فى الحادى والعشرين من سبتمبر الماضى 2012 نشرت يومية (سودانايل) الإلكترونية ورقة للدكتور الطيب زين العابدين , أستاذ العلوم السياسية والكاتب والمحلل السياسى المعروف بعنوان “الديمقراطية التوافقية طريقنا للإستقرار السياسى.”
ولقد طالعت الورقة أكثر من مرة حيث إستهوتنى فكرة البحث عن طريق سلمى تحل به مشكلات البلاد سيما والبلاد مثخنة بالجراح ولم تزل تنزف دماء طاهرة زكية فى أطرافها الجنوبية الغربية والشرقية وفى غربها ايضاً بعد بتر ربع أو ثلث مساحتها الجنوبية إلتماساً لعافية لم تتحقق. والحرص على إلتماس الحلول السلمية واجب مقدس ومسؤولية تأريخية فى تجنب الطرق والوسائل العنيفة لحل المشكلاتالتى تدل كافة التجارب البعيدة والقريبة على أنها على الدوام ذات نتائج كارثية على البلاد والعباد خاصة إذا غلب عليها البعد الجهوى والعرقى بمراراته وضغائنه فالمؤكد أنها بتلك الصفات تثير مخاوف العرقيات والجهات ومكونات الشعب الأخرى. ذلك لأن تغيير النظام السياسى- وهو هدف قد يلتقى عليه جمع غفير من الناس بقطع النظرعن جهاتهم وأعراقهم ومعتقداتهم بسبب المسغبة والضيم وضيق العيش وهو هدف مشروع وحق يملكه الشعب متى أراد- يتحتم لتحقيقه الإبقاء على مؤسسات الدولة مهما اكتنفتها النواقص وإلا فإنها الفوضى العارمة والحرب الأهلية الشاملة خاصة وأن حملة السلاح قد أعلنوا بصريح القول إن أهدافهم الحقيقية ترمى إلى إعادة تكوين الدولة من جديد بهدم البناء القائم حالياً للدولة بمؤسساته المدنية والعسكرية وإعادة بنائها على أسس جديدة تمثل رؤاهم همفى السياسة وبسط العدل والمساواة. وتلك وصفة للإحتراب العرقى والجهوى فالذى ينتصر بحد السيف بهدف الهدم ثم البناء سيتولى -إن بلغ هدفه ومراده -عملية الهدم ثم البناء على مقاسه وبمواصفاته هو وإنْ عقد الإتفاقات قبل ذلك وأغلظ الأيمان برعاية المواثيق مع حلفاء له لا يحملون السلاح إذ لا يمكن للمجموعات الأخرى الرهان على صدقيته فى إحترام ما عقد الأيمان عليه والمجازفة ببقاء الوطن و الأرواح و الأعراض والممتلكات ثمناً لشعارات مهما بلغت من النبل والجاذبية.وشواهد التأريخ والسياسة شاخصة لا تحتاج إلى تبيان. ومناخ الفتنة لا يقدر على التنبؤ بمآلاته أحد وآلات القتل والدمار الحديثة لا تحتاج إلى شجاعة الشجعان إنما تنطلق بالموت حتى بالضغط عليها من أنامل الأطفال. والمسنون أمثالنا يذكرون جيدأً كيف جرفت الفتنة الهوجاء أبناء الذوات والأكابر المنعمين من أبناء لبنان المقبلين على الحياة فى عنفوان فى الشوف وزغرتا والجبل فى سبعينيات القرن الماضى فامتشقوا الحسام فهجروا الشواطئ الحالمة والصالات المكيفة العبقة بالطيب والعنبر وعانقوا رهج السنابك وغبار البارود يطلبون الموت كأنهم فصائل من الجن لم يعرفوا نعمة ولم يتمرغوا يوماً فى نعيم يذبون عن دورهم وأهليهم يدفعون عنهم غائلة العداء من بنى جلدتهم! ثم إن الصنيع العنيف يستبدل الرؤية الأحادية المتهمة بإلغاء الآخر بأخرى منذات الشاكلة أى , “هرقل بهرقل” كما أن فاقد الشئ لا يعطيه.
