انتهينا في الحلقة الماضية إلي أن السيد أحمد بن إدريس الفاسي يعد أحد رواد المدرسة الإصلاحية في التصوف والتي يطلق عليها ” الصوفية الجديدة “وأشرنا إلي أنها مفارقة للتصوف الكلاسيكي الذي كان يصعد بالمتصوف إلي معارج الاتصال والوحدة بالذات الإلهية ومن أبرز رموزه محي الدين بن عربي وأن الصوفية الجديدة تأثرا بحركة وفكر محمد بن عبد الوهاب الحنبلي قد جعلت سقف المعارج الصوفية يقف عند الرسول (ص) ولا يتعداه وأن الحضرة النبوية في معية الخضر أحيانا هي غاية ما يصل إليه المتعبد الصوفي وقلنا أيضا إن الطواف الدينية السودانية قاطبة تنتم بصورة أو بأخري لهذه المدرسة بل وتبني عليها الأوامر والنواهي باعتبارها معارف صادرة عن رسول الإسلام أي أن نظرية المعرفة لديه ذات شقين عالم الشهادة بالمحسوس وعالم الغيب الذي يكون أعلي سقفه التواصل مع روح النبي مناماً ويقظة مصدرا للمعرفة تستقي منه الأوامر والنواه مثلما تستقي من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة. ولا يخفي مغزي عبارة : أمرني سيد الوجود في أوراد الختمية وفي رسائل المهدي.
ليس من أغراض هذه الصفحات استعراض كتاب أوفاهي لذا سنلجأ إليه وإلي غيره بما يعيننا علي تتبع مراحل نمو منظومة ابن إدريس التي مكنت من إنتشاره وتأثيره الكبير علي السودان وجواره وعلي رقعة واسعة من بلاد المسلمين. ولد السيد أحمد ابن إدريس الفاسي عام ١٧٥٨ أو ١٧٦٠ أو كما يرجح أحفاده في أم درمان والأقصر في عام ١٧٥٠ الموافق ٢١ رجب ١١٦٣ للهجرة لأسرة مرموقة من الأشراف الحسنية في احدي قري المغرب انتقل بعدها إلي مدينة فاس حيث تلقي العلم في جامعة القرويين في عهد مولاي محمد ونجله سليمان اللذين شجعا الاهتمام بالحديث وحاربا التقليد ومنعا طقوس التصوف في العلن . ويقول أوفاهي إن الرجلين من أكثر الناس تأثيرا علي ابن إدريس. ومن هنا يتضح أنه عندما ذهب إلي الحجاز في وقت اجتياح تحالف السعوديين وابن عبد الوهاب ذهب بهذا الإرث في تعظيم دور الحديث النبوي في الدين وأنه لم يتلقاه من المدرسة الوهابية الحنبلية لذلك نهي تلاميذه من التعرض لهم ومن جانبهم أحسنوا وفادته عندما اجتاحوا مكة المكرمة وقبلوا شفاعته في بعض أصحابه الذين ناصبوا الوهابية بالعداء .وقد روي قصة صمود ابن إدريس عند دخول جيش الدولة السعودية الأول وإكرام بن سعود له بإجلاسه إلي جانبه الذي كساده بردة وقوله له كان يجب علينا زيارتك لا أن تزورنا، السيد الميرغني جد السيد محمد عثمان تلميذ الإدريسي . والشاهد هنا موافقة الإدريسي لمدرسة الحديث مع مخالفة الوهابية في مسائل الكرامات وفي رؤية ابن تيمية وابن القيم في أن وحي السماء قد انقطع بوفاة النبي وأن روية النبي في المنام لا تبني عليها الأحكام. (أوفاهي ص٣).
