الإنفصال والدروس المستفادة

يبدو لى من خلال الحماسة التى أبداها مواطنو جنوب السودان لفكرة الانفصال وهم يمارسون التصويت لتقرير مصيرهم , أن الخمسة وخمسين عاما التى قضيناها فى كنف وطن واحد لم تنل من المساحة الممتدة الفاصلة بيننا وبينهم فى الشمال على صعيد المشاعر والسايكلوجيا وأن سنوات الانتقال الست التى قامت لمعالجة اختلالات التفاوت فى أنصبتنا فى السلطة والثروة أملاً فى محاصرة التنافر فى المشاعر وتعبيد الطرق للسير معاً بخطى ثابتة نحو مستقبل نصنعه معاً لم تكن كافية لمحو المرارت وتبديد الشكوك و بالتالى تعزيز الثقة اللازمة لبقائنا معاً فى بلد واحد . والعكوف على البحث فى أسباب وصولنا الى ما وصلنا اليه ضرورى من جهة العمل على تفاديه فيما يتصل بعلاقة المركز بالأطراف كى لايتكرر ما وقع فى الجنوب فى مواقع أخرى فيما تبقى من خارطة السودان. تلكم هى ما عنيناه باستخلاص الدروس والعبر. ومن صميم هذه المراجعات نقد الذات, وهى لازمة للحكام والمعارضين والنخب المثقفة جميعا فنحن جميعاً مسؤولون عن حصيلة نصف القرن الذى مضى من عمرنا الاستقلالى وعن نتائجه.
وبالنظر لما أرى من ابتهاج للانفصال لدى غالب أهل الجنوب أود أن أسجل فيما يلى بعض الملاحظات:
-لا أرى رأى من يلومون آباء الاستقلال بأنهم ارتكبوا خطيئة أو خطأ فى الانضمام الى جامعة الدول العربية وأن ذلك القرار قد أسهم فى تعاظم الاحساس لدى المجموعات التى لا تنسب نفسها للعرب والمسلمين وذلك لئن الجامعة العربية لم تكن, ولعلها لم تزل سوى منتدى سياسى مطلوب منه ضمان الحد الأدنى من التوافق العربى على المستوى السياسى على وجه العموم وتحديدا فى قضية فلسطين ولم تلعب دوراً يؤبه له فى ترسيخ الثقافة العربية الا قليلاً كما لم تلعب دوراً سالباً لتغذية شوفونية عربية منفرة تؤدى الى عزلة الآخرين ونفورهم خاصة وأن بلاد العرب جميعا تضم عرقيات لا تنتسب الى العرب فى شىء. وهناك دول عديدة اليوم فى افريقيا وآسيا تضم أقليات مسلمة تتمتع بكامل عضوية منظمة المؤتمر الاسلامى . فالانتماء الى مثل هذه المنظمات ليس عاملاً حاسماً فى تحديد الهويات. كما أن النخبة المثقفة السياسية فى السودان التى قادت الكفاح من أجل الاستقلال كانت تحمل ثقافة عربية اسلامية وأن اللغة العربية كانت بذات الانتشار الذى تتمتع به اليوم كلغة مشتركة جامعة وموحدة لكافة مكونات المجتمع السودانى. لذلك فغلبة الثقافة العربية وانتشار لسانها فى جميع أنحاء القطر بالاضافة الى أن غالبية السكان يدينون بالاسلام , جعل من الصعب البحث فى قواسم أخرى تساعد فى توصيف السودان أقوى وأفضل من تلك. فضلا عن أنه لم يكن هناك ثمة وعاء إفريقى ننضم اليه فالسودان هو أول بلد فى افريقيا جنوب الصحراء ينال استقلاله وأن منظمة الوحدة الافريقية لم تكن قد رأت النور بعد. ومع ذلك فان انضمام السودان للجامعة العربية لم يكن ادارة للظهر لإفريقيا القارة الأم بل أسهم السودانيون بقدر وافر فى دعم حركات التحرر فيها وكان السودان من بين القوى الفاعلة فى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية ستينيات القرن الماضى. ولو أن الجامعة العربية كانت فى قوة الاتحاد الأوروبى مثلاً وعاءاً ثقافياً وسياسيا واقتصاديأ حصرياً على العرب ربما صحت تلك التهمة , تهمة اغفال مكونات السودان الأخرى غير العربية والاسلامية.ونذكر هنا بأن بعض قيادات الحركة الشعبية لم تستبعد انضمام الدولة الوليدة فى الجنوب للجامعة العربية!