وأحسب أن الدكتور الطيب قد تناول بموضوعية أسباب فشل النظم المدنية والعسكرية الشمولية على حد سواء فى إقامة نظام سياسى مستقر يقوم على دولة المواطنة التى يتساوى الناس فيها فى الواجبات والحقوق. وأحسب أنه أيضاً قد أصاب فى إلتماس نظام ديمقراطى مدنى يعالج التفاوت فى حظوظ الأقاليم المختلفة من التنمية بإشراك الناس جميعاً فى السلطة والثروة بتدابير إتحادية تتيح فرصاً متساوية و قدراً معلوماً يتفق عليه- وفق معايير موضوعية تضع فى الإعتبار مستوى التفاوت وحجم السكان ونحو ذلك-فى إدارة شؤونها الداخلية والتعبير عن خصائصها الثقافية بما لا يفت فى عضد الإنتماء للمكونات الجامعة للوطن مع تمكينها من المشاركة بقدر معلوم فى السلطةعلى المستوى الوطنى الإتحادى أيضاً.
وقد رأى الدكتور الطيب فى الديمقراطية التوافقية سيبلاً لتحقيق ما ظلت بلادنا تصبو إليه من الإستقرار السياسى منذ أن نالت إستقلالها من المستعمر. ولقد حفزنى هذا الطرح إلى مزيدمن القراءة فى”الديمقراطية التوافقية”. وقد تمنيت كما تمنى هو فى نداء أطلقه أن يتناول الناس طرحه بالنقاش. وها أنذا أحاول فيما يلى من سطور:
كما اشار الدكتور فإن الديمقراطية التوافقية جاءت كترياق لما سمى بطغيان الأغلبية فى النظم الديمقراطية البرلمانية فى البلاد النامية المتعددة العرقيات والديانات بما يتيح للمجموعات المختلفة التى تضم تلك العرقيات والديانات التى تعيش فى وطن واحد , المشاركة فى السلطة ونيل نصيبها من الثروات أيضاً وتنتفى بالتالى دواعى الإحتراب الداخلى والشعور بالغبن والتهميش فيتحقق الإستقرار.
وقد حدد البروفسور الأمريكى (لجيبهارت) الذى نظّر و روج لهذا النوع من الديمقراطية متأثراً بتجربة هولندا وبلجيكا وسويسرا خصائص هذه الديمقراطية التوافقية فى : 1- قيام حكومة تحالف عريض فى سياق الديمقراطية البرلمانية. 2- أن يكون للأقلية حق الإعتراض على السياسات (الفيتو) على القرارات. (بالطبع التى تخصها) أو أن تتخذ القرارات بالتراضى.3- يقوم الحكم على قاعدة التمثيل النسبى. 3- تتمتع الأقاليم بحكم ذاتى.
ويشير إلى ظروف إن توفرت تضمن نجاحاً أكبر لهذا النوع من الديمقراطية هى:-1- توفر توازن للقوى بين المجموعات المختلفة.2- إنبثاث أفراد المجموعات المختلفة وجوداً على كافة مستويات السلم الإجتماعى والإقتصادى للمجتمع (أى فى الخدمة العامة والعسكرية وكافة مستويات الحكم والإدارة).3- توفر ولاء تام وقوى للدولة( أى يفوق الولاءات الجزئية للقبيلة أو الجهة أو المجموعة.) 4- أن يكون البلد غنياً صغير الحجم والمساحة.
وقد تعرضت النظرية للكثير من النقد . فعلى مستوى النظر عيب عليها إفتراض سيطرة النخب التامة على المجموعات المختلفة وهو إفتراض نظرى حيث كثيراً ما يحتدم الخلاف على أرض الواقع فى داخل المجموعة الدينية أو العرقية بما قد يفضى إلى التشرزم والإنشقاقات ورأى آخرون أنها تقدح فى أصل الديمقراطية القائم على رأى الأغلبية كما رأى طرف ثالث أنها تكرس وتقنن الإنقسامات العرقية أو الدينية داخل البلد الواحد وتعيق الإنصهار المطلوب بين مكوناتهوعاب عليها آخرون إغفال الطبقة الإقتصادية والإجتماعية كوحدة بينما حصرت الوحدة فى الإنتماءات العرقية. ومن الإنتقادات ايضاً أن النظرية قد أغفلت العوامل الخارجية الإقليمية والدولية وأثرها على نجاح وفشل التجربة.
وعلى مستوى الإنتقادات للتجربة العملية فسأشير لأكثر من دراسة هنا. أولاها ورقة الباحث ( داركو أنجلوف) التى أعدها عام 2004 تحت عنوان ” مشكلات التوافقية من لدن هولندا إلى مقدونيا”.
