درج الحذاق حتى من صغار أصحاب المتاجر على ما يسمونه بالجرد السنوى. وهى عملية تتلخص فى القيام برصد ما تبقى من بضائع اشتروها خلال العام بغرض المتاجرة فيها وتحقيق هامش من الأرباح يفى بضروريات الحياة لأصحاب الدكاكين الصغيرة أو (الكناتين) والكناتين جمع (كانتين) وفدت الى مدينة ودمدنى لا أدرى كيف ومن أين وهى كلمة فرنجية تعنى دكان فى حالة من الحالات وليس على إطلاق. وقد استعاروا كلمة (مخزن) فى بعض بلاد العرب للدلالة على الدكان وهى مترجمة وفيها خلط وتخليط يخالف المعنى العربى للكلمة الذى يعنى تخزين الأشياء بإطلاق بغرض حفظها فى حرز أمين وهو معنى لا يحمل ظلالاً من العرض والتجارة كما هو المراد منها اليوم فى تلك البلدان. والمتجر الصغير حيث تحتشد أغراض الحياة اليومية من مكونات الطعام والشراب فيه, يسمى عند العرب منذ أيام الجاحظ رحمه الله (بقالة) ويقال لصاحبه ( بقّال). المهم يقوم هؤلاء المكافحون بمراجعة ما حققوا وما لم يحققوا من الأرباح خلال عام من الزمان. وذلك لا يتم إلا بالتدوين. فالواحد منهم يكون قد دون فى دفاتره كم سلعة إشترى وكم منها كان بالنقد وكم كان بالدّين وممن من كبار التجارو كم باع منها وكم تبقى ثم يقرر إن كان مربحاً معاودة الكرة أو الإحجام عن شراء تلك السلعة وعرضها على الناس. والأمر نحو ذلك فى الشركات الصغيرة والكبيرة وتلك الكبرى متعدية الجنسيات التى تتحكم فى مصائر العالم بأكمله. وكلما دق التدوين وكلما كان حاوياً جامعاً لكل ما دق وصغر كانت النتائج أدق ومعينة على وضع الخطط المستقبلية.
ذلك هو الشأن أيضاً فى سوح السياسة. فإذا كان قدم البلد راسخاً فى التدوين فى كافة شؤون الحياة لمست ذلك فى مناقشات البرلمانات للموازنة العامة كل عام فهى تقوم على أسس من إحصاءات دقيقة فى مجالات الصحة والتعليم ومشروعات البنى التحتية والانجازات فى ميادين الزراعة والتصنيع وفى مجالات العمل الاجتماعى رصداً لمعدلات البطالة والتشغيل والدعم الاجتماعى ومحاربة الفقر ثم فى ميدان الاقتصاد والسياسات المالية وحجم الصادر والوارد وأرصدة الدولية ومدخراتها و علاقاتها بالدول الأخرى وهكذا. ولأن الاحصاءت تقوم على التدوين وتقوم بها مؤسسات الدولة المستقلة عن الحكومات تكون الصورة مهما تفننت الحكومات فى تذويقها وتحسينها أقرب للواقع وبالتالى يكون التداول حولها جاداً مفضياً إلى غاياته فى تحقيق الصالح العام . وفى الجمهوريات الرئاسية مثل الولايات المتحدة يخاطب الرئيس فى يناير من كل عام الأمة من تحت قبة الكونقرس بغرفتيه يحدثها عن ” حال الإتحاد” والإتحاد هنا هو فدرالية الولايات المتحدة التى تضم البلاد بأسرها. وهى عملية جرد سنوى كالتى يقوم بها صاحب الكانتين لكن الفرق بينهما أن الأولى تهم كافة الناس. ولا يزعم أحد أن هذه المكاشفات برلمانية كانت أم رئاسية مبرأة من القصور والنقصان وبعض ألاعيب البشر رغم إعتماد جلها على مدونات موثوق بها لكنها وسائل ناجعة لا يوجد سواها فى التخطيط السليم للمستقبل وأن ما يشوبها