“الأحرار”, “الغابة” والحريق”!

قال ودخان كثيف يتصاعد من فيه ويخترق شاربه الكث وشعر رأسه الكثيف الأصهب الذى خالطه الشيب أن جده “خورشيد” يتحدرمن أصول كردية جاء مع “جردة” كتشنر باشا من مصر وتزوج من جدته العافية فى أم درمان وهى الأخرى دماؤها أمشاج من سودان وطليان. ثم رفع بصره إلينا فبدا وكأنه فى منتصف العقد الخامس من العمرإلا أن الإهاب المتغضن الذى يحيط بعينيه يجعلك تعيد النظر فتضع سنه فوق ذلك بكثير.كان يجلس على أرائك من الخشب من الطراز القديم المخروط كالذى كان فى بيوت الأكابر والأثرياء فكأنه قد ورثه عن أبيه أو جده لأن الحى الذى يقطنه والبيت الذى يأ ويه لا يمتان إلى الثراء والدعة بصلة بل يعد الحى من صميم الأحياء الشعبية الفقيرة. جل البيوت من الطين المدرع بالزبل ( روث البهائم) الخالص. ورائحة المكان خليط من ذلك (الزبل) وقد طليت بها حيطان الحي إستعداداً للخريف الذى حان أوانه تختلط ببخور الصندل المعالج بالعطورمن شاكلة ( ليالى باريس) و(أزهار الحب) و(بنت السودان) وضروب أخرى من البخور تصدر عن أخشاب الطلح والشاف وأخرى مصدرها شرق إفريقيا بالإضافة إلى رائحة القنب الهندى الذى يطلق عليه السودانيون اسم “البنقو”. كل ذلك الخليط يقتحم أنفك عنوة فلا تكاد حاسة شمك تميز بين مكوناته العديدة وهو أشبه ما يكون بالخليط البشرى الذى استقر فى الحى منذ آجال خلت فأصبح عسِراً التمييز بين مكوناته تماماً مثل المزيج الكيمائى الذى غيبت النار جزئياته فأصبح نسيج وحده. وفى طرف ( الصالة) سريران خشبيان يتمدد على أحدهما شيخ قد تجاوز التسعين وشيخة أصغر منه سناً بقليل. بدا الشيخ يصيح ” يا شهاب الدين أنت ما بتسمع؟ قلت ليك أنا داير لى مرة!” وإذا بالشيخة تصيح هى الأخرى: ” يا ولد أنا كمان دايرا لى مرة؟” وتتفوه بعبارات من قبيل ما لايسطر على قرطاس وتشير إشارات تعد فى أعراف الناس مما يخدش الحياء . وصاحبنا غير مكترث وعندما يتواتر الصياح يقول كالساخر:” طيب.. طيب.. كل واحد فيكم حا نجيب ليه مرة”. يلتفت لمحدثيه هازاً رأسه ” شيخوخة قاتلة !” ثم تنتاب الشيخ نوبة سعال حاد فيهب إليه شهاب الدين بحنان ملحوظ وشفقة بادية بكأس من الماء القراح يسكت بها نوبة السعال. يرفع رأسه برفق وحنان . ” يا حاج إنتا فى زول أداك سيجارة الليلة.. ما قالو ليك ما تدخن..؟” يرد الحاج بأنفاس متقطعة: ” يا ولد انت مطرطش.. أنا حمل سجاير بعد دا.. فى زول غيرك فى البيت لما يدينى سجاير ؟