الليل هذا الظرف من الزمان الذي يبدأ بالغروب فيتدثر بالظلمة غطاءً، لساعات تطول وتقصر حسب القرب والبعد عن منتصف الكرة الأرضية الذي يٌرمز إليه بخط وهمي جعلوه دالة علي الاستواء بين شطري الأرض وحسب أوقات بعينها من العام تواضعوا علي تسميتها بالفصول. ولأن الرؤية تنعدم فيه وتجهد الأجساد من كد النهار عند قدومه، يلوذ الناس فيه بدورهم يلتمسون الراحة والاستجمام استعدادا لعراك مع الحياة حين تستأنف الشمس المجيء من غدٍ. حتى الطيور تأوي إلي أوكارها فيه. والليل بهذه الصفة رمز الخفاء والمجهول وبذلك يكون مصدر خوف وتوجس لما قد يتسلل فيه دون أن نراه! وفي العراء والبرية مؤذيات من المخلوقات، هوام سامة وكواسر تستعين بعتمته على العيش بافتراس ما تقدر عليه من الأحياء، لذلك وفي قرون بعيدة خلت، عبد الناس كل مصادر الضياء فيه، الشمس والقمر و النجوم . وفي التنزيل إشارة إلي فساد ذلك الاعتقاد والحث علي الاكتفاء بالاستعاذة من خفاياه والتحرز بما يمكن مما قد تخفيه الظلمة.، ” ومن شر غاسق إذا وقب” والغاسق الليل إذا غاب شفقه واشتدت ظلمته وإذا وقب أي إذا دخل. وابتدر المسلمون في الأندلس كما كان الحال في دمشق وبغداد الإضاءة الليلية، أي إضاءة المدن بفوانيس تضاء بالزيوت فكان بقرطبة عشرة آلاف مصباح تضاء كل ليلة.
ولعل الخوف من السواد مستمد من ذلك، سواد الألوان حتي لو اتصف بها بعض البشر وبعض الحيوان . ألا تري كيف يتشاءم الناس من الغراب؟ زعموا أن نوحاً أرسله وسفينته تائهة في اللجج تبحث عن يابسة بعد الطوفان. قالوا طار وطاف وعاد خالي الوفاض فجعلوا خيبته رمزا لكل الخيبات فقالوا في حق من لم يظفر بما أرادوا له الظفر به ،” أبطأ من غراب نوح .” فأرسلوا حمامة بيضاء مكانه، وفي الحمام السواد، فجاءت بغصن الزيتون تبشر النبي العظيم ببقعة انحسر عنها الماء، فكادوا يقدسونها وجعلوها رمزاً للسلام والوئام وكرهوا قتلها واستكثروا أن تنتهي رحلتها مطهية أو شواء علي مائدة الطعام ! كيف والناس منذ بدء الخليقة يرومون السلام وأزمانه في حيواتهم استثناءات ، فكيف يغتالون رمزه ، أو هكذا رأي بعضهم. لم يكتفوا بما نعتوا به الغراب المسكين بل جعلوه شارة للشؤم ودالة علي فجيعة القرناء علي فراق الأحبة إن نأت بهم الديار. قال عنترة وما كان ينبغي له وهو الشقي بالسواد، عند رحيل عبلة من الحي ، شعرا لم ينج الغراب فيه من النعوت البغيضة ولوأنه أدرك زماننا هذا ربما ود لو تباهي بالسواد مثل السود في أمريكا في ستينيات القرن المنصرف في صيحة داوية “الأسود جميل!” ولم تلن لهم قناة في الألفية الثالثة عندما اتبعوها برسالة أقوي تقول إن حيواتهم تسوي! وهناك قول الحق ” ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.” في تبيان لخطل التباهي بالألوان:
ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
منها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
مع أن السواد في الأبل مظنة الثراء والغني!
وقد قيض الله للغراب المسكين شاعراً فحلا انتصف له مثبتا براءته:
ما فرق الأحباب بعد الله إلا الإبل
وما غراب البين إلا ناقة أو جمل.
