و حول لغو الشتاء ,قال صاحبى ليس فى بلادكم من شتاء إنما صيف قاتل وصيف قاس وصيف يستريح فيكف بعض لظاه عنكم لأشهر قلائل تمتد بين نوفمبر وفبراير ينظر كيف تصنعون أوان راحته. ثم قال : ذاك ليس بشتاء فأبحثوا عن اسم أو كنية لائقة به! قلت إن فى المجاز مندوحة عن ركوب الصعاب واختراع الأسماء والكُنى. وحكوا أن سودانياً عاد الى مهجره بعد عطلة قضاها فى السودان فسأله أصحابه عن كل شىء فى السودان فأجاب وأفاض الى أن أكثر عليه أحدهم يسأله عن حال الطقس وهو يتحاشى الإجابة عليه كون السؤال فى البدهيات كما يراه هو,فانفجر فى النهاية مغاضباً ” يا خى طقس شنو؟ نحن عندنا طقس؟ ما حداشر شهر صيف وواحد رمضان!” وقالوا رمضان مشتقة من الرمض وهو شدة وقع الشمس على الرمل والأرض وغيره ومنه الرمضاء. وقد قالوا:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
وحول “أسمع … وأسمعى” كنت قد كتبت مقالة بعنوان “أسمع يا زول ” عام 1977 أو الذى تلاه فى مجلة “وأحة المغتربين” التى أصدرها الأستاذان كمال ومحجوب عروة خدمة للمغتربين ضمن عمل تجارى وقد ترأس تحريرها الأستاذ سيد الخطيب. والذى حملنى على كتابة ذلك المقال تبرم المغتربين السودانيين الذين توافدوا يومئذ بالألوف على بلاد الخليج من مناداتهم من قبل مضيفيهم فى تلك البلدان بعبارة “يا زول”. أشرت فى تلك المقالة الى أننى بعد البحث والتقصى فى المعاجم العربية ومنها “لسان العرب” و”الوسيط” وجدت أن كلمة ” زول” من فصيح ما تكلمت به العرب فى غابر أيامها وأنه من عين معانيها الحميدة مثل الظريف والشجاع المعنى الذى نستخدمه تماماً فى السودان وهو مطلق ” الشخص” ومنها المؤنث “زولة”. وأنه لا معنى للتبرم منها وأشرت الى أن كلمة “زلمة” الشامية هى الأخرى من الصحيح الذى حوت القواميس. وقارنت فى تلك المقالة الكلمة التى نستخدمها لتسبق النداء وهى “أسمع” بالكلمة أو العبارة التى يستخدمها أهل الحجاز يبتدرون بها النداء وهى “أقول…” ولا بد من الإعتراف أن كلمتنا “اسمع” جافة و عارية من كل زينة وأنها من طينة الضجر الملازم لنا ابداً. ويستخدم الفرنجة عبارة ” عذرأً” أو “عفواً” يستهلون بها النداء ومثل ذلك يفعل الاخوة فى شمال الوادى. وفى الجزائر يجعلون اسم المصطفى (ص) اسماً لكل مسلم لا يعرفون اسمه فينادونك “سى محمد!”
ومما أثار دهشتى مما وقفت عليه فى بحثنا ” أشتات فى العامية السودانية مجتمعات فى الفصحى” فصاحة قولنا “هناى” لمن نسينا اسمه أو أحجمنا عن ذكره ” يا هناى”. ويبدو لى أن استخدامها قاصر على السودانيين دون غيرهم وأصلها فى الفصحيح من “هن” بفتحتين وهو الشىء تقول( هذا هنك) أى شيئك ومنها “هناة” . يقول القائل مثلما نقول : “يا هناة “. وقد وردت فى بيت لأمرىء القيس اشرنا اليه فى موضعه.وقد اشتهر رجل نعرفه باستخدامها و بالتوسع فى ا لاشتقاق منها حتى عرف بذلك : ” يا ولاد لا تَهَنوا” ” والحكاية بقت مَهَنية فى مهنية! ”
وقد وقفت كثيراً بحثاً عن أصل كلمة (ضرا) فى عاميتنا: وفى غناء على ابراهيم اللحو جاء فى احدى رمياته الرائعات:
العاتى يا جبل الضرا
كانت جداتن يقلن لنا “أدخلو فى الضرا” وقد اهتديت الى فصاحتها التى فارقت عاميتنا بحرف واحد هو الذال فهى فى الفصيح (الذراء) بالفتح. كل ما استذريت به. يقال أنا فى ظل فلان وفى ذراه أى فى كنفه وستره كما جاء فى مختار الرازى (لاحظ عندنا : فى ضراه). وكل الفرق أننا نقلب الذال ضاداً كما نفعل تقريباً فى كل ذال ومثل هذا الاقلاب شائع عند العرب وحتى قلب القاف غيناً شائع عند غير السودانيين فى قطر وفى أجزاء من العراق والكويت وشرق سوريا. وقرأت هذيل من التنزيل (عتى اذا استيأس الرسل) تريد (حتى). وقرأ غيرهم : ” وجعل ربش تحتشى سرياً”.
