أسمار(4)

ولا نبرح محطة مدينة هيوستن فى ولاية تكساس حتى نشير إلى بعض حظوظنا فى العيش فيها لبعض الوقت. وصلتها طراً من مطار شيبول فى أمستردام على متن الخطوط الملكية الهولندية (كي. ال. ام) دون المرور بالمدن الأشهر واشنطن ونيويورك، شيكاقو ودالاس وصيف عام 1981يحتضر. ولما كانت وجهتي هي تكساس جال بالخاطر مجال الَنَفَس شيء من الخوف والرهبة وفى الذاكرة الرئيس الشاب الذي قتل فى شوارع دالاس فى وضح النهار من عمارة تعود للسيد (ديلي). وقد جمعتنا صداقة بابن ابن أخيه (سام ديلي) وهو صحافي شاب نابه عمل في مجلة (تايم) التي توقفت عن الصدور الورقي إذعاناً لضرورات الزمن الإلكتروني. ثم عمل رئيساً لتحرير (واشنطن تايمز) اليمينية التي كانت ملكاً للقس الكوري الأصل (الأب مون) صاحب الزيجات الجماعية. وكانت تقريباً لسان حال المحافظين الجمهوريين ومطيتهم لمواجهة الإعلام الليبرالي وللتصدي تحديداً ليومية (واشنطن بوست) واسعة الانتشار.

كتب إلىّ إلكترونياً في آخر زيارة قصيرة له للخرطوم في يونيو 2014 قال فيها إنه افتقد الرفاه الذي وجده أعوام 2007 و2008 قلت له شرح ذلك يطول. واشهد أنه كان موضوعياً أغلب الوقت عندما يكتب في شأن السودان الذي زاره مراراً وأعجب به وبطيبة أهله. قال إن الرئيس كنيدي استشار عمه أوعم ابيه صاحب العمارة التي أطلق منها (أوزولد) رصاصاته التي اصابت رأس الرئيس في مقتل فى المجيء إلى دالاس كونه من وجهاء الحزب الديمقراطي فى تكساس. فنصحه الرجل بجلافة تشبه جلافة رعاة البقر بأن لا يفعل كون المدينة (لم تتهيأ بعد لاستقبال رئيس “يانكى” من نيو إنقلندا!) نعم هكذا (يانكى) وهى كلمة يطلقها أهل الجنوب على من جاء من نيويورك أومن إنقلترا الجديدة عموماً أو قل من الساحل الشمالى حيث ان نيويورك تحرياً , للدقة ليست جزءاً من نيوإنقلندا أو (إنقلترا الجديدة). وأهل الشمال الأمريكي يطلقون بدورهم علي أهل الجنوب نعوتا سالبة تعني التخلف الحضاري والبداوة في جهوية لا تكاد تخلو منها أمة من الأمم. وفي شمال السودان تطلق جهة علي أخري في ذات المنطقة بأنهم أقل تحضراً بكلمة لم أجد لها بعد أصلا: ” ناسن أشو!”

تلك الهواجس وجدوى الانتقال من الخليج الذي كنت أتقاضى فيه راتباً محترماً قياساً إلي سني وقتذاك، اشتريت من ريع عملى فيه البيت الوحيد الذى لا أزال أملكه فى الخرطوم. وفى أمستردام زاد ترددي بين أن أيمم شرقاً إلى الخليج عائداً أدراجي حيث أعمل أم أغرب إلى بلاد العم سام تغريبة كتغريبة بنى هلال لا عودة بعدها. وظننت لبعض الوقت أن أمريكا لم تكن اصلاً في البال والحسبان وأنها من أقدار الله التي تأتى دون تدبيرمن الفاعل فذكرني صديق قديم قبل سنوات قليلة بأن ذلك ليس صحيحاً فقد سمعني في يوم (كتاحة) ونحن تلاميذ فى ثانوية مدنى أقول : متى نرحل من هذا البلد ونترك وراءنا هذا الغبار العالق إلى أمريكا ؟ قال لى ذلك الصديق ” صادف ضجركم ذاك من الكتاحة والغبار وشوقكم لبلاد العم سام ملكاً من الملائكة فقال آمين!”