وفوق ذلك أليس الغراب هو من علم الانسان مواراة الموتي كما جاء في التنزيل ؟ أم أنهم ظنوا العرج البائن في مشيه هو ما أبطأ به وحرمه جائزة وصيت اكتشاف اليابسة وفاتهم أنه من الطيور الطائرة التي لا يعيبها اتقان المشي بل ولا يلزمها فكيف ذاك؟
ولأن التناقض خصلة في الناس أصيلة رغم انها مذمومة، إلا أنهم يذهبون في شأن الليل وما يشابهه من السواد مذاهب شتي، فعندما رجا المتنبي من كافور كل الرجاء أن يمن عليه بولاية، فتراءت له الولاية ساعية بخيلها وخيلائها ورجلها قال يمدحه:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبّر أن المانوية تكذب
وقاك ردي الاعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المخضب
والمانوية مذهب فارسي يري الخبر في النور وكل الشر في الظلمة! ولعلها من الفلسفات التي كرست العنصرية ضد الإنسان الأسود. لاحظ مالكولم إكس أن القواميس ألحقت بالسواد كل خسيسة عند تعريف كلمة السواد ! ولأن كافورا كان أسودا فاحماً فهو حسب مراد الأبيات. خير محض يدحض حجة المانوية والليل الحالك الظلمة، خير لأنه يخفي سعيه للإيقاع بالأعداء فلا يرونه فيصيبهم في مقتل كما أن الحسناوات المخضبات يزرنه في هدأة الليل البهيم دون أن يراهن أحد. وكما ترون فقد مدحه كأحسن ما يكون المدح بالسواد عندما طمع فيما عنده وتخريجات ابن جني بأنها مدح يستبطن الذم ردها النقاد بل اعتبر بعضهم ذلك المديح قمة المدح الحسن حيث بلغ فيه حد التعريض بولي نعمته، سيف الدولة الحمداني :
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
إن فقت الأنام وأنت منهم فالمسك بعض دم الغزال
قال الواحدي في شرح ذلك ” جعله إنسان عين الزمان كناية عن سواد لونه وأنه هو المعني المقصود من الدهر وأبنائه وأن من سواه فضول لا حاجة بأحد إليهم فإن البصر في سواد العين وما حوله جفون ومآق لا معني لها!”
ولما يأس من عطائه هجاه بشر الهجاء بذات السواده أيضاً:
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه السود أم آبائه الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود
لا تعجب من هذا التقلب أليس هو القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
وعين السخط تبدي المعايبا
وكان كافور فيما رووا حاكما عاقلاً. قالوا امتنع حينما واتته الفرصة للتغلب علي غريمه سيف الدولة وضم كل الشام إلي ملكه، اذلك أن سيف الدولة كان يخوض حرباً علي الروم الطامعين في بلاد الشام، أبت نفسه الغدر برجل يحمي الثغور والذمار من بلاد المسلمين.
وهكذا الناس من قديم تقود خطامهم الأهواء إلا من رحم ربك.
والناس يهرعون إلي الليل بشكاياتهم يدفنون في ظلمته خيباتهم ومواجدهم وانقطاع العشم في أشواقهم فلا يردهم بل يحنو عليهم بردائه الثخين ستراً لأسرارهم لا يطلع عليها أحداً لكنهم كلهم أو جلهم يكشفون سترهم طواعة دون إكراه.
قال جميل بثينة مرة :
لا لا أبوح بحب بثنة إنها أخذت عليّ مواثقاً وعهودا
قال العقاد متعجبا من هذا البوح المجاني : وهو في حرصه علي الكتمان قد باح!
وأول وأبرز شعراء العرب في القديم، امرئ القيس بن حجر كان قد أودع الليل شكواه:
وليل كموج البحر أرخي سدوله عليّ
بأنواع الهموم ليبتلي
وتلك أبيات حسان تصور حال من أعياه طول اللحظة التي لا تنقضي رغم أن انقضاءها لا يحمل بشائر الفرج:
فقلت ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
عليّ بصبح وما الاصباح منك بأمثل
غاية اليأس ومنتهاه!
ومع ذلك لم يكف العشاق عن ارسال الشكوى تلو الشكوى لهذا الليل المسكين الذي استحال إلي حائط مبكي أبدي.
المواويل المصرية كلها في لياليه:
يا ليلي .. يا ليلي..
وشذت عن البكائيات، “هذه ليلتي وأمل حياتي ” لرامي وأم كلثوم .وهي عين في الغناء الجميل متفائلة بالليل. واستغاثة سيد مكاوي عزفاً منفرداً على العود، هذه الآلة العربية المدهشة، بالليل من ذات الرحيق:
تعالي خلي نسيم الليل علي جناح الشوق يسري!