أشار فى البداية الى نجاح التوافقية فى هولندا ونجاحها الجزئى فى بلجيكا وفشلها الذريع فى قبرص وتعثرها حالياً فى مقدونيا حيث تبدو الأقلية الألبانية وكأنها ترنو ببصرها تلقاء كسوفو( ذات الأغلبية الألبانية) وتبدو زاهدة أصلاً فى إنصهار فى موطنها مقدونيا. ويشير فى هذا الموضع إلا أن التوافقية قد أغفلت هذا الإحتمال, إحتمال أن تكون إحدى المجموعات العرقية أو الدينية ليست راغبة أصلاً فى الإندماج أو التعاطى مع المجموعات الأخرى.
ويبتدر التحليل بهولندا التى يقول إن التوافقية التى اعتمدت فيها فى خمسينيات القرن الماضى قد نجحت نجاحاً لا نظير له (وهو ما دفع لجيبهارت لبلورة والتنظير لها). ويعزى ذلك النجاح إلى أن هولندا متجانسة من الناحية العرقية ما عدا منطقة صغيرة فى شمال غرب البلاد تعرف تاريخياً ب (فريزلاند) ولها لغة خاصة بها. لكن التنوع الذى استوجب إعتماد التوافقية حتى عام 1960 كان فى الدين إذ أنها تضم كاثوليك وبروتستانت. يقول واليوم لم يعد للفوارق الدينية بين المذهبين المسيحيين وبينهما وبين العلمانيين أى أهمية وغدا المجتمع متجانساً ولم يعد منذ الثمانينيات ضرورة للإستمرار فى الديمقراطية التوافقية. ويرى أن من اسباب النجاح أيضاً أن هولندا من دول الرعاية الإجتماعية بالإضافة إلى ثرائها. أما فى حالة بلجيكا فالتوافقية لا زالت صامدة لكنها تواجه صعاباً جمة حيث تتقاسم أرض المملكة مجموعتان يجمعهما دين واحد هو الكاثوليكية وتفرقهما اللغة والثقافة. هما الفلمش وأقلية المالون التى تتحدث الفرنسية. يقول إن التوافق على القضايا وتمرير القرارات ظل أمراً فى غاية الصعوبة. ويعزى تلك الصعوبات لحداثة الدولة فى بلجيكا مقارنة بالإرث الهولندى الطويل ولوجود مجموعتين فى بلجيكا لا يتحدثان ذات اللغة ولا يتساكنان.ثم تناول بعد ذلك تجربة التوافقية الفاشلة فى قبرص نظرا لإنتماء المجموعتين اليونانية والتركية لبلدين اتسم تاريخهما بالعنف والدماء هما تركيا واليونان بالإضافة لإختلاف الثقافة والدين. أما فى مقدونيا-يقول- فمنذ إعتماد التوافقية فى عام 1990فإن مبدأ منح الأقليات حق النقض قد عطل التداول داخل أروقة الحكم حول القضايا واصاب فاعلية الحكومة فى مقتل وعوضاً عن أن يحقق مبدأ التمثيل النسبى العدالة فى حظوظ جميع الأقليات من حيث مشاركتها على مستوى التمثيل السياسى وحظوظها فى الخدمة المدنية وفى المخصصات المالية والتنموية, فإن التمثيل النسبى فى مقدونيا كما هو الحال فى سواها فى المجتمعات المتعددة الثقافات والديانات قد جعل هذه الأقليات هى التى تحدد السياسات لا على مستوى مناطقها وحسب – وهو غاية إعتماد التوافقية- بل على المستوى الإتحادى أيضاً كما تحول مفهوم الأنصبة المتساوية إلى نظام (كوتات) أفضى إلى زيادة وتيرة وتكثيف التمايز العرقى و الإثنى. وخلص إلى أن التوافقية لن تكون وصفة صالحة ما لم تتحلى قيادات النخب فى المجموعات العرقية والدينية فى الدول المتعددة العرقيات والديانات بالعزيمة والإخلاص فى إنتهاج التوافقية كتجربة ديمقراطية هدفها توحيد الدولة وجعلها أكثر تجانساً فى نهاية المطاف.
وحول تجربة التوافقية فى لبنان كتب الأستاذان بالجامعة الأمريكية فى بيروت : سمير مقدسى وماركوس ماركتانر ورقة أكاديمية بعنوان ” فى مصيدة الديمقراطية التوافقية—لبنان مثالاً”. وخلصا إلى أن التوافقية التى إعتمدت فى لبنان منذ الخمسينات لإشراك ثمانية عشر طائفة دينية فى إدارة البلاد قد كرست ما جاءت للقضاء عليه وهو الطائفية السياسية وفشلت فى منع الحرب الأهلية التى استمرت 16 عاماً . ورغم التعديلات التى طرأت على الصيغة الأولى للتوافقية عام 1989 فقد ظلت الدولة ضعيفة وعاجزة عن تطبيق برامج سياسية وإدارية فعالة. واعترفاً بفضيلة للتوافقية فى لبنان, هى نجاحها فى قسمة السلطة الطائفية التى خلقت مناخاً من حرية التعبير والتعددية الإعلامية والمداومة على إجراء الانتخابات البرلمانية بنجاح. وخلصا. إلى أن التوافقية تصلح كتدابير إنتقالية فى دول متعددة الثقافات تفضى فى النهاية إلى كيانات أكثر تجانساً.