و( العاتى) فى أغنية( اللحو) فصيحة وأصلها المجاوز الحد فى الاستكبار وفى سياق الأغنية المجاوز للحد فى القوة والمهابة.
واسترعت انتباهى كلمة (دغيل) فى عاميتنا ويراد بها الغامض بعيد الأغوار فى خبث. فوجدتها من (الدغل) وجمعها( أدغال) وهى الشجر الكثيف الذى تخفى على العين مكنوناته من الدواب والشجر فتدخل مجاهيله الرعب فى النفوس فكأنما تخشى بوائق من اتصف بهذه الصفة فهو ( دغيل). ومن معان الدغل الفساد ايضاً.
وذكر البروفسور الراحل عبد الله الطيب فى برنامج” سير وأخبارأ” أن الجاريتين اللتين امتنعتا عن الغناء فى بيت عرس عند دخول النبىء (ص) عليهما فأشار اليهما بمواصلة الغناء إنما كانتا تغنيان بغناء شاع فى الجاهلية كانت تغايظ به النسوة قريبات العروس أقرباء العريس. وذكر طرفاً من ذلك رحمه الله مشيرا الى أنه قد شاع فى السودان مثل ذلك. فذكرنى ما قال بغناء قاسٍ مثل ذلك يشبه حز الرقاب بالمدى لا يليق بمناسبة سعيدة كالعرس لكنه قيل فيها تردده احدى قريبات الحسناء سعيدة الحظ تغايظ به أهل الزوج:
أمك تطير حِديّة
أختك تتقص فِتيّة
وسجل حوشو ليا
والأخرى كانت أكثر رفقاً وأوفر كياسة وهى تقود زفة قريبات العروس الى عريسها:
الليلة جينا وكية للمابينا
الليلة يوهى يا بلالى يوهى!
وسمعنا من أجيال سبقتنا فى حجرات الدرس أن معلميهم من الأشقاء المصريين فى مواد اللغة والأدب العربى كانوا حين يجهدون النفس فى شرح ما يرد من أسماء النبات وغيرها فى الشعر العربى القديم, يعمد أحد الطلاب الى البرية ليعود لحجرة الدرس حاملاً نبتة (المرخ) أو (الطلح) او العشر التى يعرفها أهلنا دون عناء بذات الأسماء.
وكنت أظن لبعض الوقت أن (الرحط) الذى كانت تتزيأ به الحسناوات قبل الزواج فى أرياف السودان المختلفة قريب النسب من البعد الإفريقى لثقافتنا حتى وقفت عليه فى المعاجم العربية بذات الوصف (سيور من الجلد) كانت تصنع للصغاروتسمى (رهط) بالهاء فعلمت أنه كان من صميم لباس العرب. و لمن لا يعرفه نحيله الى صورة الجميلة المثبتة على قنينة عطر ” بنت السودان”!
كل ذلك جعل البروفسور يستخلص من شيوع الكلمات القديمة و بقاء العادات القديمة التى شاعت فى جاهلية العرب بين أهل السودان حتى اليوم أو أمسهم القريب, دالة قوية على أن هذا البلد يعد وطنأً أصيلاً من أوطان العرب فى بعض نواحيه قبل الهجرات العربية الكبرى اللاحقة التى حدثت بفعل عوامل سياسية شتى وربما ايكيولوجية أيضاً وكأن بعضها كان كالعود الحميد. بل يذهب لأبعد من ذلك بالزعم أن العرب ربما انتشروا من بوادي أواسط هذاالسودان الخصيبة الفسيحة الى غيره.
وعلمت مؤخرا أن كلمة (نيل) و(نيلة) تعنى فى اللغة الهندية اللون الأزرق. لا أدرى ان كان العرب قد استعاروا هذه الكلمة من الهنود بعد أن أخذت بألبابهم زرقة النهر العظيم الذى هام ببلادنا حباً فأطلقوا عليه اسم (النيل). وقيل إن قدماء المصريين استخرجوا (النيلة) من قاع النهر لاستخدامها فى تلوين رسوماتهم ونقوشاتهم وربما أزيائهم. وكان (توب الزراق) وهو (الطِرقة) يصبغ بالنيلة. ترى كيف وصفوه بالزرقة بينما يريدون بالزرقة السواد فى غالب أحوالهم فيصفون الرجل الأسود ب (الأزرق). وقد ترجم مؤرخو الفرنجة اسم (السلطنة الزرقاء) الى ( السلطنة السوداء) محاكاة لصنيع السودانيين. ترى ماذا أرادوا بالدعاء على من يكرهون بقولهم : ” جاتك نيلة!”
ونقص الأكسجين فى الجسد الحى يكسو الجسد بالزرقة وتلك علامة دالة على هلاك وشيك. ترى هل ذلك هو ما رموا اليه؟
هذا بعض لغو الشتاء!