ووديع الصافي في الشام يأبي ليله الغناء إلا إذا استهل بغناء ليلي :
الليل يا ليلي يعاتبني ويقول لي سلم علي ليلي
دروب الحي تسألني تري هل سافرت ليلي
والدوكالي في المغرب الأقصى يقول ،عند غياب المحبوبة تظلم الدنيا ويصبح حال الأحبة كالمسافر بليل تظلله الظلمة بلا قمراء
وقلوب الأحباب وانت بعيد ولت صحراء
لا يحركها إحساس جديد ولا تنبت فيها زهره
تفتح بالشذي وتطيب وتونس اللي بات غريب
تايه في ليل بلا قمرا!
وقالوا إن تراث الغناء لدي الشايقية يقوم علي فلكلور أسهم في بنائه كثيرون مثل القصيدة التي لم تزل علي الأفواه:
ليلنا الله الليل ليلي هوي يا مسيكة الضربو ابنعوف!
وضربو بالمارتين ابكتوف وضربو موزون بين الكتوف
وطمن الحامداب من الخوف ويا مكاضبني أرح نشوف
والذي ضربه ابنعوف صائد التماسيح الأسطورة، ما هو إلا التمساح الذي روع الحامداب والحسناء المشبهة برائحة المسك بالتصغير (مسيكة)لا موضع لها في ذلك المعترك إلا قرينة أن المسك يستخرج من غدة في فم التمساح وأكثره من حويصله في عنق الذكر من الغزال وبعضه من أعشاب! والتمساح الذي روع المنطقة، تشمر له المادحون بالدعاء عليه يلتمسونه من كرامات الأولياء .من ذلك مدحة حاج الماحي، “يا رحمن أرحم بي جودك” .وتخرص فيه الخراصون الأساطير فجعلوا التمساح فتاة يقال لها فاطمة تنقلب تمساحا بالليل وأنها هي التي قُتلت وليس التمساح: الله يا جرك يا عمتي.. فاطني في الحامداب ما ها في!” .
وعلي ذكر حاج الماحي فقد أطلعت علي مخطوط للرجل العالم الأستاذ الدكتور إبراهيم القرشي، لعله قد نشر كتاباً عن حاج الماحي يؤكد غشيان هؤلاء المادحين لحلقات العلم التي كان يقيمها الفقهاء إذ تصادف في مدائحهم أحيانا علماً تحويه أمهات الكتب. كقول حاج الماحي في وصف غزوة بدر: حتي إن كان قلال المولي عانا! وفي مدحة عبد الملك أداء علي الشاعر وفرقته وعبدالله الحبر وفرقته : تلتمية جيش وأيضاً ثلاثة عشر بايعهم رسول الله ولهم بشر!
من ذلك التراث الغني بالروائع نهل امرئ قيسهم ،العامل حسونة .
ولقد أحسن وأجاد الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك في فيديو في اليوتيوب حوي حواراً مع الأستاذ يسن محمد يسن ألقي أنواراً ساطعة علي أعمال الرجل وجملة من شعراء منحني النيل جدير بالاستماع والتوثيق المكتوب ويحمل بشارة بطباعة ديوان حسونة. الذي ضم بين دفتيه غير التشبيب والغزل مديحاً لأعيان عرفتهم المنطقة من أمثال ، بشير أغا وود كنيش وود أبوشوك. ووردت في التسجيل نبذة حسنة عن الشاعر عمر حسين وعن أعماله الشعرية ولهما كذلك تسجيل غاية في الروعة عن الشاعر خضر محمود سيد احمد . ليت دار الوثائق المركزية تحتفظ بهذه التسجيلات وتشجع المهتمين بالتراث في أصقاع السودان الأخرى لتسجيلات مماثلة تحفظ تراث السودان الفسيح زاداً للأجيال القادمة. وليكتسب التاريخ صفة الشمول بأبعاده الاجتماعية والثقافية، أي التاريخ متعدد الأبعاد.
ومن أولئك ممن تغني الناس بأشعارهم ،وهم كثر لا يحصيهم العد :عبدالله محمد خير ، خضر محمود سيداحمد ،الدابي حسن والدابي حاتم، إسماعيل حسن، تاج السر عثمان الطيب سيد احمد عبد الحميد ،خالد شقوري ،محمد جيب الله ودكدكي محمد الحسن حميد وحدربي.
قلت منهم محمد سعيد دفع الله وهو تلميذ في ثانوية مروي التي لا تبعد عن مسقط رأسه في الفرير إلا بضعة فراسخ لم تمنعه حداثة السن من إرسال الرسائل مع القماري يشكو طول الليل في رقة مرهفة أملاها جوي الصبابة المبكر الذي يغشي المبدعين مبكراً كذلك:
قولن ليهو ليلو طويل…. طولاً يجنن
لا قمراً ظهر في سماهو لا نجمات يضون!
