استميح القراء والقارئات عذرا فى اختيار هذا العنوان الجارح للشعور و المصادم ما ينطوى عليه من دلالة, للذوق السليم والفطرة السوية. والحق أنه أشق على مثلى ممن فقدوا الأبوين باكرا فى حياتهم حيث أنهم يملأؤون ذلك الفراغ العاطفى بغير قليل من الخيال الذى يصور طبيعة تلك العلاقة بين الأبوين والذرارى بأنها فى صفاء اللبن وحلاوة العسل . والحق أنها ليست دوما كذلك والا لما حمد الناس لمن يصطبر عليها جمال البر وحسن العرفان. ومما رسخ فى الذاكرة من فرط الحزن والاستنكار قول القائلة شعرا تشكو عقوق ابنها:
غدا يمزق أثوابى ويضربنى أبعد شيبى يبغى عندى الأدبا
وجميل غناء عثمان اليمنى:
سعيد العيشتو جم طينو وتمرتو
يقلع منو يزرع فى حفرتو
يطاوع والدو يستحمل نهرتو
ويخالت جارو بى شاى وكسرتو
ومعناها لغير السودانيين( السعيد من بقى فى كنف عشيرته –لا مغتربا بعيدا عنها- مزارعا أو فلاحا على أرضه وأطيانه بجوار أبيه يصطبر على ضجره وغضبه وانتهاره له أحيانا مخالطا جيرانه بكسرة الخبز وأقداح الشاى.)
فالعلاقة فيها ( النهرة) والتقريع وربما الضرب أحيانا والرجل (المولود المضروب) على كبر. أما الأم فشأنها آخر فهى ( فيض الحنان الما كمل) فى عبارات السرعثمان الطيب التى تذوب رقة فى ( شوفى الزمن يا يما ساقنى بعيد خلاص).
والتراث الدينى الابراهيمى المشترك معظم ( بتشديد الظاء وكسرها) لشأن الأبوين. حدثتنا أستاذة مرموقة من جنوب الولايات المتحدة قبل عقود خلت أنهم تعلموا فى صغرهم أن من مد سبابته الى أحد أبويه مغاضبا فان تلك السبابة تتسمر ثم تسقط فيفقد الجانى اصبعا من كفه ! فكيف بالله عليكم لوأنه استخدم الكف كلها ليسدد صفعة قاسية لأبيه؟
ورغم اعتذارى الذى ابتدرت به هذه السطور فاننى لست الذى اجترأ هذه الجرأة المدوية فاخترع هذا العنوان المثير الخطر. فعلى غنى الذهن والوجدان بالخيالات والأخيلة الا أنه لم يدر بخلدى أن أجعل مثل هذا العنوان دالة على مقالة لى وانما الذى صنع ذاك هو الصحافى الأمريكى صاحب العمود الراتب فى يومية ” نيويورك تايمز” نيكولاس كريستوف!
وتقتضى الأمانة بعض التوضيح فالترجمة الحسنة لعنوانه هى
” هل سيكون بامكانك أن تصفع أباك؟” وأشار فى ثنايا المقالة التى حملت ذلك العنوان الى توضيح أكثر فقال: نعم ” هل بامكانك أن تصفع أباك على وجهه بموافقته فى سياق وصلة كوميدية؟ فالأمر كما ترى ينطوى على التمثيل والدعابة و( الهزار)لاستثارة الضحك فى وصلة كوميدية . لكن الرجل جعل العنوان الصارخ مقدمة لحديث موغل فى الجدية والحزم. وزاد على التساؤل الغريب تساؤلا آخر من جنسه : وهل يثير تقززك ان مست يدك حنفية المياه فى مرحاض عام تغشاه جمهرة الناس؟
أوغل بعد ذلك فى عالم الجد الذى لا يعرف الهزل بالتقرير أن الدراسات دلت على أن الأشخاص المحافظين غالبا ما يشقون بكل فعل يرونه مسيئا للسلطة, أى سلطة كسلطة الوالدين مثلا وبالتالى فليس واردا البتة لديهم التفكير فى حالة يصفع فيها الولد أباه ولو على سبيل المزاح بينما الليبرالى وهو نقيض المحافظ ( والليبرالى فى مصطلح السياسة فى أمريكا تعنى المتحرر وهو ” فى الحسبة كما نقول ” يقع دوما على يسار المحافظ) يمكن أن يصفع أباه بعد أخذ الاذن منه كما تقدم. واستطرد الكاتب قائلا ان المحافظ فى الغالب عيوف (عواف حسيا) سرعان ما يعتريه الشعور بالتقزز والغثيان فاذا شرب من كأس وعلم بعد ذلك أن شخصا ما ولو كان من معارفه قد شرب منها , شعر على الفور بالتقزز و(الطمام) .ٌان هذا الشخص يكون فى الغالب محافظا فى مجمل حياته .ويضيف قائلا : ان بيت القصيد هنا هو أن اختلاف المحافظين والليبراليين لا يقف عند حد اختلاف الأفكار لكنه يتعداه الى اختلاف العواطف والأحاسيس. ويرجح أن يكون الأمر نتيجة لاختلاف فى التكوين العصبى لديهما! ولما كان الكاتب ليس مختصا فى علم النفس أو فى علم الفسيولوجيا فقد سارع لدعم مزاعمه بشهادات أولئك مشيرا الى أنه سبق أن كتب عمودا تحت ” أنا .. أنا .. ويوميا” ينعى فيه ذاتية التناول, أشار فيه الى اعتقاده بأن الغالبية منا تسرع الى استخدام (الانترنت) لا بحثا عن معلومات جديدة توسع مداركنا وانما فقط للبحث عن معلومات و حجج تعضد رؤانا المتحيزة للأشياء!واقترح فى تلك المقالة لمعالجة هذا التعصب المقيت أن نخصص وبصفة يومية وقتا لجدال حبى هادىء مع مخالفينا فى الرأى والايديولوجيا. قال: اتصل به البروفسور أستاذ علم النفس جانثون هاديت من جامعة فرجينيا ليقول له ” انك قد أصبت التشخيص لكن و صفتك للعلاج خاطئة” ذلك لأن مجرد مواجهة المخالف بجدال مناقض لقناعاته لا يحل الاشكال القائم بل قد يؤجج العداوة والبغضاء. وأكدت ذات المقولة الأستاذة دايانا موتز من جامعة بنسلفانيا.