من القصور والنقصان لازمة من لوازم النقص البشرى الذى لن يبلغ حد الكمال. وتتخلل مثل هذه (العرضحالات) صوراً زاهية لمواقف بطولية ملهمة ومحفزة للتضحية والفداء ونكران الذات. وقد تابعت قبل أشهر لقاء تلفزيوناً بشاب فى الثانية والعشرين من عمره من قرية (المحمية) بنهر النيل إنقلب المركب الآلى (رفاس) الذى كانوا يستقلونه فى عرض النيل وأدى الحادث إلى بتر يد هذا الشاب وبالكامل من الكتف بمحرك المركب وهو يصارع الأمواج لينقذ حياة طفلين كانا ضمن ركاب المركب بيده الوحيدة الباقية وقد فعل. قال للمذيعة إنه سعيد بإنقاذ الطفلين ولو تكرر الحادث لفعل ما فعل. مثل هذا الصنديد يكرم ويرسل إلى الخارج ليعوض بطرف صناعى لأنه أصبح رمزاً من رموز البطولة والشهامة والرجولة الحقة. هذا من قبيل ما يرد فى الجرد السنوى من حساب الأمة فى خانة الإنجازات حافزاً للشباب ودالة تبعث الأمل فى خيرية الأمة.
والذى أريد أن أصل إليه هو العناية بالتدوين حتى يصبح بمرور الزمن من صميم ثقافة الوطن. ويتحقق ذلك بأن تحتفظ مدارسنا على كافة المستويات وفى بقاع السودان جميعاً بأعداد التلاميذ المسجلين فيها كل عام وبأعداد من تركوها وأن يطلب من السلطات المحلية تسجيل من لم يتمكنوا من الحصول على مقاعد فيها. وأن تقوم المستشفيات و المراكز الصحية ونقاط الغيار بتسجيل من يفدون عليها من المرضى وبأنواع الأمراض السائدة فى كل منطقة مع التنبيه إلى النقص فى المعدات والأدوية والكوادر البشرية فيها وكذلك بما يتوفر وما لا يتوفر فيها من الأمصال الضرورية الواقية للنشء من الأمراض والأوبئة. وينداح هذا العمل ليصل لتسجيل المواليد والوفيات وأن ترفع هذه السجلات كل عام إلى المراكز الكبيرة فى كل ولاية لتحليلها والوقوف على جوانب النقص فيها وتحديد الإحتياجات . ذلك لتضمين محتوياتها فى العرض الخاص المشخص لحال الإتحاد على المستوى الفيدرالى ثم إن هذه السجلات تعين فى نهاية كل عقد من الزمان فى عمليات التعداد السكانى. والخلاصة ألا تقتصر مهمة الإحصاء على مصلحة الإحصاء وحدها بل ينبغى أن تشمل كل إختصاص لأنه لا يقوم التخطيط فى أى مجال من المجالات دون إحصاءات مدونة. و من فوائد التدوين فوق تعميق غراس التوثيق فى ثقافتنا فإنه يقوى بمرور الزمن إستقلالية المؤسسات القائمة على الإحصاء والتوثيق ويقوى بالتالى ثقة المواطن فيها وفى جدواها فى وضع خطط وبرامج التنمية التى ستقوم عندئذ على الحقائق لا على الأهواء أو مجرد الفرضيات الإعتباطية كما أنها ستمكننا جميعاً من الوقوف على ما ينبغى عمله لتلافى جوانب النقص والقصور وإصلاح ما ينبغى إصلاحه من مرافق وسيشمل ذلك بالضرورة تمكيننا من الوقوف على إختلالات التنمية والتفاوت الكائن فى حظوظ أقاليم البلاد المختلفة منها بصورة علمية دقيقة تعين على معالجة تلك الاختلالات. هذا فضلاً عن كون التدوين سيترك لأجيالنا القادمة تأريخاً موثوقاً به مدوناً تبنى عليه من مكتشفات عصورها ما يعينها على نوائب أزمانها ومنعرجاتها.
فى المشافهة والتدوين!
0