…”. ومرد إستفسار شهاب الدين المستنكر علمه المسبق بأن الشيخ يكذب لأن رجب جاره وصديق عمره ومستودع أسراره جميعاً, ذاك العملاق الفاحم مدخن شره لكل أنواع الدخان هو الذى يأتى ليجلس فى حراسة الشيخ والشيخة المسنين إذا غلبت شهاب الدين الشهوة والرغبة الملحة فى ممارسة الجنس فجاس خلال هذه الدور يقضى وطره كيفما اتفق وربما أصاب مع ذلك خمرة وبنقو أيضاً , وهو (أى رجب) لا يبخل على الشيخ الممد على السرير بنَفَس أو أكثر. وإذا سأله شهاب الدين عن ذلك : ” هوى.. ياسجم ما تكون أديت الحاج دا حاجة ؟” أقسم بالمعبود وأغلظ الأيمان وهو كاذب بأنه لم يفعل. ورجب مثل صاحبه شهاب أوغل التسفار فى الخمسين وهو فارع الطول يمتد فى الفضاء مثل الدخان, عظيم الخلقة قل أن تنطفئ ينابيع الرغبة والشهوات فى نفسه لذلك فهو منغمس حتى النخاع يلج دوراً عديدة فى الحى بلا إستئذان . وكان إذا طاش عقله سكرا أو خدراً بالدخان الثقيل أسر إلى شهاب الدين بان جل أطفال الحى من صلبه هو. وقد يتعارك الرجلان فينسب بعضهم شهاب الدين إلى نفسه قياساً على ألوانهم ويتندرون برجال أشقاهم الكد وهدهم المرض فى إطعام أبناء الزنا أولئك يحسبونهم من أصلابهم! وشهاب الدين هذا هو نجل الشيخ والشيخة المذكورين الوحيد وكان قد أكمل التعليم العام وأصبح مفتشاً فى قطارات السكة حديد ولما توقفت جل قطارات الركاب لم يجد الرجل عملاً يروق له , أقنع أباه بفتح متجر صغير فى ناصية البيت ففعل فكان المتجر معطاء كفل له ولأبويه عيشاً ما , أرفع قليلاً من عيش الفقراء فى الحى. وشهاب الدين خليط عجيب من الخصال فيه عاطفة حنون على أبويه ومثلها على فقراء الحى لا يرد لسائلهم طلباً أما سوى ذلك فهومنغمس لا يتوانى فى إطفاء كل شهوة تلح عليه لايعرف معروفاً ولا ينكر منكرأ.
تعيش فى الحى أصناف عجيبة من البشر جاءت من كل بقعة فى الدنيا: قتلة فروا بليل من بلدانهم وبلداتهم ونساء لم يحفظن شرف قبائلهن فررن إلى المجهول حتى إنتهى بهن المطاف إلى هذا الحي وكثرة غالبة لا يتيح الفقر المدقع لها مكاناً سوى هذا المكان فيتخالط هؤلاء وأولئك بكل أنواع الإختلاط ولذلك فهم يبتكرون منظومة قيم سلوكية فضفاضة تستوعب الظروف التى ساقتهم إلى هذا المكان ومنها الكرم الذى يطال كل مقتنى. .فالمقتنيات جميعاً مشاعة هنا فإن غلبك الجوع وأنت لا تملك ما تقيم به الأود يومك ذاك بإمكانك أن تقتحم أى البيوت تشاء لتأكل وتنال قدحاً من الشاى أو من أقداح أخر. وهذا النمط من السلوك آلية من آليات التعامل مع الفقر فى كل مكان .