واستطرد السيد نيكولاس حديثه قائلا ان الليبراليين والمحافظين يبنون قناعاتهم وأحكامهم عبر حدس عابر لا نتيجة لتداول منطقى وعقلانى يمر بمراحل تفكير عبر الدماغ. وأضاف أن مصدر هذه الأحكام الحدسية يأتى من منطقة فى الدماغ متخصصة فى النظر للأشياء من الزاوية الأخلاقية وليست العقلانية . ويدلل على ذلك بأنه اذا أصاب هذه المنطقة من الدماغ تلف فانه رغم أن درجة الذكاء قد لا تتأثر الا أن المصاب يصعب عليه بعد ذلك التحليل النقدى العقلانى للأشياء.
ويستطرد الكاتب بأن الخط الفاصل بين اليمين واليسار أى المحافظين والليبراليين يكمن فى أن القيم الأخلاقية مستقاة لديى الليبرالى من مشكاة الانصاف ومنع الضرر. أى أنه يقايس الأشياء والخطأ والصواب وفقا لذلك بينما يستقى المحافظ قيمه من الاستمساك باحترام السلطة ( بمعناها الواسع المتقدم وليس المقصود هنا الحكومة أو سلطة الدولة تحديدا) والولاء لها ومصدر التقزز لديه ينبع من الاساءة اليها. كيف؟ يقول ان التقزز والشعور بالغثيان هو آلية يحمى بها الانسان صحته من الأمراض. يقول ان بعض علماء النفس قد تجاوزوا به هذا الجانب الحسى فطبقوه على الجانب الاجتماعى من السلوك البشرى بمعنى أنه آلية يحتمى بها المحافظ مما يراه خطرا على منظومة القيم التى يسعى للحفاظ عليها. ولم ينس الاشارة الى أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذى يصيبه الشعور بالقرف! واستعان مجددا بتجاريب العلوم ليدلل على لا عقلانية التصورات التى تستند عليها حرب الرؤى فى كثير من الأحيان وأن مصدرها (حدس) سريع بتجربة للتنويم المغناطيسى أجريت فى احدى الجامعات.
وتساءل: كيف نروض عقولنا حتى تصبح أكثر انفتاحا وأكثر صدقا وأكثرخضوعا للتجربة ؟ وأجاب على التساءل الذى طرحه بالقول:ان تجسير الهوة بين الأضداد يتم تدريجيا بالاقتراب من المعتدلين فى المعسكر الآخروأفضل طريقة لذلك هى مؤاكلتهم حتى نكسر معتركات ” نحن فى مواجهة هم أى الآخر” المغروسة فينا. ويقتبس هنا مقولة البروفسور هاديت المتقدم ذكره: ” ان العقول من أصعب الأشياء التى يمكن فتحها وأفضل وسيلة لفتحها تتم عبر القلوب. ان عقولنا ليست مصممة لاكتشاف الحقيقة عبر التطور لكنها مصممة للعب الأدوار الاجتماعية” اى المفضية عبر التجارب للتواصل الانسانى.
ويختتم الكاتب مقالته بأن الاقناع يتم عندما ينبنى على التعاطى الانسانى وأن أكثر ما يقربك لمن يخالفك الرأى هو اقرارك بأن لديه انشغالات مشروعة لأن ذلك يحفزه للتعامل معك بالمثل بالاقرار بأن لديك أنت ايضا انشغالات مشروعة.
قلت… ترى كم نحن بحاجة لاطراح الانطباعات المسبقة عن الخصوم والمتراكمة عبر الحقب حتى غدت شواهق تحجب الرؤيا والأكسجين , والتحلى بالشجاعة الكافية للتواصل فيما بيننا. ستبقى رغم ذلك فواصل نتغلب عليها حبيا ودون ضغائن عبر ما نحن مقبلون عليه من التحول الديمقراطى