آلان مورهيد (١٩١٠-١٩٨٣) مواطن استرالي ولد في مدينة ميلبورن في استراليا وأنهي تعليمه الجامعي بها إلا أن نجمه في عالم الكتابة سطع في بريطانيا كمراسل حربي ليومية (ديلي إكسبريس) اللندنية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية و ازداد توهجاً عندما شرع في تأليف الكتب وهو أيضاً رحالة وكاتب صاحب أسلوب خاص و موهبة بلاغية في الكتابة كما يصفه النقاد . وموضوع هذه المقالة كتابان كتبهما حظيا بحفاوة بالغة وبتوزيع واسع عند صدورهما وبعده هما : النيل الأبيض عام ١٩٦٠ والنيل الأزرق عام ١٩٦٢.
واللافت للنظر أنه رغم أن الكتابين كانا قد أنجزا في ستينيات القرن العشرين وأن شمس الإمبراطورية التي كانت تتباهي بأن الشمس لا تغيب في امتدادها الواسع في المعمورة ،كانت قد بدأت بالفعل رحلة المغيب. إلا أن المؤلف قد صاغ عبارات الكتابين بلغة ملحمية أشبه ما تكون باللغة التي سادت في العهد الفيكتوري تمجد انتصار عساكر الإمبراطورية : شارلس غردون، هيربرت كتشنر ، روبرت دانداس نابير في اثيوبيا وتخال أنت من فرط فخامة الكلمات أنك تسمع وقع حوافر الخيل و صوت المارشات العسكرية تنبعث من الآلات النحاسية أو من موسيقي القرب الأسكتلندية تسير بين يدي أولئك القادة وهم في نشوة الزهو والعظمة . ذلك رغم أن موضوعات الكتابين تتعلق في الأساس باكتشاف منابع نهر النيل والتي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديدا في العام ١٨٥٦.
أمر آخر هو تصوير المؤلف لنهاية قصة الكتابين بأنها كانت انتصاراً للمسيحية علي الإسلام في قارة إفريقيا.
فقد أشار في الخاتمة إلي مشتركات ربطت بين المغامرين الذين تطوعوا للتصدي لصعاب اكتشاف منابع النيل في جسارة ولأولئك الإداريين الذين اقتحموا مجاهيل القارة السمراء، أوجزها هكذا : ” إن العديدين منهم جاءوا من أسكوتلندا و هم في ذات الوقت أبناء رجال دين شاركوا قبل المجيء لقارة إفريقيا كمستكشفين أو كإداريين في معارك ضارية (أي في مناطق مسلمين) في القرم وفي التمرد الهندي (وقع عام ١٨٥٨ اتحد فيه الهندوس والمسلمون ضد البريطانيين) وفي الحرب الأهلية الأمريكية (أي في صفوف جيش الاتحاد للإيحاء بأنهم كانوا ضد استمرار العبودية تعاطفاً مع السود المسترقين.)، تعاطفا مع الأفارقة ضد العبودية ورغبة في ادخالهم المسيحية.” ص ٣٨٥. لم يغفل الدوافع والرغائب الذاتية الدنيوية لأولئك مثل التربح من تجارة سن الفيل (التي كادت كما قال في موضع آخر تستأصل الأفيال) واكتشاف أماكن معدن الذهب والمعادن الأخرى والمكانة التي يكتسبها الرجل بأنه أول من وصل إلي تلك البقعة أو تلك أو أنه أول من عثر علي مفقود في الأدغال ممن شغل الرأي العام في أوروبا.
هل دفعت الطبقية الصارمة التي ميزت المجتمع الفيكتوري في القرن التاسع عشر أبناء أطراف الإمبراطورية في اسكوتلندا التي جاء منها شارلس غردون وونقت باشا وديفيد ليفقنستون وجيمس بروس، وفي ويلز التي جاء منها هنري استانلي وإيرلندا التي أنجبت هيربرت كتشنر إلي الالتحاق بالجيش والتماس الرفعة والمجد في الأدغال البعيدة وإثبات الذات في محاربة هذه الشعوب المستضعفة التي لا تعرف السلاح الناري وتحقيق الأمجاد والبطولات عليها؟ لكأني بهم قد استمزجوا وصف أبي الطيب للمجد:
و لا تحسبن المجد زقاً وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن تري لك الهبوات السود والعسكر المجر
وبالفعل رووا أن كتشنر قد نال مقعداً في برلمان ويستمنستر فقال لزملائه في المجلس : أنا لم أنل هذا المقعد بحسب ولا نسب ولكن بسلاحي هذا! تري هل ميزت تلك الطبقية أبناء الإنقليز في إنقلترا بالمناصب العليا في أروقة الدولة و في العواصم و البلاط الإمبراطوري أمثال إلفن بيرنق (لورد كرومر فيما بعد ) وقذفت بأولئك المهمشين في الأدغال الوعرة محاربين ومكتشفين؟ وهل …وهل.. أم أنها شنشنة تقال في كل مكان مأهول بالناس علي امتداد المعمورة كحديث البعض عندنا منذ حين عن سطوة أبناء الوسط النيلي أو الجلابة أو أبناء الشمال واستئثارهم بالجلد والرأس؟ أم أنه حديث يفتري ؟ أم أننا نتوهم ونسقط في غير موقع اسقاط؟
في فيلم عظيم أخرجه شاب صغير السن من السود قبل عقود خلت اسمه ( اسبايك لي ) عنوانه: “افعل الصواب” و في مشهد من مشاهد الفيلم يسأل ابن صاحب المطعم الإيطالي أباه وقد أعيته الخناقات والمشكلات الدائمة في حي من أحياء السود الفقيرة في نيويورك: أما وجدت مكاناً أفضل من هذا لتقيم فيه هذا المطعم؟ لماذا جعلت المطعم وسط هؤلاء الزنوج؟ رد الأب لم أجد مجالاً للعيش في حارتنا ، حارة الإيطاليين!”