ورحم الله النعام آدم الذي أطرب بها السودان كله. وقد أبدع إبراهيم شول ذلك الجنوبي الذي أحب السودان موحداً فطار بها إلي الجنوب الذي اعتزلنا!
وهو ذاته، أعني محمد سعيد دفع الله، الذي استعطف الطيف مرة ورجاه التمهل منتظراً:
أقيف ياطيف هي كدي استناني وين فايتني عابر
أنا شن حارس وراك أنا تاني ياني معاك مسافر
وين… حتي الطيف رحل خلاني ما طيب لي خاطر!
يا للقسوة…
انتزع جمالها إعجاب ذلك الضخم الضنين بالثناء والتقريظ، محمد عثمان وردي ، فردد هذا المقطع منها منتشياً في “صالة العرض” مع علم الدين حامد أضحية العام ١٩٧٨ قائلاً: ” الشايقية فنانين!”
قالها أيضاً صديقنا الأزهري عيسي ابن الزاورات وهو علي متن حافلة صفراء ل “أبورجيلة “وهو يتجه إلي المطار مغادرا السودان منذ نصف قرن مضي والمذياع يصدح بها :”أسالت دموعي.. فخلت ركاب الحافلة جميعاً يبكون بكائي وينعون مغادرتي وتجشمي وعثاء الغربة القاسي وأنا في شرخ الشباب!” كأنه قد حمّل نفسه وزر ابتدار تلك الهجرة التي لم تنقطع بعده فلقد كان أول من هاجر من جيلنا!
وانتشرت “الطيف” كما تقول الفرنجة انتشار الفيروسات وانتشار النار في الهشيم كما تقول العرب ، وتلك استعارات لا تخلو من قسوة وعمت حواضر السودان وبواديه وغدت علي كل لسان، و قد اكتسبت هوية سودانية جامعة وبجدارة وذاك شأن الغناء الجميل والفن الصادق النبيل!
واستبشرت قلة بالليل، تغني الطيب عبدالله بغناء حسن في حق الليل :
عد بينا يا ليل الفرح. داو القليب اللنجرح
خليه يفرح مرة يوم طول عمرو ناسيه الفرح
والعميد أحمد المصطفي من كلمات عبدالمنعم عبدالحي في يا ناسينا :
وكيف الشوق يطريك الخوالي ، ليالينا
ليالينا المضت ،يا ريت تعود لينا الليالي
ويحلو للبعض السمر في وكرهم المهجور والصمت قد عّم! والصمت يعم في جوف الليل!
ومثل ذلك تجده في سائر اللغات والرطانات، ويليام بليك، دايلان توماس ولانغستون هيو. ولعل صديقنا الدكتور عبداللطيف سعيد وقد نشر ديوانه قد حوي مثل ذلك فيما جاري فيه وليام شكسبير في سوناطاته!
ولم يبعد الكابلي النجعة حين هدم الجدار العازل بين الأغنية العاطفية والوطنية . قال كل الغناء للوطن. ذلك أن الغناء والشعر العاطفي نقش في جدار الزمن لا تحفظه الذاكرة إلا في إطار الأمكنة لذلك خلد الأقدمون الأثافي (اللدايات) وحب الخمخم وحتي بعر الآرام في مواضع ذكروها: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها! وقرن حسين با زرعة في غناء عثمان حسين بينهما ،فأجاد:
حبي نابع من بلادي من جمالا وانطلاقا
أودعت حسن حبيبي من صباها كل باقة
من صفاء الطيبة والكلمة الحبيبة والطلاقة
كل رعشة حرف فيها ترجمت تلك العلاقة!
و إيليا أبو ماضي ذكرنا بأيامه الخوالي في لبنان وهو في منفاه البعيد في أمريكا الشمالية ومع الليل والصلاة في جوفه أخبرنا بمنحني آخر عندهم هناك في لبنان، فجمع بين ظرفي الزمان والمكان :
كم عانقت روحي رباك وصفقت في المنحني!
لليل فيك مصليا وللصبح فيك مؤذنا
والذي يشك في وجود الثوابت في ثقافتنا عليه التأمل في غنائنا ليجد
حرص الشعراء وأهل الغناء علي تأكيد العفاف والطهر :
قالوا في القديم:
لا والذي تسجد الجباه له
ما لي بما تحت ذيلها خبر
ولا بفيها وما هممت بها
ما كان إلا الحديث والنظر
وقال أبو الطيب:
يرنو إليك مع العفاف وعنده أن المجوس تصيب فيما تحكم
وفي غناء النعام :
حور في سور سيدو معلي سورو
يا خي الجيران ما لاقين يزورو .. مشتاقين!
