أسمار(3)

قلنا في الحلقة الثانية من هذه السلسلة (أسمار) إن لله في علاقات الناس بربهم شؤون. انظر إلي شاعر الشايقية وقد حبسه المفتش الإنقليزي جاكسون باشا في زجاجة عرق (عرقي):
يا الوراريق أهل القبب
ويا رجال الله تقولوا كب
تقلعوا الميجر من صنب
أصلو أحمانى الخمرة تب
!! لأنو ن…. وابن كلب

فالرجل يريد من أولئك الصالحين أن ينصروه هو المسلم المحرم عليه معاقرة الخمر على المفتش الإنقليزى غير المسلم الذى تبيح عقيدته الشراب, بنقل المفتش من مروى(صنب أى صنم حيث كان يقف شامخاً تمثال ترهاقا قبل نقله إلى المتحف القومى) أو يقتلعه حتى بالموت حتى يستمتع صاحبنا بشرب العرق!
ومثله الذي استنصر بصالحين أخر لينقذوه من ضرب العكاكيز عندما يتسور مغامراً بيت الحسناء ليمتع ناظريه بالنظر إليها:
يابا شيخ زمراوى الولى …. الله هوى
شيخ منور ولدك على….. الله هوى
إلى أن يقول:
داير أنط الحوش دردرب … الله هوى
داير أشوف من عكشن دهب (أقراط كبيرة من الذهب الخالص كانت تعلق فى الأذنين).
العكاكيز فوقى رب.. رب.. عِلى سيفكن يرفعن كب!
فتأمل كيف ينتظر هذا المتسور على بيوت الناس ليستمتع بالنظر إلى أعراضهم الحرام، دعوات أهل الدين حتى يوفق في مسعاه وينال مراده!
هؤلاء أهل فنون وفى الفنون بعض جنون وتمرد ومفارقة لبعض ما ألف الناس ويعذرهم عند الناس هذا الهذيان الذي يسببه العشق فنسميه آهات العاشقين!
كان ذلك شأن أبي نواس ثم تاب الرجل وأدار ظهره لدنيا المجون والخمر. تأمل كيف يستعطف رب العباد بالأبيات التالية التي تحس فيها الصدق:
يا ربي إن عظمت ذنوبي كثرة فقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك ربي كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم!
نعود لنستأنف أحاديث الأسمار من حيث انتهينا عند سدرة منتهى اللكنات (وهي جمع لُكنة وهي من فصيح اللغة) وكنا قد أشرنا إلى لُكنة الجنوب المميزة فى الولايات المتحدة وأشرنا إلى أنها ميزت عدداً من المشاهير فى كافة دروب الحياة. قلنا إنها ميزت نطق الرئيس ليندون جونسون والذى خلف جون كنيدى على سدة الرئاسة وهو جنوبي من ولاية تكساس جاءته الرئاسة تجرجر أذيالها بعد اغتيال الرئيس الشاب فى إحدى شوارع مدينة دالاس فى تكساس حيث كان نائباً له وهو الرئيس الوحيد الذى أدى القسم فى الطائرة التى أقلته إلى البيت ألأبيض حاملة جثمان سلفه. وكان جونسون قد سعى للرئاسة بظلف وناب فلم ينلها إلا بنهاية كنيدي المأسوية علي يد أوزولد، التى أحزنت كل العالم. حتى نحن وقد كنا صبية فى المرحلة المتوسطة من التعليم فى نظامه القديم. ومما حفظه التأريخ المتلفز حديثه بعد أن أجاز الكونقرس قانون الحقوق المدنية ووقع هو عليه عام ١٩٦٥ الذى أنهى التفرقة العنصرية فى جنوب الولايات المتحدة عندما ردد من تحت قبة الكونقرس تعويذة زعيم حركة الحقوق المدنية الدكتور مارتن لوثر كينق : لسوف نتغلب على الصعاب أو قل “ننتصر”! (وى شال اوفركم! “). فكان ترديد الرئيس لذلك حدثاً موحياً سود العديد من الصحائف وطرظ الكثير من الأحاديث والأسمار ذلك لأن الرئيس جونسون كان من معارضي ذلك القانون عندما كان عضواً