العلاقات الملتبسة بين الشرق والغرب وأثر ذلك علينا!
استهل إدوارد سعيد كتابه “الاستشراق” الذي صدر في عام ١٩٧٨ بعبارة لصحافي فرنسي زار بيروت أثناء معاناتها من الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٧٦ فوصفها متحسرا بوصف مفاده أنه افتقد بيروت التي وصفها فرنسيان قبله قائلاً “إنها كانت قبل تنتم للشرق، الشرق الذي وصفاه شاتو برايند ونيرفال”.يقول إدوارد سعيد إن الرجل محق في حسرته وخيبته أن لم يجد الشرق الذي أراده فالشرق علي الأرجح صناعة أوروبية وقد كان منذ الأزل في أعينهم كذلك موطنا للرومانسيات ولشعوب غريبة وللذكريات العصية علي النسيان والمروج والتجارب المذهلة. والآن يختفي ذلك الشرق (المصنوع). إن كان قد وجد أصلاً، لقد انقضي زمانه.
وليس غرض هذه المقالة مناقشة كتاب الاستشراق فقد ظل لبعض الوقت مادة لكثير من البحث والحوارات كما ترجم لنحو عشرين لغة وسأكتفي بإشارات لبعض النقاط المهمة ذات الصلة بعنوان المقالة حول العلاقة الملتبسة بين الغرب والشرق. وهذا الالتباس يلزم أن يكون حاضراً في الذهن عند التعاطي بين العالمين وهو تعاط لا فكاك منه.
وعطفاً علي ما أوردناه في الحلقة الأولي من كلام الروائي جوزيف كورنراد علي لسان مارلو ، الذي يبرر به ضرورة الاستعمار الواجبة لكل الشعوب الأخرى المختلفة ألواناً وأنوفاً حيث يلزم التحكم في مصائرها لأنها لا تحسن القيام بذلك بنفسها .وفي هذا السياق يقتبس ادوارد سعيد من كتابات البريطانيين لورد كرومر و آرثر جيمس بلفور، مقتبسات لقناعات قوية مطابقة لقناعة مارلو في رواية جوزيف كورنارد ” قلب الظُلْمة “المذكورة آنفاً.
يجيب آرثر جيمس بلفور الذي شغل مناصب رفيعة في حكومة بريطانيا منها وزيراً للخارجية وهو صاحب الوعد المشؤوم بإقامة وطن لليهود علي أرض فلسطين في نوفمبر ١٩١٧، شغل أيضاً منصب رئيس الوزراء، رداً علي نائب مستنير حر الضمير يدعي روبرتسون سأله في البرلمان” بأي حق تتحدث بهذا الاستعلاء عن من وصفتهم ب “الشرقيين”؟ رد بكل صلف إنه لا يتحدث من منطلق استعلاء ولكن قال: ينبغي النظر بعين الواقع عندما تضع الظروف مسؤولاً بريطانيا في مقام مسؤولية رفيع كيف يتصرف مع أعراق كالعرق الذي يعيش في مصر وفي بلاد الشرق. ثم استطرد متبجحاً بأنه علي دراية تامة بأن الأمم الغربية منذ أن ظهرت كانت من البداية تملك القدرة علي حكم نفسها بنفسها بينما إذا نظرت في تاريخ الشرق كله لا تجد آثاراً تدل علي قدرة تلك الشعوب علي حكم نفسها بنفسها (أي عبر الوسائل الديمقراطية التي تؤكد خيارات تلك الشعوب)، بل كانوا دوما في عصورهم العظيمة -وكانت عظيمة بالفعل-في ظل الاستبداد والحكم المطلق! كأنه يقول إن المرؤة والواجب والإنسانية تحتم علينا استعمارهم! ثم يخلص إلي أن الحكم الاستعماري في مصر هو أفضل حكم مر عليهم في تاريخهم الطويل. ” نحن هناك ليس من أجل المصريين وحدهم وإن كان ذلك من أجلهم لكننا هناك من أجل أوروبا برمتها.” السؤال الأهم لديه ليس الاستعلاء أو نقيضه وإنما الأهم هل “حكمنا المطلق عليهم خير لهم أم لا، أعتقد أنه الأفضل. “هكذا قال وبالحرف!