هل هذا شبيه ذاك؟ وفي سجال بين “كتاب وكتاب” أوردت ما قاله المثقف البريطاني (ويل سيلف) في دفاعه عن كتاب ألدوس هيكسلي ” عالم شجاع جديد” عن كذبة الرفاهية والعيش الرغيد في بريطانيا قائلاً {قلة قليلة تعيش في جنوب شرق البلاد (يعني انقلترا) تعيش نسبياً ،منعمة بحبوحة العيش بينما يحصد الحرمان والتعاسة المناطق الأخرى.”
لقد كان الباب مفتوحاً علي مصاريعه جميعاً للمغامرين في كل مكان في أوروبا. جمعيات للأثرياء وأخري حكومية كالجمعية الملكية للجغرافيين تموِّل أولئك في مسعي اكتشاف منابع النيل التي نسجت حولها الأساطير من قديم منذ أن قال هيرودوت قبل الميلاد وفي عام ٤٦٠ قبل الميلاد إنه ينبع من نوافير في قلب إفريقيا. ثم اهتم الخديوي في مصر بذلك. جاء السويسري بوركهارت وجاء غردون إداريا الذي بدوره جاء بسلاطين من النمسا وجاء صمويل بيكر من لندن وجاء أمين باشا طبيبا مستكشفاً من ألمانيا وجاء… وجاء.. كثيرون غيرهم!
ثم يسترسل آلان مورهييد في فكرته الرئيسة التي يري فيها ، أي( حركة الاستكشاف في إفريقيا )صورة من صور الصراع بين الإسلام والمسيحية فيقول : ” لقد كان للإسلام في إفريقيا الأثر البالغ علي المستكشفين. لقد وجدوا جميعاً وبدرجات تتفاوت قوة وضعفاً، أنهم لا بد أن تكون لهم علاقة ما مع العرب وأنهم جميعاً يتعين عليهم أن يتخذوا لوناً واقياً من الإسلام يبقيهم علي قيد الحياة. أولئك العرب تجار الرقيق قادوا المستكشفين إلي داخل القارة ولولا مساعدتهم لما تمكن سوي عدد قليل من المستكشفين المسيحيين من التوغل قدماً إلي قلب القارة . فبورتون أفتتن بطريقة الحياة العربية عندما وصل إلي إفريقيا و أمين (أي أمين باشا الذي اعتنق الإسلام)عاش في ضبابية بين الإسلام والمسيحية ، سبيك (الذي اكتشف منابع النيل الأبيض) توغل بناء علي معلومات أخذها من العرب، وستانلي دخل في شراكة مع تيبو تيب (كنية لتاجر رقيق عربي من زنجبار اسمه حمد بن محمد جمعة المرجبي) لو لا مساعدة ذلك العربي ولعدة مرات خلال مدة طويلة لكان ليفنقستون (مستكشف ومبشر بالنصرانية) قد مات منذ أمد بعيد قبل إنقاذه .” ص٣٨٦.
ويستطرد قائلاً إن صمويل بيكر أنفق عاماً كاملا في اتقان العربية قبل البدء في رحلته الاستكشافية وقَبِل بعد ذلك العمل تحت إمرة أمير مسلم. أما عن غردون فيقول “قد قدم العديد من التنازلات للإسلام فقد قنن العبودية وألح في طلب تعيين الزبير باشا حاكماً عاماً للسودان كما أن هناك أ دلة دامغة في خطاباته ومدوناته اليومية علي احترامه للعرب ( يقصد بها الشماليين في السودان وفي سياقات أخري يقصد بها المؤلف أيضاً عرب زنجبار) علي قوة إيمانهم بدينهم. ويشعر المرء أن استياءه ( أي غردون) من إسلام سلاطين لم يكن سببه دينياً (أي كراهية للإسلام) وإنما اعتبره شارة ضعف واستكانة ( لا تليق بالرجل الصلد الشجاع).”
ويستطرد :” المسيحية إذن قد توغلت إلي وسط إفريقيا تحت غطاء الإسلام. والعجيب في الأمر أن تلك الحقيقة قد استغرقت وقتاً طويلاً من المسلمين لإدراكها. لقد ساعدوا التبشيريين والمستكشفين في البداية بحماسة لا تخطئها العين. لقد رحبوا بصحبتهم باعتبارها رفقة متحضرين في قفار إفريقيا الموغلة في البربرية والتوحش. ثم استبانوا الخطر مؤخراً في نهايات سبعينيات القرن التاسع عشر فأظهروا العداء فكانت نتيجة ذلك صعود عرابي في مصر وتمرد المهدي في السودان ومجازر المبشرين في باقاندا (يوغندا اليوم).واستناداً إلي تلك الرؤية جعل عنوان الفصل الرابع الذي صور هزيمة السودانيين في معركة كرري في العام ١٨٩٨علي يد هيربرت كتشنر ب ” الانتصار المسيحي.”
وقبل الانتقال إلي الجزء الثاني من هذه المقتبسات. أشير إلي مقالة حسنة للبروفسور بدر الدين الهاشمي في سودانايل بعنوان “النيل الأبيض .حقوق الطبع محفوظة” أشار فيها إلي ترجمة كاملة لكتاب النيل الأبيض إلي العربية اطلع بها الأستاذ الزين صغيرون عام ١٩٦٥. لم أطلع عليها، ولعل قراءة الترجمة الكاملة لمن يجدها في معية هذه المقتبسات تعين علي فهم أفضل للكتاب.