قال: كان عمى العباس عالماً موسوعياً لا تكاد تسأله عن شئ إلا أجاب فأفاض و أوفى لك الكيل وتصدق عليك من صنوف المعارف وألوان الفنون بما لا يخطر لك على بال. كان سمحاً ذا دعابة وأحياناً سخرية محببة وقد أطال الله فى عمره حتى قارب المائة ببصر حديد وذاكرة من الفولاذ! قال لى مرة لاتشبه ذاكرتى بالفولاذ لأنه عنوان القسوة وأنا أمقت القساة من الناس الذين خلقهم الله بشراً أسوياء فاختاروا مشاكلة الجماد الأصم من المخلوقات فهم أشد خطراً من الجمادات والآكام فالآكام صلدة صلبة لا تخطئ ذلك عين مبصرة لكن أولئك يبدون فى لطف النسيم وبراءة العصافير وقلوبهم أقسى من القسوة ! فحاذر رعاك الله من مخالطتهم. هكذا قال. ثم قال قل إن ذاكرة عمى قوية قوة الروح, فالروح لطيفة لا ترى بالعين وشفيفة لا تمس بالحواس ومع ذلك فهى قوية لاتفنى بعد فناء الجسد بل تنطلق إلى بلاد الأفراح وقد تحللت من ثقل الطين ورهج التراب, تسبح فى الأثير بلا عناء كما تسبح الحيتان فى لجج البحار والمحيطات ,تلتحق بالملأ الروحانى الذى خرجت من مشكاته إبتدءاً إن لم نتنكب الطريق!
زرته كعادتى وقد تعافى من غيبوبة بدأت تعتريه فى أخريات أيامه وقد تطاولت فى المرة الأخيرة اسبوعاً كاملاً حتى ظننا أنها النهاية التى تعترى كل حي. وجدته منشرحاً كعادته يحتسى الشاى ويرنو بعينيه الغائرتين فى الأفق البعيد الممتد بلا نهاية كأنه يستكشف السبل إلى العالم السرمد , عالم الخلود الذى لا بد أنه قد أحس بدنوه فبدأ التأهب للرحيل إليه. هش فى وجهى مرحباً وضحك ببقايا أسنان متناثرة فى فيه وأجلسنى إلى جواره قائلاً: بكيت علىّ فى غيبوبتى ظناً بأنها الأخيرة؟ قلت بإقتضاب من لا يريد أن يمتن على الشيخ بدموع ذرفتها بالفعل وبفيض من المشاعر أنفقته من رحيق مشاعرى, ذلك لأن أضعاف ما بذلت وذرفت لا يُضن به على من مثله سيما وقد أحاطنى بالعطف وأنا يافع يتيم وبالرعاية والتعليم فى صباى ثمزوجنى بمن أحببت وظل يفتح علىّ مغاليق ما استعصى من العلوم والمعارف حتى غدا لى كالأب والمعلم والصديق الوفى: نعم! قال يغّيب سروره فى غمار الأمثال والحكم كما ظل يفعل على الدوام يدارى بها سروره وغضبه معاً: يا عيب الشؤم ! أويبكى الرجال؟ ثم خنقته العبرات فبكى حتى أسال الدمع من عينيه و حتى أشفقت عليه. فبادر يستجمع ثباته رابتاً على كتفى:حلاوة الدنيا كلها فى صحبة الأوفياء من أمثالكم. تعرف أنى قاربت المائة ولم أسأم سأم لبيد. ثم قال كالآمر يختبر حفظى قل ماذا قال ذلك الحكيم الضجِر؟
قلت قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد!
وزدته, كأنى أطمئنه على حسن حفظى,وقال بن أبى سُلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسئم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
قال دعك مما قال فى البيت الثانى فما خبرت الأمور إلا مقدرة تجرى بحكم وتدابير نعلم بعضها ونجهل جلها ولشاعر السلام فى عصور الفوضى والجهل والقتل, العذر فقد غادر الفانية وفم الزمان لم يفتر بالتبسم والكائنات لم يبدد ظلامها الضياء بعد وقد أدخل (دانتى) نظراء له فى جنته تلك وزهير أهل للتكرمة والإجلال بموازين العدل فى كل عصر ومصر.
