م هي الاستثناء في الحياة.
ويستعين بأبيات بن الرومي في التشاؤم وهي وليدة أحداث من الفوضى والثورات عظام في بلاد الرافدين وصفها العقاد في ترجمة ابن الرومي بقوله :” وراجت تجارة الارتشاء من العمال (أي الولاة ) وعمال العمال حتي بلغت أقصي ما عساها أن تبلغه في أواخر أيام الدولة (أي العباسية) فقيل عن الخاقاني( لعله كان حاكما في الكوفة) فيما رواه الفخري أنه ولي في يوم واحد تسعة عشر ناظراً علي الكوفة وقبض من كل واحد منهم رشوة فإن كان قد بقي لحسن الظن من ولاة الأمر بقية فهذه السرقات والرشاوي والمصادرات والنكبات قد أتت علي هذه البقية ، فلم تدع بينهم إلا علاقات الحذر والمساومة والتربص وفساد الطوية، ولا جرم تبيض الفتنة وتفرخ في بيئة كهذه بين جند يشغبون، وعمال يدلسون وعرب يحنقون وعلويين يتحفزون ورعية تمزقها براثن الرعاة وملوك لا يأمنون علي الملك ولا علي الحياة. وقد حضر ابن الرومي في زمانه بعض هذه الفتن وسمع بما تقدمه وترك لنا في شعره في واحدة منها والتي اختلطت فيها الأسباب السياسية والدينية والاجتماعية، فقال يصف ما حل بأهل البصرة على أيدي الثائرين:
كم أغصوا من شارب بشراب كم أغصوا من طاعم بطعام كم ضنين بنفسه رام منجي فتلقوا جبينه بالحسام كم أخ قد رأي أخاه صريعا. ترب الخد بين صرعي كرام كم مفدي في أهله أسلموه حين لم يحمه هناك حام كم أب قد رأي عزيز بنيه وهو يعلي بصارم صمصام كم رضيع هناك قد فطموه بشبا السيف قبل حين الفطام كم فتاة بخاتم الله بكر فضحوها جهراً بغير اكتتام.”
وينزلق العزف الحزين إلي استباحة الأعراض فيصور ذلك ابن الرومي بالقول:
كم فتاة مصونة قد سبوها بارزاً وجهها بغير لثام صبحوهم فكابد القوم منهم طول يوم كأنه ألف عام!
يغرب في التشاؤم بهذه الصور المفزعة التي ينحدر إلي سحيق أغوارها الإنسان حتي يشابه السباع في الأدغال قسوة ووحشية وإذا عظم في نظر الإنسان داء الشر والغلبة، طرب لجرمه، هكذا فعل هولاكو وهو يفتك بالبشر في بغداد كما تفعل الوحوش بصيدها وكما فعل هتلر بملايين من الناس الأفاعيل يحسب ذلك مرتقي من مراق المجد لا يصل إليه إلا العظماء من أمثاله فميزان العظمة عنده طبول وأهازيج ولو كانت علي جماجم الأبرياء.
ومع ذلك لم تكن تهز جدي الحادثات الجسام التي تسفك فيها الدماء وتنتهك الحرمات فتلك عند جدي هي طبائع الأشياء من قديم وهو لا يجتر ما يثبت خبث الإنسان وأنانيته إلا للتذكير بها وقد يفزع للدين بأن في آخر الزمان يكثر الهرج وهو الموت. فإذا استشعر من تساؤلاتنا الشك في إنسانيته وتحجر عاطفته تجاه معاناة الضحايا من البؤساء من أبناء آدم وبناته، انتفض مغاضباً وربما بكي قائلا ما عساه أن يفعل في طبائع الأشياء. إنه يري حركة التأريخ حركة دائرية لا حركة قاصدة نحو الكمال بالتجريب وتراكم الخبرات، حركة يتداول فيها الخير والشر والجمال والقبح والكمال والنقص، تغشي الناس فيها حقب يغاث فيها الناس ويعصرون فيرتاحون لخير يعم فيها وتسامح سببه الوفرة التي يجد فيها كل فرد نصيباً منها يروض النزوع إلي الأثرة والتنافس المحموم شيئاً أو قل ينظمه ويضع له قواعد يتراضى عليها الناس، فتزهو الحياة وتزدهر حتي يظن الناس أنها ترتقي سلم الكمال الإنساني إخاء وسلاما. ثم تعقبها عجافاً يجف فيها الضرع ويحطوطب الأخضر الزاه ويصير الزرع هشيما فيستأسد اللئام على المعدمين وتنطوي أشرعة التسامح ويصبح الآخر هو العدو اللدود وهو الحقير الوضيع تعرفه بلونه الكالح ولسانه المختلف وبالقبلة التي يتجه إليها في عبادته. ألم تأتي الثورة الفرنسية قبل أكثر من مائتي عام بشعارات إنسانية براقة أثلجت صدر كل سوي من الناس: الحرية، الإخاء والمساواة؟ تأمل كيف اقتتل فريقان فيها فجراها معاً ضد الملكية المطلقة ، هما اليعاقبة والجيرونديون ؟ وكم من الأرواح أزهقوا تحت المقاصل ؟ وكم أزهقت من الأرواح البريئة منذ ذلك الزمان بسبب المذهب واللون والعقيدة المختلفة أو الطبقة الفوقية أو الأدنى.
