أسمار(2)

قلنا في الحلقة الأولي من هذه السلسلة إن ثورة الشباب في ستينيات القرن العشرين والتي حملت مضامين سياسية نبيلة تمرداً ورفضاً للحرب الأمريكية علي فيتنام ومعارضة للتفرقة العنصرية في جنوب الولايات المتحدة وكذلك تضيف بعض التحليلات أن التعاطف قد امتد إلي الحق الفلسطيني المهضوم مما قد طوح بشباب يهودي خاض غمارها، بعيدا عنها أمثال( بول ويلفوتس) الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع في إدارة بوش الابن ثم مديرا للبنك الدولي، الي أحضان يمين جديد متصهين في عمومه ،عرف لاحقاً بالمحافظين الجدد تمييزا له عن يمين جمهوري ضم أسماء مرموقة مثل جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر ومستشاره للأمن القومي اسكوكروبت وثلاثتهم لم يكونوا من الخاضعين بالكامل للولبيات اليهودية. قويت شوكة المحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج دبليو بوش (الابن). نقول أصابت آفة التطرف المصاحبة لكل ثورة ، تلك الثورة الشبابية النبيلة حتي غدت ثورة ضد كافة الموروثات رفضا لكل القناعات الصالحة التي لا تستقيم الحياة بدونها وتلك الطالحة المفسدة معاً، فتولدت عنها ثورة الجنس والهيبز وغدت أشبه بفوضوية لا تُعرف مآلاتها . والأمر اذا بلغ هذا الحد انقلب إلي ضده . ألم يفض التطرف بالثورة الفرنسية بشعاراتها السامية العظيمة إلي عهد الرعب والمقاصل ثم عاد التسلط بعودة نابليون؟ لقد أحدث تطرف ثورة الشباب في الستينيات ردة فعل قوية جاءت بالمين المحافظ إلي سدة الرئاسة بفوز رولاند ريقان والي ولاية كاليفورنيا لدورتين والممثل المغمور السابق بعد فوزه علي ديمقراطي بُعيد ثورة الشباب وربما كنتيجة من نتائجها ،هو جيمي كارتر الذي جاء بوجه يحمل سمات الرجل الطيب البسام يعارض المدرسة الواقعية ويخرج علي ميراثها الذي يقوم فقط علي تأسيس السياسة الخارجية علي مصالح أمريكا وإن تعارض ذلك مع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان بل و إن اقتضي ذلك دعم الأنظمة الديكتاتورية واسقاط حكومات جاءت بالاقتراع الديمقراطي الحر كحكومة محمد مصدق في ايران وحكومة سلفادور ألنبي في تشيلي، فانتقد سجل حكومات العسكر في أمريكا الجنوبية وفضح سجلها في حقوق الإنسان وظهر وهو يرتدي قميصا بلا أكمام ودون رابطة عنق ومعطف يحدث مواطنيه بأن علي أمريكا أن تخفض جناحها شيئا ما ، وأن تتواضع وتعرف أنها لا يمكن أن تحكم العالم وأن حركة التأريخ الإنساني تشير إلي ذلك.
لم يرق ذلك لأجيال تربت على الزهو بعظمة أمريكا وكونها حقاً لا مجازاً ظاهرة إنسانية من القوة والكبرياء والضخامة لا نظير لها في التاريخ .جاء ريقان لملء ذاك الفراغ العاطفي خاصة وأن الاتحاد السوفيتي لم يزل يومها حاضرا بعنفوانه مطلاً على أوروبا الغربية المهد الثقافي الحاضن لثقافية أمريكا البيضاء و مهددا لها وهي تنظر لأمريكا التي حررتها من النازية وبنتها عبر مشروع مارشال بعد أن أصبحت أنقاضاً كحامية ونصير عند الشدائد. نعم. جاء ريقان رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية على قدر أيها السادة والسيدات!