قلت ربما كانت صحبة الأوفياء من محاسن الخصال فى الدنيا لكنك رجل تقلدت المناصب لعقود فقد كنت نائباً برلمانياً مشاكساً ووزيراً لأكثرمن مرة وكانت لك خصومات ومعارك مشهودة ألا يخلف ذلك فى النفس الكثير من الحسرات والمرارات التى تذهب بحلاوة المحاسن وتورث النفس الإملال و كره الحياة ومحبة الفناء؟ ألا ترى أن مذاق الحسرات والمرارات ربما هو الذى دفع رجلاً ضخماً مثل صاحب المعرة إلى الحيرة والتعجب من تشبثنا بحياة قل فيها الوفاء واستشرى فى عرصاتها الغدر وانحسر فى سوحها الخير حين قال:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى إزدياد
قال نعم تفعل ذلك المرارات لمن أعد كشفاً يعدد فيه المكاسب والخسارات جراء ما صنع من أفعال فى حياته كالتاجر الحاذق يفعل ذلك نهاية كل عام إلتماساً لخطط أمثل للعام التالى تغدق عليه من الأرباح والمغانم أكثر من التى سلفت يتحاشى ما وقع فيه من الأخطاء والخطايا, صُنع الناس فى الفعل المادى. أما الحياة الحقة التى تليق بالإنسان فهى لا تحتمل مثل ذاك الجرد السنوى حيث يتمنى الحى مثلاً لو أنه داهن هنا واستكان هناك متوخياً المنافع بكل وسيلة على حساب ما يعتقد أنه الصواب, أما أنا يابنى فما أقتنيت كشفاً فى حياتى كلها: لم أكن أحفل بإحتشاد حولىلغنى طارئ أصابنى ثم تبدد ولا بجاه تيسر لى وهو ما ذكرته أنت آنفاً ولا بصيت حسن حظيت به جراء قصائد من الشعر جادت بها القريحة فى سوانح من الصفاء صادفت قبولاً عند بعض الناس. كان ذلك الإحتشاد يزول بزوال أسبابه فوطنت النفس ألا تأسى عليه. كنت دوماً خفيفاً لا أحمل أثقالاً تكبلنى وتلجم لسانى ويراعى تحول بينى وبين الصدع بما أراه صواباً يتحقق به الخير للناس أجمعين حيث لا أخسر شيئأ. وكان بعض الخُلص من الأوفياء يشفقون علىّ ويحذروننى من عواقب ما أفعل بنفسى من إثارة دوائر الشر علىّ فأتمثل بأبيات الجواهرى رحمه الله:
بماذا يخوفنى الأرذلون ؟ ومم تخاف ِصلال الفلا
أيسلب عنها نعيم الهجير ونفح الرياح وبذخ العرا
فليس لى من حطام الدنيا ما أخشى عليه تماماً مثل الزواحف البرية تعيش شظف العيش فى هجير الصحراء عارية تتلقى حر السموم ونفح الهبوب ومع ذلك لا أزعم أنى لم أحبط من بعض ممن ظننت فيهم خيراً لم أجده وأحسنت الظن فيهم فلم يكونوا أهلاً له لكنها كدمات سرعان ما اندملت ودروس لطالما أعانتنى على السعى لفعل الخيرات دون إنتظار المكافآءت عليها فبت كما الناس جميعاً أسعد بالعرفان وأشفق على من إبتلاهم الله بلؤم الجحود و سؤ الطوية وخصلة النكران وأرجو لهم العافية من تلك الخصال لأنهم محرومون من نعمة السعادة بخصال الخير دون أن يصرفنى ذلك عن المداومة على الفعل الحسن.