وأهم فصول الكتاب الفصل الثالث الذي أسماها ” السنون المجهولة” وهي نحو ثلاثين سنة قضاها بين الحجاز وصعيد مصر كانت هي أخصب سني حياته الطويلة التي امتدت لأكثر من ثمانين سنة والسبب في إطلاق صفة المجهولة عليها هو كما قال قلة المعرفة بها وأن ما وجد منها باستثناء القليل جمع في أزمان تالية فلا يوجد شيء يذكر من معاصرين له سوي رسائل متبادلة بينه وبين الميرغني وتلاميذه الآخرين. ولما كنا نتحدث عن المجهول والغوامض، أود أن أشير إشارة عابرة إلى ما اخترته لاسم الكتاب ” القديس الغامض” والقديس ترجمة مستعارة من التراث المسيحي يقابلها في العربية” الولي” كما ذكر ترمنقهام (الإسلام في السودان ص ١٢٦) وأشار إلى ضرورة ملاحظة فروق في مدلول الكلمتين حيث أن الولي في الأدبيات الإسلامية هو القريب من الله وفي المسيحية من جرت على يديه خوارق. ولولا حيرة الكاتب في عدة أمور من سيرة ابن إدريس تبدت له غامضة مستعصية علي الفهم ، إما لعدم وجود شهادات مستقلة داعمة أو نافية لها أو لأن ابن إدريس نفسه لم يفصح عنها كما سيأتي بيانه، لرجحنا أن المقصود بكلمة Enigmatic هو صاحب الخوارق والأسرار النورانية وهو معني مضمن بالضرورة في كلمة الولي الصالح وكان بالإمكان سودنة اسم الكتاب إلي “الولي الصالح صاحب الكرامات أو خوارق العادات” وواضح مما سيأتي ، أن الغموض ليس المعني السالب الذي يتبادر إلي الأذهان فالرجل يحار لأكثر من مرة فيعجز عن تفسير بعض جزيئات التأريخ لا سيما والحديث عن رجل من أهل التصوف قد لا تبرر أفعاله حسياً. لذلك تظل كلمة غموض ضرورية وذات دلالات على عدم توفر حيثيات تصل بالنتائج في التحليل إلى درجة اليقين القطعي. تساءل في ذات الفصل الثالث عن عناية ابن إدريس بصعيد مصر وجعله منطلقا للدعوة في السودان بإرسال تلميذه محمد عثمان الميرغني إليه مرجحا أن ابن إدريس قد وجد في صعيد مصر مكانا مناسبا في تخوم العالم الإسلامي للتلقي من قلب العالم الإسلامي وللاندياح إلى شمال السودان. وتبلغ الحيرة والغموض مداهما في الفصل الخامس عندما يقرر أن الغربيين والكتاب المسلمين من داخل وخارج المدرسة الإدريسية متفقون على أن أهداف ابن إدريس ونواياه والتطورات التي تلت وفاته محيرة ومثيرة للتساؤلات ومربكة ومضللة أحيانا. هل كان يرمي لخلق جامعة إسلامية (وحدة العالم الإسلامي) مثلاً كما تمني جمال الدين الأفغاني؟ تلاميذه ومعاصروه مثل السيد أحمد التجاني حاولوا شيئا من ذلك بتأسيس طرق مركزية تمتد فروعها في مساحات واسعة من بلاد المسلمين بينما لم يفكر في ذلك ابن إدريس بل حرص علي نشر الدعوة التي بلغت اندونيسيا وسوريا واليمن والشمال الإفريقي وبلاد السودان. (/أوفاهي ص٩) يقول أوفاهي إن كتابات الغربيين عن الإسلام في القرن التاسع عشر لا تكاد تخلو من سطر أو اثنين عن ابن إدريس كمقدمة للحديث عن تلميذه السنوسي في ليبيا أو محمد عثمان الميرغني في السودان وأنه بعد وفاته انتشرت تعاليمه ودراساته علي رقعة جغرافية شديدة الاتساع. ويقول إن من أوسع دراساته انتشارا والتي طبعت مراراً، رسالة كتبها أفغاني من كابول استمدها من محاضرة لرجل سوداني من قرية نائية في دار فور. وأن دراسات الرجل تردد صداها تأثيرا في الفكر الإسلامي من كلانتان في مليزيا إلي تنزانيا في جنوب شرق إفريقيا كما كان رقما روحيا مؤثرا من خارج مسرح الأحداث علي العديد من الحركات الإصلاحية الصوفية في الصومال وقد حفزت أوراده وأدعيته العلماء في مصر والسودان وألبانيا وسوريا لكتابة الحواشي والشروح تعليقا متأثرا بها كما أن جنرالا كبيرا في الجيش التركي علي أيامه قد حرص علي نشر تعاليمه وأن الاخوان المسلمين في إفريقيا قد اعتبروه أنموذجا يحتذي لنشر الدعوة الإسلامي.