تري هل تصلح هذه الذريعة، ذريعة عدم قدرة شعوبنا علي الحكم الرشيد، كوصفة سحرية دائمة وقادمة لاستعمارنا من جديد ومن علي البعد بالريموت؟ أو بوجود فعلي علي الأرض؟
وعلي ذات النسق يمضي( إفلن بيرنق) الذي أصبح لوردا يعرف باللورد كرومر . (كرومر مدينة علي الساحل الشرقي لانقلترا)، والذي عمل إدارياً في الهند المستعمرة ثم في مصر علي مدي ربع قرن كانت وظيفته “القنصل العام لبريطانيا في مصر” لكنه كان في حقيقة الأمر الحاكم الفعلي لمصر. قال يؤكد علي ذلك الواجب ، عبء الرجل الأبيض : إن التعامل مع الهنود والمصريين والشلك والزاندي والنظر فيما يصلح أحوالهم يحدد في ضوء المعرفة الغربية! لأنها شعوب لم تزل في مرحلة التلمذة!
ويواصل في عنصرية منتنة في وصف المصريين (وهو وصف يطبقه علي كل الملونين السودانيين والهنود)بالقول إنه رغم أن قدماء العرب كانت لهم معرفة ما بالديالكتيك والمنطق إلا أن ذراريهم فقدوا ذلك تماماً ففي أغلب الأحيان يعجزون عن الوصول إلي خلاصة شديدة الوضوح لفرضية يقرون بحقيقتها . وإنك لتجد نفسك بحاجة إلي جهد وعنت لاستخلاص تبيان للحقائق من المصري العادي. إن توضيحاته تتسم بالتطويل وتكون بحاجة لتوضيح. ولربما ناقض نفسه عديد المرات قبل أن ينهي قصته. وكثيراً ما ينهار أمام
أبسط استجواب!
وفي المقابل ، الأوروبي دقيق ومنطقي في افاداته حتي وإن لم يتعلم المنطق!
وفي الحفل الذي أقيم لوداعه في مايو ١٩٠٧ بالقاهرة والذي حضره الخديو إسماعيل ، اساء الرجل وتعدي وظلم! وقد أورد الدكتور مصطفي جودة في مقالة له، كامل الكلمة كما ترجمتها يومية الأهرام في وقتها جعل عنوانها: “سب فيه الخديو إسماعيل واتهم المصريين بالعمي ونكران الجميل، خطاب الاستعلاء الاستعماري للورد كرومر قبل الرحيل.”
وقد وصفه شوقي رحمه الله بما يستحق لقاء استعلائه وغروره بقصيدة جاء فيها:
لما رحلت عن البلاد تشهدت فكأنك الداء العياء رحيلا
أوسعتنا يوم الوداع إهانة أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/828402.aspx الرابط
بهذه العقلية استعمرت بلاد الشرق وتمت صناعة الاستشراق بالإهانة لعالم معطوب اللغة، فاقد الأهلية ديانته مسخ للمسيحية.
أما كتاب هانتيغتون “صدام الحضارات فنسج علي ذات المنوال وأكثر كما يدل عليه عنوانه: الشرق خطر قادم، تحالف بين كنفوشية الشرق الأقصي تمثلها الصين بتحالف مع عالم الإسلام. ذكر بتفصيل أن الدولة القطرية هي ركيزة الولاء في الغرب لكنها ليست كذلك في بقية العالم حيث الولاء يتدرج من الأسرة إلي العشيرة فالقبيلة وفي حالة الإسلام للأمة. وأنه بعد زوال القطبية الدولية حدث الاستقطاب استناداً علي ذلك فدول البلقان تقسمت وفقاً للأرثوذكسية المسيحية فتعاضدت خوفاً من الإسلام وتتعاطف ألمانيا في أوربا الشرقية مع بلغاريا الكاثوليكية في وجه التجمع الأرثوذكسي المحيط بها ودول الانديز في غرب قارة أمريكا الجنوبية من فنزويلا في الشمال إلي تشيلي في الجنوب تتجمع علي تلك الرابطة الجغرافية والثقافية وهكذا. ووصل به الأمر إلي اعتبار الحرب التي كانت في جنوب السودان بأنها صورة للصدام الحضاري بين الإسلام والمسيحية.