– إن هشاشة مفهوم الدولة القطرية العصرية أو دولة المواطنة التى يتساوى الناس فيها فى الحقوق والواجبات لا يزال هو السبب الأبرز فى عدم الاستقرار فى كآفة أرجاء العالم الثالث وليس السودان بدعاً فى ذلك وكان ولا يزال هو السبب الذى تتسلل من خلاله القوى الخارجية وفقاً لمصالحها . والاستماع لنشرة واحدة عبر وسائط الإعلام تكفى للوقوف على إجتهاد الدول الناشئة على أنقاض المستعمرات القديمة فى تأسيس دول مركبة وفشل ذلك المسعى فى اقامة الدولة متعددة الأعراق والديانات التى يتساوى الناس فيها فقط على أساس المواطنة . وهذه الحقيقة لا نسوقها بغرض تبرير القهر وحرمان الأقليات من حقوقها بل للنظر للقضية فى اطار أوسع وكعامل بين العوامل التى حدت بالبعض الى السعى المتعجل لاختزال المراحل وصولاً لتلك الغاية بحد السيف. ولا شك أن العمل على اقامة دولة المواطنة لازال ينتظرنا جميعا فالسودان بعد انفصال الجنوب سيبقى دولة مركبة متعددة الأعراق والعقائد ولوكان ذلك بحدة أقل.
– اخفاق النخب يتمثل فى عدم الاستجابة لمطلب الفدرالية لمرتين متتاليتين بعد الاستقلال مباشرة وفى أعقاب مؤتمر المائدة المستديرة عام 1966. صحيح أن الفدرالية لم تكن قد أخذت طريقها الى افريقيا وأنها كانت فى الاعتقاد صنو الانفصال إلا أن الجدية فى البحث عن حلول فى اطارها كان واجباً أخفقت تلك النخب فى الوفاء به.
– البحث عن دولة المواطنة حق مشروع ولا يزال الحق فى حرية التبشير به والنضال السلمى فى سبيل تحقيقه لازماً فى إطار ترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد. لكنى أحسب أن استقواء عدد من المثقفين الشماليين بالحركة الشعبية إبان صراعها العسكرى مع المركز, وهى حركة وريثة لحركة متمردة مدفوعة بمظالم تأريخية وباطماع خارجية تخص اقليما معينا يتميز بخصائص ثقافية محددة يناضل بالسلاح من أجل الإبقاء عليها قد أضر بالرسالة نفسها. ولا يزال عصياً علىّ فهم دعوة الدكتور جون قرنق للوحدة القائمة على حق المواطنة وسط ضجيج هادر من الانفصاليين حوله كانت تعبر دوماً عبرأهازيج جنوده (الجلالات) عن أشواق الانفصال تحت سمعه وبصره. لماذا لم يبذل الجهد فى توسيع قاعدة المؤمنين بالوحدة بين قواده حتى يعمق غراس الوحدة بينهم ؟ وفيم قتل بعض الداعين للانفصال وأبقى على من هم أعتى منهم فى الدعوة لها؟ وكيف لم نجد بين خاصته ممن يطلق عليهم (أولاد قرنق) مدافعاً جسوراً عنها؟ ولماذا انحصرت الدعوة لسودان موحد على الأسس التى أرسى دعائمها جون قرنق فى نهاية المطاف على الشماليين فى الحركة دون غيرهم تقريباً؟ بل وكيف لم يلحظ المخلصون فى دعوتهم لدولة المواطنة من الشماليين فى صفوف الحركة وكانوا قريبين منه هذا القصور؟ بل كيف لم يستفسروه عن مصالح جهات خارجية داعمة لحربه من أجل الوحدة ناصبتها أيدولجياتهم العداء لعقود من الزمن ؟ وكيف ظلت ذات الجهات داعمة لخط الانفصال؟ هل كان الرجل وحدويا بالفعل؟ وأخلص هنا الى التأكيد على حق المنادين بدولة المواطنة فى العمل السياسى لكنى أرى بما أن دولة المواطنة هى دولة الحريات وحقوق الانسان فإن الاستقواء بالحركات المسلحة التى اختارت السلاح والعنف لتحقيق هدف إقامة دولة المواطنة والمساواة لا يساعد فى تحقيق ذلك الهدف بل قد يفضى الى عكس ما يراد به . والخير للمخلصين فى هذه الدعوة أن ينضوا فى اطار تنظيم سياسى يقطع الصلة بمرحليات الماضى وأسمائه مبقياً على هدفه الأول : تحقيق دولة المواطنة. ويستلزم ذلك قبولهم بحق الآخرين من المحافظين فى الدعوة والتبشير بما يرون.
إن إدماج مكونات ما تبقى من السودان الشمالى تفرض حوارات جادة تنصت بإمعان لرؤى الأقليات والأطراف والتصدى العاجل لمعالجة ما تحس به من اختلالات. ذلك لن يتحقق ما لم تتجاوز النخب مراراتها وتتواضع على آليات وصيغ فاعلة تفضى للقبول المتبادل لمكوناتها لخلق إطار تتوثق فى كنفه الروابط وتترسخ فى بوتقته العرى تفضى بالبلاد الى مشتركات أمتن عوداً وأصلب جدارأ نجد فيها أنفسنا جميعاً.

تعليقات الفيسبوك