وكان ناظرنا الجليل الأمين محمد أحمد كعورة قد حاضرنا مرة عنها حتى سُر استاذنا عبد الرحيم رئيس شعبة التربية الإسلامية غاية السرور للعرض الشائق فقال: “والله لا أدرى هل نقلنا الناظر إلى أمريكا أم نقل أمريكا إلينا!” ربما بفعل ذلك إنقدح شوق حالم انطمر في اللاشعور إلى الذهاب إليها حيث لم تكن أمريكا مقصد هجرة فى تلك الأيام وما كان الناس يهاجرون أصلاً ولكن يتباهى الخِفاف فى مجالس العزاء والفرح معاً برؤية لندن وباريس وبيروت وكانت أمريكا بعيدة حتى عن الخيال من أن تزار. ربما كان لأخبار العنف والتفرقة العنصرية فى ذلك الوقت دوراً فى ذلك وكان الإعلامى اللامع حسن عبد الوهاب شفاه الله وعافاه، قد قص علينا فى محاضرة فى ثانوية ودمدنى أشرت إليها بشئ من التفصيل فى كتابنا ” رسائل فى الذكرى والحنين”, طرفاً مما تعرض له هناك. حكى أنه عاد متعباً من المحاضرات فوجد غرفته قد احتلها عدد من شباب وشابات الرفض (الهيبز) فذهب إلى مركز الشرطة طلباً للمساعدة. قال وما أن شاهده (الشرِف) حتى وضع كلتي قدميه على الطاولة التي أمامه ثم(شنق) برنيطته. ولما حكى له المشكلة طرده قائلاً ( ما ذا يعنى أن تجد ثلاثة أو أربعة فى غرفتك… أنتم فى إفريقيا تعيشون بواقع عشرين شخصاً فى كوخ صغير! .. أخرج من هنا !) ذلك كله فاقم توجسي لكن الرغبة العارمة فى طلب العلم كانت هى الأقوى. كان الصديق الوفي أزهري عيسى مختار عندما يداعب جفوننا الكرى ليلاً ونحن نستذكر الدروس ينهض ليكتب على السبورة يحثنا على مواصلة الاستذكار ” عند الصباح يحمد القوم السُرى.” ولا ينس الإعتذار عن خطه مجهلاً فى ذات الوقت أصحاب الخط الجميل فيردد قولاً نسب للأستاذ عباس محمود العقاد “كل خطاط جهول”. يجاوز المعقول من الاعتذار عن رداءة خطه بالنيل ممن مَن الله عليهم بجماله واتقانه!

أقول إن مقتل كنيدى فى تكساس وصور عنف الشرطة فى التصدى لإحتجاجات السود السلمية الرافضة أصلاً للعنف والتى علق عليها الرئيس كنيدى ناعياً على أعضاء الكونقرس المحافظين التلكؤ فى تمرير قانون الحقوق المدنية : ” ألا ترون فى الصور الحية التى ينقلها التفزيون عبر العالم عن العنف المفرط الذى تمارسه الشرطة على إحتجاجات الزنوج المشروعة تشويهاً لصورة أمريكا ومكانتها فى العالم؟”, كل ذلك زاد هواجسى فى التوجه إلى هناك.وماذا يجدى التوجس وأنا على متن الطائرة إلى هناك. وكان جارى فى الطائرة من مواطنى جزر الكاريبى و سيواصل رحلته إلى هناك على متن طائرة أخرى من مطار هيوستن الدولى. قلت له أبحث عن طمأنينة ” بم توصى القادم مثلى إلى هيوستن؟ ” رد على الفور مبتسماً ” احذر نساءها!” حمدت الله فى نفسى إذ لم يأتى على ذكرالجريمة والعنف. أما النساء فما كن ضمن مخاوفى فرغم أنى كنت فى ريعان الشباب إلا أنى كنت محصناً وأباً لطفل فى الثانية من العمر وكنا ننتظر شقيقه الذى جاء إلى الدنيا بعد شهرين من ذلك الوقت.

هبطت بنا الطائرة فى مطار هيوستن الدولى الذي أصبح اسمه فيما بعد “مطار جورج بوش الدولى ” وراء الرئيس جورج دبليو هيربرت بوش، أى بوش الأب الذى خلف رونالد ريقان .وللتسمية قصة فقد اقترح البعض تسمية المطار على عضو مجلس النواب القومى مايكل ليلاند وهومن الأفارقة الأمريكيين ومن ولاية تكساس تخرج فى جامعة جنوب تكساس فى هيوستن وتخرجت فيها النائبة أيضاً شيلا جاكسون وهى إحدى جامعات السود المرموقة وقد أصبحت مفتوحة لكل الأعراق بعد إنتهاء حقبة التمييز العنصرى. ومايكل ليلاند كان عضواً نشطاً فى الكونقرس وله إسهامات فى برامج إعانة الفقراء والضعفاء وقد بذل جهوداً مقدرة أيام المجاعة التى ضربت شرق إفريقيا ثمانينيات القرن الفارط وقد إنتهت حياته القصيرة فى تحطم طائرته فى الهضبة الأثيوبية ذات يوم عاصف انعدمت فيه الرؤية وكان للرجل إهتمامات أيضاً فيما اتصل بحرب الجنوب فى السودان وقد ذكر لى من تحدث معه أن الرجل كان يعتقد أنه من سلالة حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه مع أنه لم يكن مسلماً. وتقديرا لذلك السجل من الإحتفاء ببسطاء الناس اقترح بعضهم أن يطلق اسمه على ذلك المطار الضخم تخليداً لذكراه. لكن قامت قائمة بعض العنصريين حتى قال أحدهم نعم أطلقوا على المطار اسم “مطار الزنجى!”. وأخيراً أطلق اسمه على الصالة الدولية بالمطار.