أما الكوابح المستمدة من التقاليد والأعرا ف السائدة فى الأحياء الأخرى فقد إنتهكت إبتداء وتركها هذا الخليط وراءه حين هجر تلك الأحياء إلى هذا الحى فغدت كالمخلوقات المنقرضة أو المخلفات الحضارية يجرى بعضها إتفاقاً على الألسن أو يتخذ ذرائع لدفع أخطاء أو خطايا ترتكب. وترسخت تقاليد هذا الحى لدى ساكنيه فرأوا فى حيهم جزيرة للحرية تحيط وتتربص بها أحياء يقطنها أناس مثلهم يفعلون مثل أفعالهم خلسة وفى الخفاء لكنهم يخادعون انفسهم وبعضهم البعض فيتدثرون بكثيف من المنظومات يسمونها قيماً بينما هم عراة منافقون جبناء لا يملكون الشجاعة للعيش أحراراً فى ضؤ الشمس لأنهم يعشقون الظلام بل وتبلغ بهم الجرأة حداً ينعتون فيه هذا الحى ب “الغابة” كأن قاطنيه ليسوا من ولد آدم . إذن هنا وهنا فقط كما يظنون , فضاءات الحرية مطلقة مشرعة ممتدة بلا سقوف وحيطان.. أبواب البيوت مفتوحة على مصاريعها ليل نهار: نساء يدخلن من هنا ورجال يخرجون من هناك و أصوات الغناء المنبعث من الأجهزة تختلط بالصياح وثغاء الأغنام ونباح الكلاب وسجالات وشجارات لفظية وأخرى بالعصى والمدى الحادة وشتائم ببذاءات تسد لها الآذان.ولهذا اختاروا لحيهم اسماً يعبر عن تلك الحال فأسموه حى “الأحرار” . وإذا جن الليل أقامت شيخة قيل إنها قدمت وهى صغيرة من جنوب أوروبا , حفلاً راقصاً للتعرى على غرار ما يجرى فى أندية الليل فى أوروبا يكون شهاب وصاحبه رجب من عمارها ثم ينفلتان تلصصاً إذا استبدت بهما شهوة الجنس جراء ما شاهداه فى الحفل من عرى, يتحاشيان وجود الزوج الحقيقى أو المفترض فى البيوت فيطفآن حرارة الشهوة الغلابة دون كبير عنا فى بيوت كثيرة فى الحي. إستبد الخوف مرة برجب وقرر ألا يختلف إلى ذاك المكان لأنه رأى أكثر من مرة سيارات الشرطة تداهم المكان فطمأنه شهاب الدين بألا يخشى شيئاً فالشرطة تأتى نهاراً فقط حتى لا ترى شيئاً ولا تجد شيئاً وبعد أن يصل خبر مجيئها الشيخة صاحبة المكان سراً حتى تأخذ حذرها قبل ساعة من (الكشة). ولم ينس الإشارة فى سعيه لإقناع صاحبه, لسيارات مظللة فارهة تغشى المكان إذا أوغل الليل السفر فى الزمن جازماً بأنها لأكابر لا تطالهم سطوة ولا يردعهم سلطان.
ومات الشيخ فى ليلة شاتية وجاء أقرباء له من حى آخر فغسلوه وواروه الثرى وظلت الشيخة على حالها تنادى على شهاب الدين بأنها بحاجة إلى إمراة وتشير وتتفوه بما ذكرنا والبيت يضيق بنساء ورجال جاءوا فى ظاهر الأمر للعزاء وفى باطنه للأكل والشراب والأنس والفرجة حيث غدت بيوت العزاء وبيوت الأعراس مضامير فى هذا الزمان وفى هذا الحى وسائر الأحياء للتسابق و المباهاة فى تقديم الأطباق الشهية من أنواع الطعام الحسن والشراب اللذيذ حيث يتجادل الناس فيها وحتى على حواف القبور حول مسلسلات البارحة فى التلفاز أو مباريات كرة القدم.
