخرى فى ذات المربع ليقيم مكانها عمارة متعددة الطبقات. وعند هذا الحد أخرج الرجل من جوفه مزيدا من زفرات الخيبة عندما تذآر أن ولده عثمان ظل مغترباً فى الظهران عقداً آاملاً من الزمان بلا فائدة وأنه لو لا السفه الذى ورثه عن جده جاد الرب لكان هو المالك الجديد لهذا المربع من الدآاآين ولأقام عليه عمارة تضاحك هذا النيل صباح مساء. وانصرف الذهن الى عقوق الأبناء والى عثمان الذى لم تجدِ نفعاً معه نداءته ولا توسلات أمه المريضة الحاجة سنية. وغرق الرجل فى وحل الأسى المقيت والأحزان المميتة وأقام فى دواخله مأتماً بكى فيه حاله البئيس وحال شريكة حياته الحاجة سنية وهو يرى شبح الموت يطرق بابهما غداً حيث لن يجد المعزون من يتلقى منهم واجب العزاء. وهكذا وآأنما السياحة التى بدأت هادئة وجميلة بتأملات فى زرقة النيل الحالمة لم تكن سوى إغمائة وغيبوبة عن الواقع أعقبتها عودة قوية الى الواقع الثخين الخشن بكل استحقاقاته التى لا تجمال رجلا فى سن عبد التواب ولا رقة حاله. وآأن ذلك آله لم يكن آافياً ظهر الصبى الحائك اسحق فجأة ليفجر فى الرجل ما تبقى من براآين الغضب والإحباط: وقف اسحق بملابسه الرثة إبتساماته البلهاء وانتصب أمام الماآينة ضارباً بقبضته طاولتها :
– عليك الله يا عم عبد التواب .. دايرين حق العراوى والعواميد.. دايرين نفطر ..هى..هى.. وزمجر عبد التواب بشحنة هائلة من الغضب:
– غور ..غور .. من وشى يا ولد .. تاآل السم .. دا وقتو.. والله أنا ذاتى حق الفطور ما عندى.. –
ةجاح انفش ام ولاح ىب يا حاج لكن دا اسبوع .. يعنى.. يعنى.. –
يا ولد قلت ليك أمشى ..أمشى.. أنا دمى فاير هسى.. أمشى.. ولم يكن أمام الحائك اسحق من سبيل سوى أن ينصرف فانصرف وهو ناغم يحدث نفسه بصوت مسموع.
نظر الخاتم الى هذا المشهد وأحس بالشفقة على الرجل الذى صوبت عليه الحياة سهامها من آل جانب وانتظره حتى هدأت ثورته وتنهد مستغفراً مرات ومرات عندها نهض الخاتم قائلاً: – أها .. أظن الفطور علىّ أنا الليلة يا عبد التواب. نفسك فى سمك السبكى والا لقمة بت مكة الحارة؟
لم يجب عبد التواب بشىء لكنه اتجه مباشرة الى حيث لقمة بت مكة الحارة فتبعه الخاتم ثم جلسا على الحصير ينتظران اللقمة الساخنة. جلست (بت مكة) على مقعدها الخشبى الصغير الذى فاض على جنباته جسمها الثقيل المكتنزوهى تحرك ذلك الجسد بحرآات محسوبة وهى تغسل الصحون فى تؤدة وأناة يتصنعها الحذاق من أهل الحرف والصناعات ويعدونها من شارات العقل وآيات الخبرة والدراية فالعجلة من الشيطان وهى إلى نزق الصبية والشباب أقرب منها الى حكمة الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء. ومع ذلك آان فى (بت مكة) غنج وخفة يمقتها عبد التواب ويعدها من قبيل التصابى الذى لا يليق بإمرأة تجاوزت الخمسين بقليل . وعلى عكس عبد التواب آان الخاتم يجد متعة فى حرآاتها وطريقتها المختارة فى سرد القصص والحكايات وهى تتمايل مع الكلمات فى آل إتجاه . آانت المرأة تعرف آيف يراها الرجلان فكانت تغايظ عبد التواب بالغمز واللمز وقد ظل يومه ذاك رغم ثقل الهموم المتراآمة عليه صابراً عليها وهى تتجاهله وتوجه الخطاب للخاتم بينما تنظر الى عبد التواب بطرف خفى من عينيها الواسعتين تستكشف وقع حديثها على أعصابه المنهكة. ابتدر الحديث الخاتم آالعادة بعد أن ازدرد لقمتين من الطعام الحار:
– الويكة مالا الليلة ما زى آل يوم يا الملكة؟ – صحى والله يا حليل ويكة خالتى بت الخيمة! وآان الرجلان قد استمعا ولمرات عديدة لقصة الويكة التى ترسلها الحاجة بت الخيمة خالة بت مكة من الصعيد البعيد… ويكة برية (بروس) مبرأة من آل عيب وخالية من الأسمدة وحيل المزارعين. وآانت بت مكة تعدد رغم حديثها عن نقاء الويكة ما تصنعه بها خالتها وما تضيفه اليها من محسنات لا تبوح بتفاصيلها لأن ذلك من أسرار المهنة. وآانت بت مكة لا تجد حرجاً فى إعادة القصة ذاتها على زبون جديد حط للتو وهما لا يزالان فى الموقع يأآلان. لذلك يبدو أنهما بلغا حد الضجر من سماع ذات الحديث مرات بعد مرات. تساءل الخاتم وهو فى خشية عظيمة أن تعيد المرأة على مسامعهما ذات الاسطوانة القديمة: – ما لا ويكة بت الخيمة؟ وفجأة وآأنما وخزت المرأة الضخمة المكتنزة بمهماز , انفجرت باآية واهتز جسدها الثقيل: – تتام .. ماتت يالخاتم خالتى أم الخيمة .. ياحليلة! نهض عبد التواب مسرعاً نحو الدآان قائلاً: –
لله الحمد ! وبدا للمرأة أن عبد التواب قد حمد الله على موت خالتها فانتفضت ساخطة:
– سجمى يا ناس الراجل دا مالو؟ وتدخل الخاتم بسرعة لفض النزاع وهو موقن فى قرارة نفسه بصدق حدس المرأة بأن عبد التواب قد حمد الله على موت خاتها أم الخيمة لأن فى موت المسكينة إماتة للقصة المكررة عن ويكتها والتى وصفها عبد التواب يوماً بأنها تفور الدماغ :
– بسم الله يا الملكة الراجل حمد الله على النعمة اللى أآلها هسى.. البرآة فيكى وخالتك الله يرحما !
لم يحفل عبد التواب بشىء من ذلك بل انطلق الى دآانه آالسهم تارآاً الخاتم يتولى مهمة فك الاشتباك مع بائعة الطعام ويسدد لها قيمته. وآان السر فى انطلاقته العجلى أنه لمح من بعيد أشخاصاً دلفوا الى داخل دآانه الذى ترآه آعادته اذا ذهب لتناول إفطاره مفتوحاً. وتوجس فى نفسه خيفة متسائلاً:
ترى من يكونون؟ وما ذا يريدون؟ وأى مصيبة من المصائب التى لا يعرف من أين تأتى يحملون اليه؟ واستعرض قائمة المصائب والهموم التى ينتظر من السماء وحدها تفريجها متحسساً فى نفسه المواطن التى لم تصبها سهام الحياة السامة بعد فلم يجد موضعاً نجا من جور الزمان وقساوة الأيام لم تطاله تلك السهام سوى نعمة الحياة وحدها التى لم تزل تسرى فى عروقه وعروق وحيده عثمان وأم عثمان الحاجة سنية وهنا هاله هاجس الموت فالموت مصيبة تدخل على الناس دون استئذان فقال فى نفسه: – يا ربى فى شنو..؟ الحاجة خليتا الصباح متحسسة؟ وطرح هذا الهاجس المرعب جانباً وانصرف الى هاجس آخر أشد هولاً:
– يكون حصل للولد عثمان شىْ؟ حادث مثلاً؟ وآان عندما بلغت به الهواجس هذا الحد قد اقترب من دآانه بما يمكنه من تبين وجوه الأشخاص المنتظرين هناك وبالتالى استنتاج سبب مجيئهم فوجد بينهم الجزار حمد بمريلته الملطخة بالدماء يقف عند الماآينة فهدا روعه شيئاً ما وحمد الله فى نفسه وهنا دنا منهم الجزار حمد وشاب جاء معه وصافحاه مبتسمين:
– البشارة يا راجل البشارة… نطق بها حمد ضاحكاً مستبشراً بينما تسمر عبد التواب فى مكانه ولم يفهم شيئاً. البشارة؟ من أين تأتى البشرى وقد انقضى زمن المعجزات؟ – عثمان ولدك رسل مع أخونا عبد العزيز دا ايجار ستة شهور للبيت ومصاريف وملابس آمان. ومش آدة وبس ..لما نستلم البشارة نقول الخبر الأهم! – يا حمد يا خى ما عندنا أعصاب وصبر على المفاجاءات .. قول .. وعلى الطلاق بشارتك تصلك فى محلك! – صحى يا عبد التواب؟ أها .. بيعة الدآان دا طرشقت .. طلع وريث قاصر عمرو خمسة سنين فى مدنى والقاضى لغى البيعة.. أها تانى داير شنو أآتر من آدى؟ عند ذلك تقهقر عبد التواب الى الوراء حيث مقعده على الماآينة متنهداً مطلقاً من جوفه زفرات حارة تسللت معها همومه وأحزانه الى غير رجعة. – يا ما انت آريم يا رب.. وصاح بأعلى صوته لبائع الشاى:
– يا ولد.. يا قسم الله.. فرق الشاى على الجماعة ديل.. والجماعة الفى البرندات القدام آلهم على حسابى وبشارتك يا حمد على الطلاق الدايرو أديك ليهو.. وانطلق الشيخ الذى آان آالحطام قبل قليل فى خفة الشباب يزف البشرى للحاجة سنية.

تعليقات الفيسبوك