بارزاً فى مجلس الشيوخ، عبر ما يعرف بالمماطلة بإطالة الحديث منعا أو تعطيلا لقرار لا يراد له الصدور (فيلوباستر). لكنه عندما أصبح رئيساً ابدى حماسة شديدة لإجازة القانون وكان يعلم عواقبه التى منها أن فقد حزبه الديمقراطى السيطرة فى كامل ولايات الجنوب التي كانت عرينه ومصدر قوته منذ الحرب الأهلية فقد أصبحت الآن مصداقاً لتوقعاته، ولايات جمهورية محافظة. ونذكر هنا أن الرئيس الذي أنهى الرق (ابراهام لنكلون) وخاض في سبيل إلغاء تلك السبة، حربا أهلية ضد الجنوب حصدت مئات الألوف من أرواح الأمريكيين، كان جمهورياً. وبسبب ذلك إنحازت الأغلبية الساحقة من السود واليهود والأقليات الأخرى، ضحايا الاضطهاد والكراهية العنصرية، إلي الحزب الجمهوري الذي تركز تأييده في الشمال في ذلك الوقت، بينما كان الجنوب المعارض لإنهاء الرق معقلاً للحزب الديمقراطي بالجملة. لم يشفع ذلك كله لجونسون لدى الخطيب المفوه مالكولم اكس الذى عاب على السود تأييدهم له ووصفهم بالغباء السياسي والغفلة قائلاً إن جونسون عنصرى شأنه فى ذلك شأن غالب البيض فى تكساس وأن السود يتعرضون للشنق على فروع الأشجار فى تكساس (لنشنق) مثلما ما هو الحال فى سائر ولايات الجنوب فقط بلكنة تكساسية (موغلة فى البداوة).وأضاف فى تقريع قاتل لما يراه من هوان السود على أنفسهم قائلاً إن شانقيهم من البيض ، جماعات الكوكلاس كلان، يسمحون لهم بأداء الصلاة قبل شنقهم فيقول الصاعد إلى المشنقة بعد حين مخاطبا الرب : اللهم أغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون! يقول مالكولم: بل إنهم يعلمون ما يفعلون ! وأكثر من ذلك إنهم فى الحقيقة خبراء فيما يفعلون! أى فى قتلكم فكيف لا يعلمون؟!
وينصف كثير من المؤرخين الرئيس جونسون ويعتبرونه فعل أكثر فى شأن الحقوق المدنية من سلفه الشاب كما أنه ابتدر برنامجاً لمحاربة الفقر فيما أسماه برنامج “المجتمع الكبير”. وللإنصاف فإنه خليق بالاحترام لنبل ما فعل.
وممن كانت لكنتهم التكساسية شديدة الوقع :(جيم رايت) زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس النواب أواخر ثمانينيات القرن الفارط , سمعته مرة غاضباً يصيح بتلك اللكنة الثقيلة المميزة مخاطباً نظراءه من الجمهوريين فى المجلس: أوقفوا أكل لحوم البشر هذا الذى تمارسونه! ( استوب ذث كانيبلزم!). ومن الفنانيين تجدها فى غناء ملك الروك الذى ملأ الدنيا وشغل الناس لبعض الوقت (الفيس لى برسلى) وعند فرقة شعبية كانت ذائعة الصيت تسمى نفسها (ألاباما). تذكروا عندنا فرقة (أولاد الدبيبة)! والفنان الشعبى الشهير والتكساسى (ويللى نيلسون). قال لى أحد الأصدقاء مداعباً إنها – لكنة الجنوب الأمريكى- مثل لكنة الشايقية عصية على الإخفاء! وقد غدا معلوماً لدى علماء الألسن أن لغة الأم التى ينطق بها الصغير متعلماً الكلام تفرض نفسها ساعات الإنفعال فرحاً أو فرقاً وتغيب اللغات واللهجات المكتسبة بعدها. وعندما لعلع الرصاص فى أعقاب إحدى المواجهات التي تلت انقلاب يوليو ١٩٧١ فى الخرطوم. قالوا اختلطت الرطانات واللهجات بفعل الخوف. وأغلب الظن أن الدهشة قد عقدت ألسنة العصاميين!