ألم يقل قائلهم:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن تري لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر حقبة السلام الحالية التي يسميها الأمريكيون حقبة “السلام الأمريكية أوPax Americana امتدت لبضع وسبعين عاما منذ توقف الحرب العالمية الثانية، جددت الآمال في فضائل التسامح والعيش الكريم لكل البشر حتي ظن البعض أنها نهاية التأريخ وبلوغ الفردوس الأرضي. ولكن سرعان ما انبعث القديم اللئيم: شعبوية في العالم الأول الذي كان يقود خطي البشرية إلي عوالم إنسانية فسيحة لا يتمايز فيها الناس إلا بالجهد المبذول لصالح الإنسان؟ وكراهية بغيضة يتمايز فيها الناس بالألوان والأديان والأمكنة كما كانوا على الدوام يفعلون في أزمنة مضت بسببها نشبت الحروب وأزهقت الأرواح! وانبعثت الشعوبية والمذهبية في العوالم الأخرى الأكثر تخلفاً حتى غدا العالم على شفا حرب جديدة مدمرة قد لا تبقي ولا تذر. ألم تتراجع مساحات التسامح وقبول الآخر في كل بقعة من بقاع العالم؟ أليس ذلك بسبب اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟ ألم أقل لكم إن السلم المؤقت لم يتأسس على قناعات بل على وفرة عارضة بدا شبح زوالها يزيل كل ذلك الوهم الرغائبي؟ لم نحر جوابا على تساؤلات الشيخ الفاني ولم تسعفنا مكنونات التفاؤل عندنا من البوح بكلمة واحدة. هممت بالقول ألا تقع على عواتقنا مسؤولية إطالة سوانح الخير القليلة التي ذكرت؟ أليس من العجز أت يخضع الإنسان ويستسلم لهذه الحتميات فلا يقاوم ولا يفعل شيئاً؟ صحيح أن الثورات العظيمة في التأريخ لا تحقق كل غاياتها لكنها تضيف ربما إضافة واحدة لا تتحقق في أوانها لكنها تظل منارة علي الربوة العالية تلهث خلفها ربما أجيال حتي تبلغ ذراها. لقد أبطلت الثورة المجيدة في بريطانيا حق الملوك الإلهي وأكدت حق الشعب في الحكم عبر ممثليه في البرلمان وجاءت الثورة الفرنسية بالحكم الجمهوري كما عززت الثورة الأمريكية الحقوق الأساسية عبر سيادة الدستور علي نظام الحكم وفصل السلطات أما ثورات العالم الفقير فقد حققت الاستقلال وطردت الغزاة الأجانب وتصادف بين الفينة والأخرى نصيباً من النجاح في هدم الطغيان لكنها تظل تتكلس في عصر البطولات ذاك ، تستهويها أهازيجه وطبوله وتنفق مكوناتها الأعوام ذوات العدد تتشاكس وتتعارك بلا انقطاع في نسبة ما تحقق من الانتصار الذي كان لمن من الناس والفصائل. ويظل الحال البئيس قائماً فيها شاخصاً كرواسي الجبال لا يتغير. تشاؤمك يصدق هنا أيها الشيخ الجليل في بعض أجزائه ولا يؤخذ به علي الإجمال ضربة لازب. لكن أوان صمت الشيخ الصوفي جدي، كان قد أزف فأخذ عصاه ومسبحته الألفية وقال عبارة أثيرة عنده كان دوما ينهي بها الأحاديث،” أصلح الله الحال!” تفوه بها وانصرف!