الإنفصال والإستحقاق الأهم!!

بالنظر لما نشاهد على الأقنية الفضائية وما نسمع ونقرأ فإن جنوب السودان قد بات على مرمى حجر من الإنفصال عن شمال السودان وإقامة دولة مستقلة هناك بل أصبح يعد الأيام والساعات المتبقية على بقائه ضمن السودان الموحد حقيقةً نصبت لها لافتة كبيرة فى ساحة من ساحات مدينة جوبا لا مجرد مجاز!. وعند ظهور هذه المقالة على صفحات الجرائد يكون قد تبقى على العادّين لما تبقى من عمر السودان الكبير خمسة أيام لا غير. ومواكب شباب غض يجوبون شوارع المدن الجنوبية الكبرى وآخرين منهم فى قاعات الكنائس يعلو وجوههم البشر عند ذكر الإنفصال والتبشير به وأن ميلاده قد أطل كما يطل الفجر الصادق, تجعلك توقن يقينا لا يطرقه الشك ولا يتطرق إليه أن الإنفصال واقع لا محالة. وأن أولئك الشباب لا يعنيهم الآن حديث الصعوبات الاقتصادية ومخاوف النزاعات القبلية المصاحبة للانفصال وهواجس التمرد التى أطلت برأسها هناك بل يعنيهم شىء واحد عقدوا العزم على تحقيقه بكل ثمن وهو الانفصال الذى يعرض فى طبق الاستقلال فيحمل مذاقات الحرية ونكهتها والانعتاق من براثن القيود والإستعباد . والمرءُ اذا بلغ هذه القناعة من أمره استرخص كل غال فى سبيلها وهانت عنده كافة الصعاب. قال مالكولم إكس مرة: اسقط من قاموس مفرداتك كلمة “حرية” ان لم تكن مستعداً لدفع ثمنها؟ سأله الصحافى الألمعى وما ثمنها ؟ أجابه ذاك الثائر بكلمة واحدة “الموت! ” ولم يطل به العيش حتى دفع ذلك الثمن. وأصدقكم القول إننى لم أكن أعلم أن شأن الانفصال كان يستبطن هذا العنفوان من المشاعر الجياشة الراغبة فيه وأن الوحدة كانت هكذا فى الجنوب بلا نصير وأن رؤية الراحل جون قرنق الوحدوية لم تلامس تراب الجنوب أبداً أو أنها كانت مجرد شعار.قلت لنفسى بادى ذى بدء : ربما كان هؤلاء ذرارى من كانوا فى معسكرات اللاجئين فى دول الجوار ولم يسبق لهم العيش فى الشمال لكنى لاحظت أنهم يتحدثون بلسان عربى مبين وتذكرت عندئذ تدنى نسبة تسجيل الجنوبيين فى الشمال للاستفتاء وهو أمر يصب أيضاً فى ترجيح كفة الانفصال.
والآسفون على تلك النتيجة – ونحن فى زمرتهم- فريقان : فريق فى مواقع الفعل تحتم عليه الظروف الدقيقة التى تمر بها البلاد تجاوز باحة الأسف سريعاً الى معترك الفعل قضاءً مبرماً واستئصالاً دقيقاً لدواع أسفنا وقلقنا على مترتبات الحدث الجلل. وفريق لا يملك سوى فك الخط مثل كاتب هذه السطور يهذى هذيان من لا يعرف كل شىء من خبايا الأمور أو من حيل السياسة وألاعيبها فلا يثنيه ذلك عن الإفصاح بمكنوناته عسى أن يجد فيها أهل الفعل ما يجد الناس فى أفواه المجانين من بعض الحكمة أحياناً.
ولكى لا نبالغ فى جلد الذات مدفوعين بغلبة الأسى والحسرات أو برزيلة الشماتة فى هذا المنعطف, علينا أن نقر أنه لم يكن من سبيل فى شأن حل مشكلة الحرب فى الجنوب ولا فى غيره سوى التفاوض والإقرار باختلالات ليست جميعها من صنعنا ثم إقرار مبدأ تقاسم السلطة والموارد لمعالجة تلك الاختلالات فى بلد لم نصنع حدوده نحن ولم نركز الثروات ومشروعات التنمية في بعض أجزائه نحن أيضاً وأننا لو تفطنا فى عقود ماضيات الى فعل ما فعلناه فى نيفاشا مطلع القرن الحالى ربما وربما فقط كنا قد حافظنا على الحدود التى ورثناها عن المستعمر. وليس من الإنصاف فى شىء أن نحمل نتيجة ما سيجرى بعد حين لنصوص اتفاقية نيفاشا التى هى فى خاتمة المطاف جهد بشرى يصيب الخطأ والصواب لعبت الأوضاع الإقليمية والدولية دورها فى حصاده الأخير كما أنها ليست مبرأة من العيوب والأخطاء لا فى نصوصها ولا فى تطبيقاتها لكنها تظل جهدا مخلصاً وأنموذجاً يحتذى فى معالجة الإختلال وإلحاق المتأخرين بالركب الوطنى. ويقينى أنها كانت قادرة على تحقيق الوحدة لو خلصت النوايا ولو ضعف أثر الأيادى الغريبة الممتدة من وراء الحدود.