أستفسرنا أستاذنا ريتشارد موري وهومن أساتذة العلوم السياسية المعروفين علي نطاق أمريكا عمن فاز بالمناظرة التي تمت بين الرئيس ريقان وهو يخوض انتخابات عام ١٩٨٤ الرئاسية لإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية ضد مرشح الحزب الديمقراطي ( وولتر مونديل ) الذي كان قد شغل منصب نائب الرئيس تحت الرئيس كارتر وهو سياسي حاذق علي غرار الساسة الأوربيين الذين لا يبلغون حد الترشح إلا بعد مراحل طويلة من الدربة والتمحيص في أحضان الحزب ، فقلت الفائز هو مونديل فسرت همهمة رفض واستنكار لقولي (بودينق) بين شبان بيض من أبناء الأثرياء وجاءوا بعد المحاضرة يشتكون : ” سيد أحمد ، كيف تقول ذلك ؟ فرددت بأن الرئيس ريقان يحسن الأحاديث الرنانة الديموغاغية التي لا تحمل محتوي ولا مضامين. ردوا عليّ بأنهم يريدون ذلك: We like tough talk!
قال مغنينا: نحن في الشدة بأس يتجلى!
ذلك حق! فقد طلب نابليون من خديوي مصر إرسال كتيبة من هؤلاء السمر الأشاوس ليرسلهم للمكسيك للقتال من أجل فرنسا! فأوفوا الكيل وتصدقوا هناك وحققوا لنابليون حلمه بالنصر! هل من يبحث عن ذراريهم ؟ فبعضهم قد شط بهم النوي فحلوا في البرازيل . قادهم الحنين إلي الجذور عبر عمامة السفير مهدي إبراهيم وهو يقدم أوراق اعتماده هناك سفيرا غير مقيم فزاروه في الفندق وقد شاهدوا مراسم تقديمه على التلفزيون. قال لم يكونوا يحسنون من لغة سوي البرتغالية ما دلهم عليه إلا العمامة ! والبرتغالية هي اللغة السائدة في البرازيل! بل هي المشترك الجامع لشتاتها العرقي والثقافي. وعندما فوضني الوزير الدكتور مصطفي عثمان لأقدم التهاني للرئيس( لويس لولا دا سيلفا ) نيابة عن حكومة السودان، خطب رئيس البرلمان بين يدي حفل التنصيب قائلاً : “إن اللغة البرتغالية هي التي توحد شتات عرقياتنا وأصولنا المتباينة!” هناك وفي بدايات الألفية الثالثة)٢٠٠٣)كان عبق اليسار العريض يضمخ المكان رغم خبؤه في مواطنه السابقة في روسيا وشرق أوروبا. وقفنا جنبا إلي جنب مع فيدل كاسترو الذي تركز اهتمام الجماهير عليه فكانوا يلوحون له مرحبين من كل الأمكنة وهو رجل فارع الطول ذو بسطة في الجسم . وكان هناك شافيز أيضاً والجماهير تحمل صور شي جيفارا والأعلام الحمراء تملأ الساحات والحناجرتهتف هادرة للرئيس العمالي المنتخب : “لولا…. لولا.. لولا.”. لقد أخرج الرجل أثناء فترتين من عهدته نحو ثلاثين مليونا من دائرة الفقر الي دائرة الإنتاج ومع ذلك لاحقوه بالتهم. كان بجانبي الأمين العام لمنظمة الأمريكتين وهو أمريكي الجنسية جاء مندوباً عن بلده لتقديم التهنئة نيابة عنها. قال لي “إنه من المؤسف أن يتدني تمثيل بلادنا إلي درجة دون الرئاسة! “وبرؤيتي لكاسترو وشافيز وغيرهم من زعماء اليسار في أمريكا الوسطي والجنوبية ضمن الحشد، رجحت سبب تدني ذلك التمثيل وغياب جورج دبليو بوش عنه!

واستطرد مغنينا:
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية!
