أبو العلاء شاعراً: نظرة جمالية: ترجمة رسالة البروفسور عبد الله الطيب لدرجة الدكتوراه

في مارس من العام الميلادي الحالي ٢٠١٨ تلقيت دعوة كريمة من الدكتور الأديب المعروف الصديق عمر الصديق عن مؤسسة العلامة عبد الله الطيب الخيرية للمشاركة في حفل توقيع كتاب “أبو العلا شاعراً: نظرة جمالية” للبروفسور عبد الله الطيب، برعاية مجموعة النفيدي بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم. والكتاب في الأصل هو أطروحة بروفسور عبد الله الطيب لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن في المملكة المتحدة عام ١٩٥٠ والتي كتبها بالطبع باللغة الإنقليزية. وقد قام بترجمة هذه الأطروحة إلي اللغة العربية، ترجمة تفوق الوصف في الدقة والرصانة والجمال أحد تلاميذ بروفسور عبدالله الطيب، الشاب المحاضر بكلية الآداب الأستاذ عبد المنعم الشاذلي. وقد تم تدشين الكتاب في يوم السبت ٢٤ مارس، أدار الحوار فيه بجدارة ولغة رصينة الدكتور الصديق عمر الصديق تناول فيه أساتذة كبار الحديث عن الأطروحة التي صارت كتابا باللغة العربية ،عبر ثناء حسن وتقريظ مستحق به وبالترجمان الحاذق الحقيق به، الأساتذة البروفسور الحبر نورالدائم، والدكتور عبد الله محمد أحمد، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، والبروفسور التجاني الجزولي، مدير المعهد الإسلامي للترجمة، وكاتب هذه السطور بالإضافة بالطبع لتقديم موجز للترجمة من المترجم الأستاذ عبد المنعم.

وقد ضاقت القاعة على سعتها بالحضور بما لم أشهده منذ زمان كما ازدانت ردهات المكان الخارجية بطبعات جديدة أنيقة من مؤلفات عبد الله الطيب التي اختفت لبعض الوقت من محال الوراقين. شرفت الحفل السيدة جوهرة أرملة بروفسور عبد الله الطيب وألقت كلمة بالمناسبة وهي التي تمكنت بعد الجهد من الحصول علي نسخة من الأطروحة من جامعة لندن والتي و للمفارقة لا توجد منها نسخة في جامعة الخرطوم، الجامعة التي شغل فيها بروفسور عبد الله الطيب موقع الأستاذ الممتاز حتي وفاته ، رحمه الله رحمة واسعة. وكان بين الحضور كذلك من أسرة العلامة الراحل، البروفسور مدثر عبد الرحيم الذي حل مؤخرا أستاذا بجامعة إفريقيا العالمية وكريمة إحدي شقيقات عبد الله الطيب كانت ملازمة له كما ذُكر في المناسبة. لقد كان احتفالا بهيجا يليق بالكتاب الذي حار الناس في سبب عدم قيام العلامة الراحل نفسه بترجمته طوال العقود الممتدة منذ ٥٨ عاماً. قيل إنه اعتذر بضيق الوقت وأنه لم يجد سانحة تمكنه من العكوف علي ترجمة هذه الأطروحة الهامة مع كثرة ارتباطاته وأسفاره وانشغاله بالإشراف علي الدراسات فوق الجامعية في مجالات علوم اللغة العربية وآدابها. وذكر آخرون أنه رأي أن يتصدى لهذا العمل غيره من الأدباء. وامتدت حيرتي وحيرة غيري إلي أنه لم يكن يكثر ذكر هذه الأطروحة في أحاديثه وكتاباته إلا أن ردنا الأستاذ عبد المنعم إلي الصواب – وهو تلميذه الأكثر إلماما بإنتاجه منا – إلي أنه بالفعل أشار إلي هذه الأطروحة في كتابه ” القصيدة المادحة ” وفي غيرها من موضوعات كتبها . أشرف علي الرسالة أستاذه المستشرق البريطاني ألفرد قيوم Alfred Gillaume . وقد ذكر المترجم أن ألفرد قيوم كان قد استعان بعبد الله الطيب في ترجمة “طبقات بن سعد”.