وفى إفريقيا أشارت الدراسة إلى فشل هذا الأنموذج فى منطقة البحيرات العظمى وإلى عثرات صاحبت تطبيقه فى البداية فى جنوب إفريقيا حيث استعر الجدل بين شعب الزولو فى الشرق الذى تمثله حركة إنكاتا وبين المؤتمر الإفريقى من جهة وبين أقلية الأفريكانا البيضاء.
وأنوه هنا إلى أنى لم أشر بالقدر الكافى إلى العوامل الخارجية والإقليمية التى أدت لفشل التوافقية فى بعض البلدان مثل وجود لبنان فى منطقة ملتهبة فى الشرق الأوسط ووجود مقدونيا فى منطقة البلقان التى ظلت لقرون ساحة إقتتال وكذلك منطقة البحيرات فى إفريقيا. والشاهد أن الجيوبولتيك تساهم سلباً وإيجاباً فى نجاح هذه الوصفة وهو عامل لا ينبغى إغفاله..
رغم هذه الملاحظات فإنى أرى أن المرحلة القادمة من تاريخ السودان هى كذلك مرحلة إنتقال. صحيح أنه أمر مؤسف أن نظل فى حمى التجريب بعد أكثر من نصف قرن من الإستقلال. نعم إنها مرحلة إنتقال بحكم حقائق جديدة على الأرض تتمثل فى أن شطراً مقدراً من مساحة البلاد قد ذهب وذهب معه ربع سكان البلاد هو جنوبها. ومع ذلك لم يتحقق السلام وبقيت أطراف أخرى تشتعل .نحن بحاجة إذاً إلى مرحلة إنتقال قد تحقق فيها التوافقية قدراً من الإستقرار يضع البلاد على سكة الإنصهار الذى قد يتحقق بعد أجيال. ذلك خير بلا جدال من أن يضيع الوطن كله. وعليه فإن فى التوافقية التى طرحها الدكتور الطيب زين العابدين تحتوى على عناصر هامة يمكن أن تنهى حالة الإحتقان الحالية وتدخل الأطراف التى تشكو التهميش إلى دائرة الفعل السياسى السلمى والإستجابة لأشواق تتمثل فى خصوصيات ثقافية ولغوية هناك.
لذلك فإنى أدعو الأطراف كافة للنظر فى تحويل ورقة الدكتور إلى أرضية يجرى التداول حولها للخروج بصيغ مرضية تحقق هدف الجميع فى إنتقال سلس إلى نظام مدنى ديمقراطى يحقق أشواق الجميع. لقد طرحت جهات عديدة نداءات عديدة للحوار الوطنى لكن من العجيب أنه لم تبلور أى جهة من تلك الجهات ورقة للحوار ولم تقترح إقتراحات عملية لآليات لإدارة الحوار. بإمكان أى حزب من الأحزاب المسجلة وغير المسجلة أو الجامعات أو مراكز البحوث أن تنظم لقاءات للتحاور حول الورقة والخروج بصيغة تشبه أوضاع السودان تقوم على مبادئ التوافقية فى التمثيل النسبى وحقوق النقض للأقليات والحكم الإتحادى الحقيقى وإقتسام السلطة والثروة. وإذا تحقق هدف الوصول إلى إتفاق يجب بلورة ميثاق ملزم للفرقاء ولمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية يحدد بمدى زمنى يمتد لعقدين من الزمان تقوم الحياة السياسية خلاله على الميثاق المتفق عليه أو على مبادئ دستورية مؤقتة و أن ئؤجل النظر فى وضع دستور دائم إلى ما بعد فترة الإنتقال حيث يكون القدر المتحقق من التجانس قد أتاح بالفعل الإحتكام إلى دستور يرضى به الجميع أو غالبيتهم الساحقة فقد علمتنا التجارب السابقة أن العجلة فى وضع الدساتير تزيد الشقاق بين مكونات المجتمع وتجعل الدستور دائماً- وأحياناً ديمومة على الورق فقط- لسنوات قلائل ريثما يتم الإنقضاض عليه وإبطال العمل به.والظروف الإستثنائية التى يمر بها الوطن تحتم بذل الجهد لتقوية البناء الوطنى وحشد طاقات ابنائه للحفاظ على حدوده الحالية وذلك أوجب عقلاً وديناً من تبديد تلك الطاقات فى الإختلاف على النهج الذى يحكم به.