اعترف بذلك ونستون تشرشل المراسل الحربي الذي رافق حملة كتشنر إلي أم درمان، والسياسي البريطاني اللامع لاحقاً، فقد وصف مقاتلي المهدية بالشجاعة في أكثر من موضع في كتابه المعروف “معركة النهر”. وتشرشل كاتب مطبوع وله كتابات عدة منها كتابه عن الولايات المتحدة، “الجمهورية العظيمة” لعله من بين أفضل الكتب في موضوعه. والرجل لم يكن يخفي اعجابه بالولايات المتحدة فأمه أمريكية من نيويورك وأجهد نفسه بتلك الآصرة ليقنع الكونقرس الأمريكي بالموافقة علي دخول أمريكا في الحرب العالمية الثانية إلي جانب الحلفاء فتأبت عليه. قال مخاطبا الكونقرس: ” كان بإمكاني أن أكون عضوا بينكم”. لكن خطأ اليابان الفادح بمهاجمة (بيرل هاربر) هو الذي أدخل أمريكا غمار تلك الحرب المدمرة. قال تشرشل عندئذ: ” الآن تنتهي الحرب العالمية!” أي بخوض أمريكا أوارها.
كان موقف أمريكا من الحرب قبل تدمير قاعدتها وبعدها، مثل موقف الحارث بن عباد سيد بني بكر الذي كان على الحياد بادئ الأمر فرغب في التوسط بين بكر، قبيلته، وبين تغلب بعد مقتل كليب في حرب البسوس فأرسل ابنه الوحيد جبيراً لجساس شقيق كليب فداء لكليب ليوقف الحرب التي استمرت أربعين عاما فقتله جساس نظير شسع نعل كليب، قائلا:” بوء بشسع نعل كليب!” فخرج حكيم بكر عن حياده في الحرب انتقاما لولده منشدا:
يا جبير الخيرات لا صلح حتى نملأ الأرض من رؤوس الرجال
علم الله لم أكن من جناتها ولكني بحرها اليوم صالِ
قتلوه بشسع نعل كليب إن قتل الكريم بالشسع غالِ
وهزمت بكر تغلباً شر هزيمة وملأت الأرض من رؤوس الرجال علي يد زعيمها الحكيم الفارس.
واستطر شاعرنا:
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية!
ثم قال:
ما هان أبطال لنا بل فر جند الطاغية!
ليس في تلك الواقعة قطعاً.
ولكن لا بأس فقد أوصي النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ والمسلمون في ضيق الخندق أن يتحقق من موقف حلفه مع يهود بني غريظة علي النصرة والمؤازرة. قال ألحنوا لي في القول إن وجدتموهم قد نقضوا العهد وشايعوا الأحزاب المحدقة بالخندق “لا تفتوا عليّ عضد الناس!” أي لا تهبطوا بمعنويات القوات المحاصَرة. جاء سعد بالأخبار السيئة فكبر النبي “الله أكبر!” كأن يهود لم يفعلوا.
وقد يغدو التهويش دريئة ردع لدي البعض:
“أنا الشين…أنا الكعب…. أنا…”!
وريقان الكاوبوي كان يمثل صورة أمريكا العميقة القوية المحافظة كان
كمن تقمص شخصية صديقه الممثل الكاوبوى الأول (جون وين) بل قال عنه يطريه مرة أنه لو كان حياً لأسند إليه وزارة الدفاع! وغرست تلك الفترة بادرة ما عرف بالمحافظين الجدد الذين استثمروا أحداث سبتمبر 2001 ليصنعوا العالم على صورة أمريكا وبالقوة. وقد أوردنا فيما تقدم أن بعض رموز المحافظين الجدد كانوا فى زمرة شباب تلك الثورة ! وظاهرة التناوب بين ليبرالية مطلقة متمردة على القديم كله –دون فرز- ثم عودة القديم بعنفوان أشد واستراتيجيات أجد، ظاهرة تدعو للتأمل وعدم الركون لفلسفات الحتميات من كل نوع والتماس التوسط بالإبقاء على النافع من القديم واستئناس، وبتؤدة، ما يفيد من كل طارف جديد. لقد جاء عنوات الغلاف لمجلة “شؤون دولية” في عددها الأخير يناير/ فبراير ٢٠١٨ بهذا المعني ” الماضي الذي لم يمت! كيف تواجه الأمم شرور تأريخها؟”
نقول ولا يزال المترشحون للمناصب السامية فى أمريكا يحرصون كل الحرص على تأكيد الاحترام لعش الزوجية فيصطحبون الزوجات فى حملاتهم الانتخابية ويؤكدون ايضاً على احترامهم للدين ولا يتصور حتى الآن انتخاب رئيس للبلاد أعزب. وقيل إن رولاند ريقان هو الرئيس الوحيد الذى انتخب وقد سبق له طلاق زوجته الأولى الممثلة (جين ويمان) نجمة (فالكون كريس) أم ابنته(مورين) وقد رجحنا مجتهدين أن انتخابه رغم ذلك جاء كردة فعل لثورة شباب الستينيات المتمردة. والحرص علي احترام عش الزوجية كنواة للأسرة في مجتمع متماسك منطقه أن كيف الوثوق في مقدرة إخلاص من طلق في الحفاظ على تماسك الأسرة الأمريكية الكبيرة وأمنها واستقرارها أو هكذا يمضى منطق الأشياء كما يرونه.