نعود للكتاب فأقول إن الصديق والزميل السفير الدكتور خالد محمد فرح قد سبق إلي استعراضه استعراضا شاملا أوفي فيه الكيل وتصدق علينا وعلي المترجم بملاحظات قيمة فكفاني مشقة القيام بتلك المهمة. يبقي القصد من وراء كتابة هذه السطور كان وعدا قطعته للأستاذ عبد المنعم الشاذلي بالكتابة عن الكتاب، حيث إن الزمن الذي كان حدد لمداخلاتنا لم يشف غليلنا من فتح الأصداف واستخراج الجواهر الثمينة في نص الأطروحة وفي الترجمة المتقنة التي قلت للأستاذ عبد المنعم إن العلامة صاحب الأطروحة نفسه مع علو كعبه في العربية وعلومها لم يكن ليزيد عليها شيئا. لذلك فجل السطور التاليات سأجعلها للترجمة وصاحبها.

المترجم الأستاذ عبد المنعم الشاذلي في دالة علي علمه في إتقان لغة الضاد ، حرص على ضبط كل كلمة كتبها بالشكل في سفر تجاوز الخمسمائة صحيفة من القطع الكبير. وأقول هنا إن ميراث عبدالله الطيب في علوم العربية وآدابها لم يقف عند المؤلفات الهامة العديدة التي خطها يراعه، رحمه الله، ولا فيما حفظ من أحاديثه عبر الصوت والصورة ولكن في هذا اللفيف من الشباب المتميزين من أمثال عبد المنعم الشاذلي والدكتور الصديق عمر الصديق وقد سبقهم جيل من الشيوخ من أمثال بروفسور الحبر نور الدائم وبروفسور حسن بشير صديق وسواهم من الجهابذة الأفذاذ الذين حملوا رايته بعده للأجيال اللاحقة .وفي هؤلاء وأولئك بشارة بأن العربية، لغة التنزيل الكريم مصونة باقية بجهودهم وبمن يخلفونهم من تلاميذهم . وحتي لا نساير (موضة) التشاؤم السائدة هذه الأيام، أشهد بأني وخلال السنوات القليلة التي أمضيتها في حقول التعليم الجامعي بعد التقاعد من عالم الدبلوماسية، رغم الضعف العام الذي اعتري التعليم برمته، إلا أني صادفت شبابا صغار السن لهم شغف ومحبة بالعربية وآدابها والاستزادة من كنوزها، يحسنون التفنن في الكتابة بها عبر النثر المتفنن والشعر الرصين ولهم بعد ذلك شغف بالمعارف كآفة، فلله درهم.

أدعوكم إلى النظر في المقدمة الرصينة اللغة التي ابتدر بها المترجم ترجمته لهذا الكتاب فجاءت تحفة أدبية رائعة بحد ذاتها بسط فيها المنهج الذي نهجه في الترجمة ولماذا انتهجه والخطوات التي انتهجها في إبانة ما غمض، مثال أن صاحب الأطروحة لضرورات الترجمة اكتفي أحيانا بترجمة معان الشعر فعمد المترجم إلي التنقيب عن الأبيات نفسها فأوردها في مواطنها كما فاه بها المعري. لنطالع معاً المقتطف التالي من المقدمة وكيف أنه أبان في إيجاز أهمية أطروحة عبد الله الطيب عن أبي العلاء بلغة جزلة طروب تحاكي جوامع الكلم:

” ومع أن أبا العلاء ظل من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية والفنية المثيرة علي مر تأريخ الأدب العربي منذ عصره، إلا أن كلاً من فكره ونباتيته وعزلته ظل مناط الاهتمام دون شعره الذي لم تتوجه إليه الدراسة-إلا قليلا-إلا بعد اهتمام النقاد الغربيين به، كما ذكر عبد الله الطيب. هذا ولست أعلم كاتبا عربيا تلاقت في كتاباته خصائص اللغة العربية ومميزاتها وجمالياتها وفكرها وتأريخها علي نحو لافت للنظر، كما تلاقت وائتلفت في كتابات أبي العلاء، فجاء شعره ونثره قطعاً أدبية جامعة تحتشد فيها أسماء الحيوان والنبات والشخصيات والأفلاك والنجوم والطبائع والأحداث والأخلاق والأفكار والعقائد، كل ذلك يأتلف مع ألفاظ اللغة وعباراتها ائتلافا عجيبا من طريق جماليات هذه اللغة، جناسا وطباقا ومقابلة ونحوها، مما يعز أن تدور العين منه علي نظير في أدب العربية. حتي جاء أدب أبي العلاء كأنه تسجيل نادر لبراعة هذه اللغة وإعجازها التعبيري، الذي تفردت به دون غيرها من اللغات مما يدل علي علم باللغة غزيز واطلاع في العلوم واسع.”

ويستطرد في موضع آخر بالقول :

“والحق أني لم أقف علي نقد لناقد قط مازجه قدر من الجراءة والجسارة لم يقل من حظه من اللذة والمتعة الفنية كما في هذه الدراسة الجسورة الممتعة من البروفسور عبد الله الطيب.” ولا بد أن نشير إلي أن المترجم بالإضافة إلي إجادة اللغتين العربية والإنقليزية يتمتع بحاسة شعرية مكنته من ترجمة أبيات لشيلي وشكسبير، شعرا ينبض بالحياة أشار إلي بعضها السفير خالد فرح في استعراضه للكتاب .( انظر هوامش الصفحات:١٧٧، ٣٩٤،٤٠١)

وتبرأ الكاتب عن ما شذ من آراء أبي العلاء كرأيه في المرأة ورأي فيه تناقضاً مع أفكار الرجل في العدل والمساواة والرحمة. ولعله أجمل في ذلك آراءه التي تشير إلي رقة في الدين بقوله ” ولأبي العلاء، بعد آراء شاذة لا يملك المرء إلا أن يردها عليه رداً ويقف منها موقف الرفض المطلق.” علي كل فلأبي العلاء أبيات تدل علي الإيمان العميق ليس هذا موضع بسطها.

يقول الدكتور طه حسين إن أبا العلاء لا يري بأساً أن يرفض الناس بعض ما يقول فلا تثريب عليهم . قد استشهد الدكتور طه حسين بأبيات تدل علي ما أطلق عليه طه عبارة اطراء تحمل شحنة قوية من الإعجاب بإيمان المعري بالحرية :” وما أعرف اعتداداً بالحرية العقلية والشخصية والفلسفية يشبه هذا الاعتداد”:

خذي رأيي وحسبُك ذاك منِّي علي ما فيَّ من عِوَجٍ وأمْتِ

وماذا يبتغي الجلساءُ عِندي أرادوا مَنطقي وأردتُّ صَمْتي

ويُوجَدُ بَيننا أمَدٌ قَصِيٌّ فأَمُّوا سَمْتَهُم وأمَمْتُ سَمْتي

يعلق طه حسين علي هذه الأبيات بقوله:” وأبو العلاء يعرف أنه معوج ويعرف أن فيه أمتاً وانحرافا ولكنه يعرف أن ذلك يعنيه ولا يعني غيره.” وهو كما تقدم لا يلزم أحدا بموافقته. لا حظت – وربما سهوت عن ذلك سهوا لا قصدا- أن عبدالله الطيب لم يقف عند أبيات أبي العلاء التي اتخذها شانئووه دليلا علي تجديفه بينما استنكر من العقاد قوله:

والشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمان

باعتبار أن الرحمن اسم من أسماء الله الحسني لا يجوز أن تطلق علي بشر. تري هل تلكم عين الرضا عن ابي العلاء أم أن البروفسور رأي أن القول برقة دين أبي العلاء قد غيّب عن الناس أدبه وتفرده كشاعر ضخم لا يشق له غبار فصوب النظر إلي ذلك وترك الخوض فيما لا علاقة له به سيما وقد حُبر فيه ما لا يحصي من الصحائف فاختار أن يركز علي ابي العلاء الشاعر والفنان كما قال المترجم؟

وتجنبا للإطالة في مقالة سيارة فسأكتفي بالقليل من الشواهد علي اتقان الترجمة ففي الفصل الخامس من الجزء الثالث جاء النص بالإنقليزية:

The Luzum Or Alluzumiyyat

Introduction:

The luzum was the first poetical work to be completed after the “diwan”of “Seqtu-l-zend.” This we know from the introduction of “Al Luzumiyyat in which Abu-l-Ala apologizes for composing in verse after having already declared in” Seqtu-I-zend that he had given up poetry,” as a baby camel given up placenta and a baby- ostrich its shell.”

الترجمة:

“كان اللزوم أول مؤلف شعري أتمه أبو العلاء بعد ديوانه “سقط الزند”. عرفنا هذا من مقدمته في اللزوميات والتي اعتذر فيها لرجوعه إلي نظم الشعر بعد أن كان أعلن أنه ترك الشعر ورفضه رَفْضَ السّقْبِ غِرْسَهُ والرَّأْلِ تَرِيَكتَهُ” وشرح ذلك بأنه تركه مثلما يترك ولد الناقة الجلدة التي يولد بها علي رأسه، لأنها إن تركت قتلته وكما يترك ولد النعام بيضته.

وهذه ترجمه تروم الجمع بين المعنى كما يرد في السياق وبين السعي لملامسة الألفاظ وهو شبيه بلزوم ما لا يلزم، إذ كان يكفي القول إنه أعلن أنه قد ترك الشعر تركاً لا رجعة فيه، ولكن الحاذق المتمكن يهوى ركوب الصعاب وشق المفاوز.

وفي هذا قال أبو الطيب يمدح سيف الدولة وهو يلزم نفسه بما لا يلزمها من الصعاب:

أما تري ظفرا حلوا سوي ظفر تصافحت فيه بيض الهند واللمم.

والترجمة عمل شاق عويص أفرد المترجم شرحا دقيقا له، جدير بالقراءة أشار فيه إلي الفارق بين الكلمتينtranslation وinterpretation فالأولي تفيد النقل والثانية تفيد التفسير والشرح. يقول “إن الجذر اللاتيني لكلمة interpret يعني السمسار والوسيط، وواضحة هي الواشجة الدلالية بين معنيي (الشرح ) و( السمسرة) “. ويرى أن الأخيرة غدت تستخدم للترجمة الفورية وحدها لأنها قريبة في طريقة أدائها من معني الوساطة والتفاوض. ويخلص إلي أن الترجمان الحاذق كالممثل الحاذق إذ الممثل الحاذق ينسيك وأنت تشاهده أنه إنما يمثل، ويحدث فيك ما يشاء من الشعور، فكذلك المترجم الحاذق ينسيك وأنت تقرأ ترجمته أنها ترجمة فتقرأها وكأنها مكتوبة بهذه اللغة لا مترجمة إليها.”

وفي الختام لا أرى هذا المقتطف في المقارنة بين الممثل الحاذق والمترجم الحاذق إلا وصفاً للمترجم نفسه في ترجمته لهذا السفر المهم الذي يستحق حفاوتنا به وتقريظنا له، وأملنا في عطاء يتهاطل علي سوح الأدب كالغيث النافع (والغيث في الأصل مظنة النفع لا المطر) لا ينقطع.

 

تعليقات الفيسبوك