قلت مستنكراً كأنك تعيش فى عالم غير عالمنا! قال بحزم كلا. أنت محبط يا بنى تظن أن الشر قد أمسك بخناق الحياة وأن الجحود والنكران سمة جديدة طارئة وأن الخير فيمن سبقونا كان أكثر. ارجع إلى محفوظاتك من أشعار المتنبئ وغيره من حكماء العرب وقد عاشوا قبلنا بألف عام وأحسن ما تستشهد به اليوم تصف به وتشكو التنكر والخذلان وتدلل به على خراب الدنيا و فساد الناس, إنما هو من أشعارهم وحكمهم فهم يلقون باللائمة على زمانهم كما نفعل نحن اليوم. فالناس هم الناس الخير فيهم مطبوع للحفاظ على النوع واستدامة الحياة لكنه قليل.. قليل بحاجة دوماً للسقاية والرعاية فهو فى قلة الأكسجين الذى لا تستقيم الحياة بدونه ومع ذلك فهو يشكل خمس الهواء لا غير. وقد سعدت بوفائك أنت لى وبوفاء أعزاء صادقتهم فى شبابى وكهولتى لم يبدل ودهم لى غنى طرأ علىّ ولا فاقة إبتلانى الله بها بل ظلوا يبذلون الود لى كاملاً غير منقوص على كل حال. شاركتهم السكنى وكنا لفيفاً من كل بقاع السودان. أربعة كنت واحداً منهم كنا فى عدد أقطاب الصوفية ندير السكن . كنا والله نعود ليلاً فلا نجد أّسِّرة ننام عليها من كثرة ما كان يغشانا من الضيفان وطلاب العلم فننام على الحصير ونروح فى النهار بعد الغدو فنجد أناساً لا نعرفهم يتوسطون ساحة منزلنا يغسلون ثيابهم أو يكوونها فلا نرتاب فى قادم وكان يسعدنا السعادة جميعاً أن نكون واحة يفد إليها الناس يحسنون بنا الظن. قال وقد سدت حلقه العبرات والله ما تخاصمنا يوماً من الأيام على شئ من لعاعات الدنيا ولا جلسنا نشتجر ونتحاسب على درهم أو دينار .كنا نتحسر على قصر الليل صيفاً وشتاءأ ذلك أنه لا يطول كما نشتهى فتبلغ نفوسنا حد الكفاية من لذة الأنس البرئ المفيد فأجسادنا المنهكة من طول السعى والطلب كانت أضعف من أن تقوى على هجمة الكرى يقتحم عيوننا عنوة فننام وفى أفواهنا أشياء عديدة من حتى. كان ذلك أكثر ما يزعج” الحاج” الذى كان تاجراً يملك وقته فيأتى بيقظة وحماسة من يحمل الأخبار و”بحوادث” سليم اللوزى من السوق وقد أحاطت بالبلاد والمنطقة يومها الأحداث والخطوب, كما هى اليوم, لا يواتيه النوم يروم سردها جميعاً على مسامعنا, لكن ينام القوم ولما يكتمل سرده للحكايات و الأقاصيص! أووه.. أووه.. يا لها من أيام ! ثم فرقت مظان العيش بأجسادنا فنأت بنا الديار وباعدت الأيام بين أسفارنا فوالله ما افترقت أرواحنا قط. لذا , اعلم يا ابن أخى أنى عندما حدثتك عن أن صحبة الأوفياء هى الزاد الذى صحبنى إلى هذه المرحلة من العمر وحبب إلىّ الحياة فإنى فلا أحدثك عن فراغ. والآن وقد سبقنى جل أولئك إلى دار البقاء فإنى أتربص فى شوق إلى اللحاق بهم.
وكان أن نعاه الناعى فجر اليوم التالى فقد رحل فى هدؤ وهو غارق فى النوم.
لوحات قلمية! (5): مرثية بمذاق السلوان!
0