لكن الرئيس الحالي دونالد ترامب قد كسر تلك القاعدة فقد طلق زوجتين قبل زوجته الحالية. لكن المهم أنه متزوج حين خاض غمار الانتخابات والاستثناء لا يقف عند كون الرجل طلق مرتين لكن في أن يفوز رجل مثله لم يسبق له أن تقلد منصبا في إدارة عامة ولم ينخرط في أي عمل حزبي لقيادة أقوي دولة في العالم. تري هل هو الخوف علي بياض أمريكا بعد قيادة رجل أسود (أوباما) علي مدي ثمانية أعوام (حسوما)؟ وهل تلك بداية فيضان من الألوان عليها قد يطمر ثقافتها الأوروبية ويغيب سحناتها وملامحه القوقازية؟! ربما! ألم يثر متطرفون بيض في شارلوت فيل لقرار بإزاحة تمثال (روبرت لي ) أحد قواد جيش الجنوب في الحرب الأهلية الذي قاتل حتي قتل من أجل الإبقاء علي الرق؟ ألم يهتفوا ” لن تحكمنا يهود!”؟
وصنيع الممثل ماثيو الذي سبقت الإشارة إليه مع الله وأسرته شائع عندنا وفى الدنيا كلها رغم أن الناس يستغربون من ممثلات وممثلين لا يدل ظاهرهم على عناية بالدين واعتبار لما تواضع الناس على أنه من حميد ما تعارفت عليه المجتمعات المحافظة من الخصال ولكن الله أعلم بما انطوت عليه الجوانح. والناس فى حاجة إلى الله وإن أنكروا ذلك بأقوالهم أو عبرت عنه أزياؤهم يلتمسون الوجاهات والتمسح بقشور الحداثة والعصرنة بالهروب من رمزيات وسلوكيات القديم. قيل للفرزدق فى أمر الدين فقال “والله إنى موقن أن الله تعالى أرأف بي من أمي وأبى.” وهو الذى ثار فى وجه من حاول التقليل من مقام حفيد النبي على زين العابدين وقد وسع له الحجيج لتقبيل الحجر الأسود دون سائر الناس بمن فيهم ولى عهد خلافة بنى أمية وقتها هشام بن عبد الملك وقد أصابت الدهشة والذهول حاشية هشام بن عبد الملك من أهل الشام فقال هشام أو قال وزيره وهو يعرف جيداً حفيد النبي يصرف حاشيته من التعلق به: من هذا؟ رد عليه الفرزدق أنا أعرفه وأنشد القصيدة المعروفة ففي مدح السبط على زين العابدين والتي يقول فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقى النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
تأمل بالله قوله:
سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنتان: الحلم والكرم
فليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
وفيها البيت المشهور عن كرم حفيد النبي:
ما قال لا قط إلا فى تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم
وقد بلغ بزين العابدين غاية الرفعة مدحا بقوله:
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم!
فلله در الفرزدق.
حبسه هشام لذلك في عسفان بين مكة والمدينة فهجاه بقوله:
تحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس تهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد وعينين حولاوين باد عيوبها
وكان هشام أحولاً
ويبدو أن جريراً لم يفطن لذلك، أو ربما عن قصد منهم فقد كان محباً لآل البيت، حين مدحه بقوله:
صفراء قد كادت ولما تفعل كأنها في الأفق عين الأحول
فغضب وحبسه!
ونواصل إن شاء الله

تعليقات الفيسبوك