ونخصص ما تبقي من مساحة للحديث عن أثر ابن إدريس علي السودان وجواره المباشر عبر تلاميذه. من تلاميذ ابن إدريس السيد محمد عثمان الميرغني (١٧٩٣-١٨٥٨) مؤسس الطريقة الختمية والذي ولد في قرية قرب مدينة الطائف وهو من سلالة الأشراف وجده عبد الله المحجوب ابن إبراهيم الميرغني كان من علماء الحجاز المتصوفة (أوفاهي ص -٤٢-١٤٣). انتقل مع شيخه أحمد بن إدريس إلي قرية (زينية) في صعيد مصر واتجه إلى السودان عام ١٨١٥ وكان في نحو السادسة والعشرين وأدخل الشيخ إسماعيل الولي في طريقة ابن إدريس إلا أن الولي تركها بعد ذلك وأسس طريقته. وذهب محمد عثمان إلي مناطق الجبرتا في أريتريا وفي اثيوبيا حيث انتظم الكثيرون في سلك الطريقة الختمية والتي انتشرت بعد ذلك إنتشارا واسعا في السودان الأوسط. التلميذ الآخر الذي لم يجد ما يستحقه من الاهتمام في بلده هو السيد إبراهيم الرشيد في منطقة الشايقية (قرية الكرو). وهو حفيد أسرة دينية معروفة هم الدويحية، فجده عبد الرحمن ولد دويح وكان عالما يدرس الخليل ورسالة ابي زيد القيرواني إلي جانب التصوف ويبدو لذلك أطلق عليهم في المنطقة (الدويحية أهل الكتاب.) ولد إبراهيم الرشيد لأب كان قاضيا في منطقة شندي عام ١٨١٣ وتوفي عام ١٨٧٤. وتقول روايات المتصوفة أن والده أخذ الطريقة الختمية من السيد الميرغني فطلب من الميرغني إدخال ابنه إبراهيم الذي كان صغير السن في الختمية إلا أن الميرغني أشار (فيما يشبه الكرامة) أن ذلك ما سيفعله أحمد بن إدريس. ولما سمع الصبي ابن الثالثة عشر عزم على الالتحاق بابن إدريس وقد فعل عام ١٨٣٢-٣٣ ومكث معه في صبيا في اليمن حتى موت ابن إدريس نحو عام ١٨٣٨. ويورد أوفاهي رواية إبراهيم الرشيد عند لقائه الأول بشيخه ابن إدريس والتي وصفها بأنها من أطول وأقدس ما جاء في الإدريسية إذ قص فيها الرشيد كيف أنه مرض في طريقه من مكة إلي اليمن لأخذ الطريق من الشيخ وكيف أن الشيخ زاره في منامه ووصف له وصفات تعافي بعدها ولحق به. والغريب أن آثار إبراهيم الرشيد خارج السودان كانت أكبر إذ أن الرشيدية انتشرت في سوريا واندونيسيا والذي لا يعرفه الكثيرون أنه بعد وفاة إبراهيم الرشيد خلفه ابن أخيه صالح حيث أنه لم يخلف سوي كريمته عائشة الذي نشر ذات الطريقة في الصومال باسم الصالحية التي انتسب إليها مهدي الصومال السيد محمد عبد اللي حسن الذي قاوم الاستعمار الإيطالي والبريطاني لعقدين كاملين استخدم فيها الإنقليز الطيران الحربي لأول مرة في إفريقيا من شراسة القتال لقمع الثورة. وتأثر كذلك بمدرسة إبراهيم الرشيد ثوار الحبشة. يقول أوفاهي إن إبراهيم الرشيد عمل بلا كلل لنشر تعاليم شيخه أكثر من ذويه الأدارسة ويضرب لذلك الأمثال فيقول إن إبراهيم الرشيد هو الذي أحكم غراس الإدريسية في صعيد مصر حيث أسس زاوية تحت رئاسة العالم الشافعي محمد أبو القاسم بن محمد الحجازي في منطقة زينية. تلميذ آخر من تلاميذ إبراهيم الرشيد من مصر هو السيد محمد بن أحمد الدندراوي من مدينة دندراو في صعيد مصر وفي فترة الخديوي محمد سعيد باشا وعبر شقيقه الذي كان رئيسا على مدينة(دندراو) أخذت الوحدات العسكرية تردد أوراد الدندراوية. تلميذ مصري آخر هو موسي أغا كاظم أسس طريقة تسمي الطريقة الرشيدية الأحمدية الإدريسية. وكان له أتباع في الهند أسسوا زوايا هناك. والإدريسية أثرت في السودان على السمانية والمجدوبية وحتى المهدي تأثر بها عبر عبد الله عبد الحفيظ الدفاري (حسن مكي ص١٢) كما أن علي حفيد الإدريسي الذي أسس ملكا في منطقة عسير وجيزان كانت أمه ابنة السيد هارون الطويل من أرقو (أمين الريحاني /ملوك العرب).
أما في الجوار السوداني فنحن في غني عن الإطالة فقد أسس تلميذه الأول محمد السنوسي الزوايا في ليبيا ونشر العلم في أرجائها فقد أسس زاوية في مكة وتسعاً في مصر و٢٧ في ليبيا خرجت العديد من العلماء والمجاهدين ضد الاستعمار من أمثال البطل محمد المختار وغيره كما أسس تلميذه إبراهيم الرشيد ٢٤ خلوة للتوجيه والإرشاد في السودان خرجت بدورها علماء وحفظة (ح. مكي٣٢-٣٣).
وبعد…. فهذه سياحة عجلي أتوقف عندها وفي النفس تبقي أشياء عديدة من حتي في شأن آثار ابن إدريس في السودان السياسية والثقافية التي لا زالت حية وشاخصة ومؤثرة في مصائر السودان وفي جواره والمؤثرات التي انتهت بالصوفية من حركة انكفاء علي الذات الخاصة بغية الرقي الروحي بها إلي حركات جهادية مقاومة ثم إلي أحزاب سياسية آخت علي طريقتها بين السياسة والقداسة؟ كيف لعب المغرب هذا الدور الكبير على نطاق العالم الإسلامي وهو في الطرف القصي منه؟ وهل أدي سقوط الأندلس إلي وفرة في العلم والعلماء انتشروا في الأرض دعاة للإسلام؟ وأغالب رغبة عارمة في سبر غور أثر ابن إدريس في وجداننا وفي شخصيتنا السودانية ولعلي أفعل إن شاء الله.
أثر أحمد بن إدريس الفاسي علي السودان وجواره الجغرافي (2/2)
0