بدأت أولى دروس الحياة فى أمريكا فى ذلك المطار، فبعد وصولي بنحو نصف ساعة صاح الميكرفون الداخلي فى المطار باسمي يخبرني أن الأستاذ الحاج بابا مستقبلي ومضيفي قد ترك لى رسالة يخبرني بأنه يأسف لعدم تمكنه من استقبالي لطارئ وقع له وأنه يتعين علىّ الصعود إلى البص وذلك يتطلب شراء تذكرة إلى محطة “بوست أووك” داخل المدينة. ولك أن تتصور الإرباك الذي يحدث لقادم جديد على بلد هي أم الدنيا تُخاطب فيها بنسخة مختلفة من الإنقليزية الأمريكية هدى لكنة تكساس التي أفضنا في الحديث عنها في الحلقات الماضية. والإنقليزية الأمريكية سريعة الطلقات إن شئت المجاز مقارنة بإنقليزية البريطانيين وتبدو تلك السرعة مضاعفة لمن جاء من عالمنا يحمل لكنة ثقيلة فى نطقها وكنت قد علقت على مقالة لطيفة لأستاذة لغة أمريكية تحدثت عن سرعة زائدة اصطنعها الإعلام المرئى فى أمريكا أضاعت المعانى. ذكرت تلك السيدة فيما ذكرت أن النيويوركيين يحسبون أن قلة السرعة فى النطق تقع فى أبواب الغباء. كان تعليقى على ذلك فى مقالة عنوانها بلكنة الشايقية : ” العجلة فى شنو؟!” تجدونها على صفحتنا الإلكترونية “مقامات”.

ذهبت إلى شباك التذاكر لشراء التذكرة إلى “بوست أووك” تلك بلكنة أجنبية بالطبع فى نطق الإنقليزية فوجدت شابة سوداء ناحلة ضجرة، ولعل “بوست أووك” خرجت من بين ثناياى مثخنة الجراح فنظرت إلىّ بنظرة قاسية لا تخلو من استعلاء تطلب منى إعادة نطق الكلمة بعبارة ظاهرها اللطف وباطنها يستبطن السخط، “آى بيق يور باردون!I beg your pardon ولم يعجبني صنيعها فرددت العبارة بصوت مرتفع مشحون بالامتعاض ففهمت مكنونات صدري من صلفها فناولتني التذكرة كالمعتذرة مشيرة إلى حيث ياتى البص فهو دائب الحركة . وفى السود فى أمريكا ويسميهم الأستاذ سيد الخطيب (سودان أمريكا) دفء عواطف دفاقة فهم يبادلونك التحية في مرورك العابر وإن كنت من غير البيضان خاطبوك ب “أخى” أو أختى” إن كان المخاطب امرأة وفى أغانيهم وأهازيجهم حرارة وصدق يختزل معاناتهم الطويلة وكذلك فى آدابهم تحدثك عن ذلك روايات عظيمة مثل روايات جيمس بلدوين ورواية ” درس قبل الممات ” تلك رواية تدمى القلب وتنفطر لها الأكباد. وقيمة كل الغناء أنه مستودع الآهات والعبرات وكل الآلام. ويقتضي الإنصاف أن نقول إن فيهم قلة تجعل مخرجات تلك الآلام القديمة المتجددة نقمة على الأجانب تعبر عن نفسها بقدر من جلافة وصلف أحياناً كشأن كل الأجناس. ولعل تلك الحسناء من أولئك.

دهشت عند صعودي الحافلة الضخمة التي ذكرتني ببص الخواجة الذي كان الأول بين البصات التى تعمل بين مدني والخرطوم ويسمى ” البص السريع “وقد تبعه “الصاروخ” لطه حسن إبراهيم أو هكذا ظننا وقتها ثم “بساط الريح” ف “الركبي ” و”عزوز”، هو أن تلك الحافلة السفرية الضخمة تقودها حسناء بيضاء مثل الرئم في نحو الثلاثين يزينها عقد! ذلك ليس لأن النساء في السودان لا يقدن السيارات بل كن يفعلن وهناك أغنية “يا ست العربية” بل قيل إن ثالث من اقتني سيارة في السودان وفي عشرينيات القرن العشرين أي قبل قرابة قرن من الزمان، كانت سيدة سودانية لحما ودماً! فمثار الدهشة عندي أن تقود امرأة حافلة كبيرة أي أنها تعمل “سائقة”. واستضافتني وزوجتي الناشطة ديبورا فايكس رئيسة قسم العلاقات الخارجية في مجلس كهان مدينة (ميدلاند) مدينة لورا بوش، زوجة الرئيس ، وقد كان ذلك المجلس وتلك السيدة عوناً في تهيئة الأجواء وإزالة العقبات عن طريق السلام كما استضافت جنرال سيمبويا والدكتور جون قرنق رالسيدة روبيكا بعد التوقيع علي إتفاق السلام الشامل .ومن باب حسن الظن حشرتني بين ذينك الرجلين مساهماً في الوصول إلي السلام. رأت الدهشة تغمر عيوننا ونري كريمتها التي كانت في نحو السابعة عشر تقود عربة نصف نقل (بوكسي) ضخم من طراز جي ام سي فتبسمت قائلة تشير لابنتها “إنها تكساسية حقيقية!”