وقد قدمت محاضرة بعنوان” نظرات في الفكر المعاصر” فى ثانوية مدنى بحماسة بادية نحو عام ١٩٦٨ فسألني أستاذنا الجليل البشير محمد على البشير صبيحة اليوم التالى “يا خضر انت شايقى!؟” وكان الظن بى أننى من حى السجانة فى الخرطوم الذى قدمت منه أو من أصلاء المدينة العريقة ود مدني، حيا مروجها البهية الحيا! فقد أضاعت البندرة لسان الأم لكن بقايا من لكنة الشمال أبت إلى أن تخرج من قمائمها في تلك الليلة فقد كنا نطير شعاعاً من الحماسة والثقة بالنفس. والبشير محمد على البشير رحمه الله رحمة واسعة من (ود راوة) في شرق النيل بولاية الجزيرة . وهو نجل العالم الجليل البشير محمد على وشقيق الدكتور الطاهر محمد على وابن عم أستاذ الجغرافيا المتمكن ، أستاذنا ،عباس موسى .رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة وأنزل عليهم شآبيب الرحمة فقد أحسنوا تعليمنا. يقول علماء الألسن إنه بوسع الصغير قبل الثانية عشر أن يتعلم أربع لغات بذات المستوى وبلكنة ناطقيها الأصلية. أما بعد الثانية عشر فيتعلم لغات أخرى بإتقان لكن بلكنة لغته الأصلية، لغة الأم. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. هنرى كسينجر وزير الخارجية المعروف وأستاذ العلاقات الدولية وكذلك إزبغنيو برزنسكى مستشار الأمن القومي لجيمي كارتر لا يزالان يتكلمان الإنقليزية بلكنتيهما الألمانية والبولندية على التوالى. وكانا موضع تندر ومحاكاة الكوميديا من لدن برامج جوني كارسون ولينو!
وهناك فرق بيّن بين لكنة السود والبيض في الولايات المتحدة. فعقود الفصل العنصري التام الطويلة قد جعلت السود يعيشون في الاقطاعيات الزراعية في الجنوب في مساكن بائسة فيها مدارسهم وكنائسهم وأسواقهم والذين هاجروا منهم للشمال هاربين وأقاموا فيه، عاشوا أيضاً في أحياء فقيرة تخصهم معزولة عن أحياء البيض، فجاءت لغتهم وأهازيجهم وموسيقاهم تحمل طابعاً خاصاً بهم تجد فيها حرارة وصدق عاطفة كأنما أذيبت فيها معاناة القرون ولا تروقني عبارة أن أعذب الشعر أكذبه. ويعيب السود في أمريكا علي مواطنهم الأسود أن يتحدث بلكنة البيض ويقال إن الرئيس السابق براك أوباما قد أجهد نفسه في إتقان لكنة قومه السود قبل أن يلج غمار السياسة فهو قد تربي في بيئة بيضاء خالصة في كنف جدته البيضاء وجده. وكان أهلنا في الشمال يعيبون علي من بدل لهجة الشايقية بلهجة البنادر خاصة إن لم يطل مكثه بها! يقولون (قالب حسو)!
بلاد الريد والمحنة والمحنة بيوت الطين القديمي سلام ليكي يعم يطوفك يحلق في سماكي ديمي!
رحم الله الرائع عيسى بروي.
وما لنا نذهب بعيداً فأبناء المهاجرين من غرب إفريقيا الذين ولدوا وترعرعوا في السودان يحتفظون بلكنات ذويهم عند التحدث بالعربية وتغلب عليهم بقدر درجات احتكاكهم بمواطنيهم المتحدثين بالعربية وحدها وتجد مثل ذلك لدي المهاجرين من قبائل شمال كردفان العربية إلى أرض النيل فى الشمال لا يزال الجيل الرابع منهم في بعض المناطق يتحدث العربية بطريقة مختلفة عن طريقة عرب النيل وتقل الفوارق وتختفي بقدر درجات الاختلاط والتزاوج والانصهار وذلك قدر الأشياء في نهاية المطاف.
ونواصل إن شاء الله

تعليقات الفيسبوك