وما أن إنفض سامر العزاء حتى جاءت إمرأتان تزعمان أنهما من صلب الشيخ الذى هلك منذ حين وفى معيتهما رجل ضئيل الجسم هو زوج إحداهن. وقد ذهل شهاب الدين فالمرأتان من عشيقات صاحبه رجب وكان كما قلنا إذا استبد به السكر أو الخدر زعم أن ذريتهما من بعض مائه. واستبد الغضب بشهاب الدين فقد ظن الأمر مؤامرة من صاحبه رجب فى الإستحواذ على البيت الذى ورثه منذ حين وهاله أن تكون أختاه إن صحت نسبتهن إلى أبيه الهالك داعرات يمارسن الرزيلة مع صديق عمره هذا الجالس أمامه كأبى الهول لا يحرك ساكناً. كيف تسللت قيم الأحياء البعيدة التى يزدريها هذا الرجل وسائر سكان الحى فى نفسه فجأة لتطغى على بهيمية ظلت ديدنه ودينه منذ أن نشأ وغامت الدنيا كلها فى ناظريه ورأى فى تلك اللحظة البئيسة أنه ما من قيمة واحدة تحض على البقاء فيها بعد اليوم , كأنما استيقظ الإنسان القديم النائم فى دواخله للتو ولأول مرة منذ عاش عمره الطويل تلك الحياة المتفلتة من كل قيد و التى لا تعرف للملذات سقفاً ولا للمثل والأخلاق وجوداً. سأل صاحبه رجب مستنكراً مزمجراً ” قولك شنو ياسجم؟!” أجاب رجب وقد أصبح فؤاده خاوياً من الخوف مثل أم موسى إذ رأى فى عينى صاحبه بريقاً غريباً ما ألفه فيها مذ عرفه: “أنا ما عارف حاجة. والله…. معاكم ورق يا نسوان ؟” أجبن بنعم . زاد غيظ شهاب الدين وزادت شكوكه وقال فى نفسه لم سألهن عن الورق إن لم يكن الأمر من تدبيره فعلاً. وتطوع رجب بتثبيت التهمة على نفسه حين أضاف ” انت عارف عمايل أبوك الله يرحمو وقال لى مرة وهو مبسوط بأنو فى حاجات زى دى.يعنى..حصلت!” أى أنه مارس الجنس مع حرائر كما يفعل هو وصاحبه منذ أن قطنوا هذا الحى. لم يتمالك شهاب الدين نفسه فهوى بكفه على وجه رجب بصفعة أحدثت صوتاً كدبيب الموت فى الجسد . وتعارك الرجلان عراكاً لا يفضى مثله إلا إلى الموت.وزج الرجل الضئيل الجسم بنفسه بينهما “يا جماعة الموضوع بسيط البنات دايرات حق أبوهن فى البيت ما فى داعى للفضائح”. هنا سدد له شهاب الدين ضربة من قبضة يده أطاحت به قريباً من مرقد الشيخة أمه التى صاحت فى وجهه “داير شنو يا ود الحرام.” ولما رأت زوجته الدم يخرج من أنفه وفيه ,هوت على الشيخة بعصاة غليظة كانت تستعين بها الشيخة للوقوف “بت الحرام انتى يا مخرفة!” فسقطت العجوز على الأرض بلا حراك فالتفت إليها شهاب الدين مذعوراً و هنا اهتبل السانحة رجب فعاجله بطعنة من مدية كان يحملها سددها إلى ظهره لكن شهاب الدين استدار فى خفة فأصابت فخذه فتحامل على نفسه ليأتى بساطور من داخل الغرفة شج به راس رجب إلى نصفين وهجم على المرأتين فأجهز عليهما وهو فى هياج مسعور. ووقف الحى كله يتأمل المجزرة المروعة وقد أحاطت سيارات الشرطة والإسعاف بالمكان الذى خرجت من جوفه للتو أربع جثث ومصاب ظل ينزف حتى شارف على الهلاك . وقبل أن يفيق القوم من هول ما جرى ركض الرجل الضئيل الذى صاحب المرأة التى تسببت فى القتلة الهائلة, وهو يحمل وعاءاً صب منه وقوداً واشعل حريقاً فى المتجر الصغير والدار فتصاعد اللهب فى الحى كما لوقذفت به قاذفات لهب وتعالى الصياح وهرع كل واحد إلى داره خشية أن يبلغها الحريق إلا (جبارة) الذى لم يكن يملك داراً ولا أهلاً . ولما كان ثملاً لا يقوى على الوقوف جعل يقهقه عالياً بهستيريا بادية ويصيح : ” شيخ الماحى ود السايح قال شنو يا ناس؟ ما قال البلد دى يا حَرَق يا غَرَق!.. ودا أول الحَرَق .. يا ولد.. والغرق بجى يا ناس والله بجى…!”.

تعليقات الفيسبوك