وانطلقت بنا الحافلة صوب المدينة التي كانت الرابعة على إمتداد التراب الأمريكى من حيث السكان وكانت تتمرغ فى النعماء بريع الزيت الذى انطلقت أسعاره كأنما ركبت رأس صاروخ. توقفت بعد ساعة فى وسط المدينة التجاري (داون تاون) ثم انطلقت بنا إلى محطتها الأخيرة “بوست أووك” على شارع يسمى ” رتشموند “وهو اسم عاصمة ولاية فرجينيا، علمنا بعد ذلك أنه شارع المراقص والأندية الليلية. نسيت أن أقول إن حقيبة ملابسي لم تصل معي واحتالت الخطوط علىّ بعد أسبوع بأن حقيبة بأوصافها قد وصلت وأنهم ينصحونني بالتوجه إلى ذلك المطار البعيد للتأكد من أنها هي فتكبدت مشاق السفر على ذات الحافلة للمجيء بها. كان يكفي للتأكد منها أخذ رقم القطعة ومطابقته لما ألصق عليها لكنهم شاءوا أن يوفروا على أنفسهم كلفة وعناء حملها إلى حيث ما كنت كما قضت ممارسة خطوط الطيران المرموقة.

كان الوقت صباحاً عندما بلغنا ذلك المكان والطقس يستعد لاستقبال فصل الشتاء والمكان دائب الحركة لكنى رغم ذلك كنت متوجساً وأنا أنتظر على أرائك المحطة الوثيرة قدوم الأخ الأستاذ الحاج بابا، أحكم قبضتي على حقيبتي الصغيرة ( بريف كيس)أجول ببصرى فى أنحاء المكان أتشكك فى كل من يمعن النظر إلىّ وإلى الحقيبة التى كانت بالفعل تحمل بضع آلاف من الدولارات والشهادات وبعض الأغراض الضرورية الشخصية! كنت أنتظر الحاج بابا ليأخذنى من هناك ولعلى استخدمت الهاتف الذى يعمل بالدنانير المعدنية لأبلغه بوصولى. وهذه سانحة لأوفى الرجل حقه من الثناء الحسن فقد يسر لى القدوم إلى هناك والحصول على وظيفة فى الملحقية التعليمية للمملكة العربية السعودية بما مكننى من الدراسة والحصول على شهادة الماجستير من جامعة هيوسن. والحق أنه يسر أمور كثيرين من السودانيين بالإلتحاق بتلك المؤسسة وتفرض علينا قيم الوفاء بذل الشكروالعرفان للإخوة السعوديين الذين عملنا معهم فى تلك المؤسسة نذكر منهم بلسان العرفان الدكتور صبحى الحارثي الملحق التعليمي فى هيوستن والمرحوم الدكتور حمد السلوم الملحق الثقافي فى واشنطن والأستاذ الأديب عبد الله الناصر , الملحق الثقافي لاحقاً فى لندن والأستاذ الفاضل عبد الرحمن الدايل ومطر البقمى وعبد الله البقمى وعبد العزيز الشعيبى ومحمد الربيعان وعبدالمحسن الرميح وعبد العزيز السلامة. والشهادة لله فقد عاملونا معاملة الزملاء والإخوة لا معاملة الرؤساء والمرؤوسين وأحسنوا وداعنا يوم أن تركنا الخدمة عنهم بل ومنحونا دروعاً تنوه بفترة خدمتنا لديهم. نترحم على من فارق الفانية منهم وندعو بدوام الصحة والهناء لمن ينتظرمنهم.

ولابد من الإقرار بأن تلك المدينة رغم الصورة النمطية لتكساس قد حنت علينا حنو المرضعات علي الفطيم وكانت مدرسة عظيمة من مدارس الحياة جمعتنا فيها صداقات وعلاقات مع أناس من شتي بقاع المعمورة في اطار الإخاء الإنساني. “ناسن بل السكر!”

ونواصل بحول الله

تعليقات الفيسبوك