وفي رائعة ود القرشي رمز الجمال…. لكن هو المحال..
وفي غناء الكابلي : حراسك يا حالم الحيا والفضيلة…
لما عابوا علي بن حزم الأندلسي تأليف “طوق الحمامة في الإلفة والإيلاف” وهو كتاب في العشق وأنواعه وأسبابه ،وهو من شيوخ الدين، قال: ” بالجملة فإني لا أقول بالمراياة (من الرياء) ولا أنسك نسكاً أعجمياً ومن أدي الفرائض المأمور بها ولم ينس الفضل بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان ودعني مما سوي ذلك وحسبي الله.”
وحفدة جون وأبناؤه يقسون علي الليل أحيانا مثلما نقسو نحن فيستكثرون علي المجرم ارتكاب جريمته في رابعة النهار وكأن الليل أشبه بفظاعتها وقبحها ، يخفف من قسوتها ويبرر فعلتها ! مع أن “الجرم جرم ولكل جرم عقاب! “قالها تلميذ لبق استخدم الجناس يحذر اقرانه في جوف الليل من مغبة اهدار السمر المفيد بالإكثار والمبالغة في التلهي بأكل تسالي الجُرُم! أثناء فعاليات الجمعية الأدبية بمتوسطة القولد وفيها يتعلمون روائع القصيد وفرائد النثر الجميل ، فلله دره!
وللباحثين في عوالم الروح والعرفان شغف بالليل وظلامه:
لظلام الليل معني يشتفي منه اللبيب
حرك الأشواق دعنا نجتلي الوجه الحبيب
هاجت الأشواق رعنا ما يداويها طبيب
وهذا باب في التصوف واسع لا نملك الإحاطة به فنشير إليه إشارات عابرة تفي بما يتناسب وروح هذه الخاطرة:
وفيهم سراة يعافون الكري ويسرون في شعاب الظلمة ،مبتغاهم عوالم الروح اللامتناهية حيث الأفراح الأبدية ولقاء النبي المصطفي : يا سراي ..يا سراي ا الجافو النوم وعقدو الراي الليم متين يا مولاي؟
وبينما يحمد السري ، السفر ليلاً في عالم الحس ببلوغ الوجهة من الأرض عند الصباح، فمقصد أولئك، عالم شفيف لطيف بلوغه بالتلطف! وبلوغ بعض الأرض يكون لذات الغاية، الوصول إلي عالم الروح رغم أن مقصدهم موضع في الأرض كقصدهم الأرض المقدسة عسي أن يعبد ذلك رقيهم إلي السماء، كمديح حاج الماحي:
فوق مطايا أسري الليل لي حجايا للمحبوب!
قال عبدالله الطيب في { من نافذة القطار} :ليس كمديح أولاد حاج الماحي مديح! ورووا أنه الذي عرّف الإذاعة بهم.
ولبعض الناس قدرة هائلة يغرقون بها الليل كله في ينبوع نور و يلهون اللهو جله لا يلوون علي شيء! ويبلغون في ذلك حد الاستغراق في بهجته فيرجونه أن يطول 🙁 طول يا ليل.. طول يا ليل !) وبعضهم من فرط النشوة يخاله قد طال بالفعل وأنه لم يزل طفلا يحبو رغم أن نجمة الصباح قد تراءت في الأفق! حقاً “كل يغني علي ليلاه” وتلك مقولة نسبت للشيخ الجليل البدوي رحمه الله عندما استدعي المغني كرومة ليسمعه أغنية ،” يا ليل أبقي لي شاهد!”
وصدح سماني مجذوب في أم مرحي ، مقر الشيخ أحمد الطيب مبتدأ السجادة الطيبية وعاصمة السمانية الأولي:
يا ليلي ليلك جنا
معشوقك أوه وأني
أم مرحي فوق جبلنا
أصلو الأكسير معدنا
أم مرحي داقوا ساسو عم البلد أنفاسو
يا ليلي ليلك جنا، معشوقك أوه وأني!
الله… الله .. لمن ذاقت أرواحهم هذا الشراب، كيف يظمؤون بعده؟!
ويطول الحديث ويتناسل بعضه من بعض وتحتشد الذكريات تشتهي البوح ولكن يبقي خير الكلام ما قل ودل! هذا إن أوجزنا فعلاً لا قولا! والله المستعان.