إذا كان الأمر كما وصفنا وأن الأمور صائرة الى بينونة بين شطرى السودان نكرر ما قلناه سابقاً بأن الاتفاقية ستبقى الوثيقة الأهم بعد وثيقة الاستقلال إن أعقب الإنفصال سلاماً مستداماً فى البلدين يجنى ثماره المواطنون إعماراً وإستقراراً وتعليماً. نعم ان استدامة السلام هى مفتاح النجاح للبلدين لذلك يبدو لى أنه الاستحقاق الأهم الذى يبقى بعد إجراء الإستفتاء وسيكون حكم التاريخ على طرفيها مخففاً وسيؤكد أنهما إن أخفقا فى الحفاظ على الوحدة فقد نجحا فى وضع شطرى البلد على طريق سالكة للتنمية واللحاق بركب الأمم وعندئذ قد تغرى مغريات المنافع والمصالح الاقتصادية على العودة الى أحضان وطن موحد. ستخف وطأة الاتهام من القوى السياسية المتنافسة على المؤتمر الوطنى بأنه قد فرط فى وحدة البلاد إن جنى الناس ثمار السلام فى الشمال رخاء فى معاشهم واجتماعا لكلمتهم ومشاركة فاعلة منهم فى إدارة أمر البلاد. وستدرأ الحركة الشعبية عن نفسها الاتهام بأنها سارعت الى فصل الجنوب استجابة لهوى قوى خارجية إن نعم مواطنو الجنوب بمستويات من العيش تستأهل مسعى الحركة فى تحقيق الانفصال. ذلك لن يكون الا إذا تم :
-اطراح فكرة العودة السريعة للوحدة بعد الانفصال. لأن ذلك سيغرى باتخاذ الطرفين لتدابير لن تؤدى الا لحرب أشد شراسة وأكثر دماراً تترك جراحات تجعل إعادة الوحدة بين الشطرين فى بعد ما بين المشرقين. من تلك التدابير استقواء الجنوب بالحركات المسلحة وغير المسلحة وربما بخلق قلاقل فى منطقتى المشورة الشعبية لإضعاف حكومة الشمال وربما العمل على اسقاطها لتحقيق وحدة على أسس جديدة. ذلك سيغرى فى المقابل الشمال للإستقواء بالحركات المناوئة لحكومة الجنوب والسعى لإضعاف تلك الحكومة واسقاطها وإحلال معارضيها محلها لإعادة الوحدة مجدداً . بمثل هذه التدابير الخطيرة ربما يحاول كل طرف تفادى تحميل التأريخ له سبة الانفصال بالعمل على اعادة الوحدة بأى ثمن.
– والمطلوب التواثق بين الطرفين الآن بالحرص على التعاون لتحقيق السلام المستدام باتفاقات على غرار ما تم بشأن التأمين المشترك لحقول ومنشأءات البترول والنص صراحة على عدم دعم أى عمل من شأنه زعزعة استقرار شطرى القطر. ولا جدوى من مجرد تحرير المواثيق ما لم ينبن ذلك كله على قناعة راسخة بأن الدولة الجديدة الناشئة بحاجة الى ذلك السلام حتى تقوى على المشى على أقدامها كما أن الشمال بحاجة الى تضميد جراحاته فى دارفور وتحقيق السلام هناك والانصراف كلية عن مقابلة هواجس الأمن المحتملة. وبذلك وحده تستمر روح اتفاقية السلام الشامل لتحقيق أهدافها فى استدامة السلام الى ما بعد الأزمنة المحددة لسريانها. ذلكم هو الاستحقاق الأهم.
لذا يجب تكثيف التواصل فيما تبقى من وقت الانتقال حتى يوليو المقبل لمعالجة بؤر التوتر فى أبيى وغيرها حتى ينصرف الناس بعقلانية الى العمل من أجل البناء. ولا بد للشمال أن يسعى السعى الحثيث الصادق لتوسيع قاعدة الحكم وتحميل الجميع مسؤولية الحفاظ على ما تبقى من الوطن وتسريع العمل فى معالجة مشكلة دارفور والاهتمام الخاص بمنطقتى المشورة الشعبية فى جنوب كردفان والنيل الأزرق والدعوة لمؤتمر متخصص لتقويم النظام الاتحادى القائم لزيادة فاعلية الحكم فى الولايات فى تقديم الخدمات والتعبير عن خصوصياتها التى هى احدى روافد الثقافة الوطنية المشتركة وزيادة مشاركتها على النطاق المركزى الوطنى وألا تكون تجربة انفصال الجنوب ذريعة للانكفاء بل عبرة بضرورة الشفافية وبسط الرأى وزيادة المشاركة فى الشأن العام. ونتمنى على السياسيين فى الحكومة و المعارضة أن يستجيبوا لكل نداء لجمع الصف الوطنى فى هذه الظروف الاستثنائية والنأى عن كل فعل يضعف ويربك التدابير الضرورية اللازمة لتجاوز عقابيل الانفصال فى الجنوب.

تعليقات الفيسبوك