أما الأستاذ محمود محمد شاكر في رسالته التي قدم بها لكتابه “المتنبي” وأطلق عليها اسم ” رسالة في الطريق إلي ثقافتنا” فيتفق مع هانتينغتون علي صدام بين الحضارتين دون أن يطلق تسمية الصدام لكنه يرد أمراض الثقافة اليوم في بلاد المسلمين لعمل المستشرقين الذي سبق الاستعمار وكان مقدمة له.
ويقترب محمود محمد شاكر من ادوارد سعيد في دوافع قيام مدارس الاستشراق وأنها كانت بسببب انتشار الإسلام ووصوله إلي قلب أوروبا بغرض التعرف علي جوانب القوة والضعف فيه والتصدي لزحفه بوسائل غير الحرب التي فشلت في القضاء عليه فانصرف الجهد إلي سلاح مدني ثقافي هو الاستشراق. يتعرض للصراع العنيف الذي بدأ بالحروب الصليبية غضباً لضياع مستعمرات الفرنجة في الشام وأنهم عبر ثلاث مراحل اعتمدوا فيها علي الحرب فشلوا في استئصال الإسلام رغم أنهم نجحوا في نهاية المطاف بعد ضعف المسلمين نتيجة استرخائهم علي انتصاراتهم وأمجادهم القديمة فتمكنوا من قهرهم واحتلال بلادهم . ونظراً لعدم تمكنهم من نزع الإسلام من قلوبهم نتيجة للحروب والاستعمار ،لجأوا في المرحلة الرابعة إلي دراسة حضارة المسلمين ولغاتهم وآدابهم فطعنوا في ذلك وفي دينهم وسوقوا ذلك في الغرب. وهكذا ولد الاستشراق .الذي تمكنوا عن طريقه عن ابعاد شباب المسلمين والشرقيين عن مرتكزاتهم الحضارية عن طريق تسفيه أحلاهم واحتقار معتقداتهم.
يقول كما قال ادوارد سعيد بألفاظ أخري ربما: ” الاستشراق كما رأيت قبل هو عين “الاستعمار” التي بها يبصر ويحدق ويده التي بها يحس ويبطش ورجله التي بها يمشي ويتوغل وعقله الذي به يفكر ويستبين ولولاه لظل في عميائه يتخبط ومن جهل هذا فهو ببدائه العقول ومسلماتها أجهل.”
ثم يقدم تعريفاً للغة وكيف يستقيها الطفل من أمه وبيئته وكيف تنغرس مع الثقافة ” والثقافة عنده ،” سر من الأسرار وحقائقها عميقة بعيدة الأغوار متشعبة وقوامها “الإيمان” بها عن طريق القلب والعقل= ثم “العمل” حتي تذوب وتجري منه مجري الدم لا يكاد يحس به= ثم “الانتماء “إليها إنتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار وبين تمام الادراك لأسرار الثقافة وقصور هذا الادراك يرتفع أيضاً قدر ما يكتبه أو ينزل إلي حضيض الإيمان.”
ثم ينصرف إلي معرفة المستشرق التي تعطيه الجرأة علي نقد اللغة العربية ونقد آدابها والتشكيك في صحتها:
” والمستشرق فتي أعجمي ناشئ في لسان أمته وتعليم بلاده ومغروس في آدابها وثقافاتها ( ألماني، أو إنقليزي أو فرنسي) حتي استوي رجلاً في العشرين أو الخامسة والعشرين فهو قادر أو مفترض أنه قادر تمام القدرة علي التفكير والنظر ومؤهل أو مفترض أنه مؤهل أن ينزل في ثقافته ميدان “المنهج” ( ما يشترط في الكتابة العلمية من التحقق والأمانة العلمية وإبراز المراجع وما سوي ذلك) أو ما” قبل المنهج ” بقدم ثابتة. نعم هذا ممكن أن يكون كذلك= لكن هذا الفتي يتحول فجأة عن سلوك هذا الطريق ليبدأ في تعلم لغة أخري(هي العربية هنا) مفارقة كل المفارقة للسان الذي نشأ عليه صغيراً ولثقافته التي ارتضع لبانها يافعاً، يدخل قسم اللغات الشرقية في جامعة من جامعات الأعاجم فيبتدئ تعلم ألف با تا ثا أو أبجد هوز في العربية ويتلقى العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وشعرها وتواريخها من أعجمي مثله وبلسان غير عربي ثم يستمع إلي محاضر في آداب العرب أو أشعارها أو تاريخها أو دينها أو سياساتها بلسان غير عربي ويقضي في ذلك بضع سنوات قلائل ثم يتخرج لنا ” مستشرقاً” يفتي في اللسان العربي والتاريخ العربي والدين العربي!! عجب وفوق العجب!!” “كيف يجوز في عقل عاقل أن تكون بضع سنوات قلائل كافية لطالب غريب عن اللغة وهذه حاله أن يصبح محيطاً بأسرار اللغة وأساليبها الظاهرة والباطنة؟”
وبمثل ما تقدم من نظرات مارلو ووبلفور وكرومر قام كرومر بتعيين القس المبشر الاسكتلندي دوغلاس دانلوب مستشاراً لوزارة المعارف ( التعليم) فوضع منهاجاً للدراسة اعتبره الوطنيون المصريون معادياً لثقافة مصر. ورغم أن ثورة ١٩١٩ أطاحت بالرجل إلا أن الأستاذ محمود شاكر يحمله مغبة ما أسماه ب (التفريغ ) أي تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطاً بالعربية والإسلام ومهد إلي ملئه بماض آخر بائد في القدم والغموض إلي أن خلص إلي ” ثم يملأ هذا الفراغ علوم وآداب وفنون لا علاقة بماضيهم وإنما هي علوم الغزاة وفنون الغزاة و… ولغات الغزاة ومع كل ذلك فإن هذا القدر من العلوم والفنون والآداب إنما هي قشور ومقتطفات توهم النفوس الظامئة المفرغة بأنها نالت شيئاً يذكر والحقيقة أنها نالت غذاء تعيش به موتي في صورة أحياء لا غير.”
هذه المقدمة متصلة بشجار الأستاذ شاكر مع الدكتور طه حسين علي كتاب الأول (المتنبي) وكتاب الثاني (مع المتنبي) والذي يتهم فيه شاكر طه بالسطو عليه ويقدم حججاً دامغة لاتهامه وأخطر منه اتهامه لطه حسين بسرقة ما جاء في كتاب “الشعر الجاهلي” المأخوذ من المستشرق مرجليوث. ولعلنا إن يسر الله نعرض لذلك بتفصيل في مقالة أخري.
وبعد… مما تقدم ومن ظواهر الشعبوية المنتشرة في الغرب والكراهية الدينية والعرقية للآخر المختلف المتصاعدة هذه الأيام ،أحببنا الإشارة إلي أن مهمة المثقفين في العالم الفقير التصدي بالحسني للظاهرة محصنين بنتائج العلوم الدالة علي وحدة النوع الإنساني تجاوزاً للاختلافات السطحية للألوان وشكل الأنوف والشعر والألسن، وأن ترتفع أصواتهم لتصل إلي أحرار كثر في الغرب لمحاصرة هذه الأجواء التي تشبه الأجواء التي سبقت الحرب العالمية الأولي قبل قرن ونيف تنذر بالانفجار وأن يعظموا من شأن ثقافاتهم وطرائق حياتهم. وبغير ذلك سيؤكدون ترهات المستعمرين وأنصار التفوق العرقي في الغرب بأننا فرائس سهلة للانقياد لا تعرف كيف تدير أمورها بنفسها. المناجزة الحقة لم تعد بسيف ولا سنان وإنما بإثارة حمية الشباب للتعلم واكتساب المعارف في كل ميدان بغرض تحقيق العمران : إنتاج الغذاء والكساء و الطاقة وتوطين الصناعات أسوة بدول عديدة نهضت كانت في زمرة الفقراء. وذلك متاح أكثر من أي وقت مضي بالإضافة إلي الإفادة مما وصلت إليه التجربة الإنسانية في الإدارة وفي آليات تحقيق مبادئ العدل وبسط الحريات المغروسة في كل الثقافات والحضارات كحاجة إنسانية ملحة للعيش الكريم ولتحقيق غاية الحكم الرشيد لكن في إطار ثقافاتهم ومرتكزاتهم الحضارية دون تمييز بين الناس من أي نوع وتلك غاية ينبغي أن تكون أم الغايات!