والحالة السودانية ليست حالة مستعصية على الحل إلى هذا الحد الذى يتصوره البعض. فالإنقسام فى الحالة السودانية جهوى أكثر منه عرقى ولا يوجد إنقسام دينى حيث تبلغ نسبة غير المسلمين اقل من ثلاثة فى المائة. والإنقسام الجهوى ليس عرقياً فسكان السودان جميعاً إن كانوا عرباً أو غير ذلك تجرى فى عروقهم دماء إفريقية فهم بهذه الصفة أولو قربى بالدم لا بالجوار ولا بالثقافة ووشائج الدم مظنة التراحم والمودة والتمازج على المدى البعيد.والحروب الدائرة فى أطراف الوطن حالياً تغرس الأحقاد وعوضاً عن تشد الدماء المشتركة ابناء الوطن الواحد توشك أن تصبح دماء تطالب بالثأرات تورث الضغائن والأحقاد وتجعل تقسيم البلاد وراء الأعراق والجهات هو المصير المحتوم. والسودانيون عرباً كانوا أو غير عرب يتحدثون العربية بنسبة قد تصل إلى تسعين بالمائة بما يجعلها لغة جامعة كأمر واقع لا سبيل إلى الإلتفاف عليه لكن ذلك لايمنع فى إطار التدابير الإتحادية رعاية اللغات والثقافات الأخرى الموجودة فهى ميراث يثرى الثقافة المشتركة. أما الإنقسام الجهوى فقد تغذى من التفاوت فى الحظوظ فى التنمية والوظائف وهو مقدور على معالجته بالتدابير الواردة آنفاً. أما الذى يراهن على الثورة عبر العنف فعليه أن يجيل الطرف فى الجوار العربى والإفريقى ليرى مآلات ذلك الخيار القتّال الهدام.
صحيح هناك إشكالية كبيرة فى تحديد المجموعات والمكونات التى ستقوم عليها التوافقية؟ هل ستكون على أساس عرقى؟ وقناعتى أن العرق لا يشكل مشكلة كما ذكرت آنفاً, ولا يعتد بالتحامل الجهوى اللفظى الموجود على إمتداد المعمورة وفى كافة المجتمعات البشرية نامية كانت أم متقدمة .كما أنه لا يوجد تباين دينى لكن يمكن للأقلية المسيحية أن تمثل فى إطار التمثيل الولائى ذلك لأن قناعتى أن أس البلاْء هو التفاوت فى التنمية بين الولايات وفى المشاركة فى السلطة لذلك لزم أن تكون التقسيمات ولائية. توجد إشكالية أخرى هنا وهى أن الولايات تضم قبائل وبطون قبائل مختلفة لها زعاماتها ونخبها فيثور السؤال كيف نضمن تمثيل أولئك أجمعين فقد تتفاوت جهات الولاية الواحدة أو الإقليم فى حظوظ التنمية حيث سيظل الإحساس بالتهميش ماثلاً حتى فى الولاية الواحدة؟ قد تجد مثلاً مناطق فى ولاية الخرطوم أقل حظاً من الخدمات الضرورية من منطقة فى ولاية طرفية؟لا أملك إجابة شافية هنا . لكن يمكن أن تفتح التجربة الباب لقيام أحزاب سياسية ولائية كما هو الحال فى الهند تضم عضويتها أعراقاً وقبائل مختلفة يضمها الحرص على تطوير الإقليم وأن ينال حظه فى قسمة السلطة والثروة فتتراجع المشاعر القبلية والعرقية. وهذه الأحزاب تتحالف مع الأحزاب القومية ذات الإمتدادات العابرة للجهات والأقاليم حسب مقتضيات التحالفات. والإنتخابات الحرة النذيهة هى التى تحدد أنصبة المشاركات كما فى النظرية. وبهذا التدبير نتحاشى تكريس العرق والقبيلة عبر التوافقية.
والخلاصة أن هذه السطور ليست وصفة دقيقة للحل لكنها دعوة للنقاش حول الورقة والنظر فى إتخاذها أرضية لحوار شامل وجاد لوقف نزيف الدم وحماية البلاد من المزيد من التقسيم والتشرزم.
ورقة الدكتور الطيب زين العابدين حول الديمقراطية التوافقية أرضية للحوار الوطنى؟ ..
0