مبلغ علمى, وفوق كل ذى علم عليم , أن العربية لا تعرف كلمة “أنسنة” هذه التى جعلناها عنواناً لهذه المقالة أو قل لا تعرف هذا الإشتقاق من كلمة (إنسان) ولكنها كلمة أريد لها أن تكون ترجمة لكلمة فرنجيةهى مصدر الفعل (humanize) تروم نزع القدسية و”اللابشرية” عن أناس مثلنا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق لكن سمقت قاماتهم وعلا كعبهم فأحاطت بهم هالة من القداسة كادت تخرجهم من نطاق البشرية التى حين ينتسب الإنسان إليها تجرى عليه سنن الطبيعة التى تجرى على سائر الأحياء : الجوع والعطش وإتيان الصواب والوقوع فى الغلط والضعف والمرض والفناء. فكأن إستخدام الكلمة بهذا المعنى تأكيد لبشرية الإنسان التى تكتنفها بالضرورة النواقص ولا عصمة لها من مقارفة الأخطاء وربما الخطايا. فالكلمة إشتقاق من كلمة (إنسان) ولأن كلمة إنسان ذات مضامين نبيلة تميز الإنسان عن سائر الحيوانات بتلك المضامين القيمية , كان الأوفق أن يكون الإشتقاق من كلمة (بشر)لأن السلوك الإنسانى كلما تسامى بعداً عن سلوك الحيوان (تأنسن) وهو إستخدام صحيح ودارج أيضاً و هو أحد معنيي الكلمة مستخدم أيضاً فيقال (فلان الإنسان!) تثميناً لمزاياه فى المكارم والرفعة. لكن قد أعيانى الإشتقاق من كلمة (بشر) ولعل الإشتقاق منها يتناسب بل يفك شفرة (أساطير) هذه الواردة فى العنوان أيضاً وأن المقصود بها ليس حرفية كلمة أسطورة التى تعنى محض الخرافة وهى هنا (أساطير) ترجمة لكلمة (legend) الفرنجية بالجمع . والتى تعنى الإنسان المتفرد فى خاصية من خواص الكمال تبقيه على مر الأزمان تماماً علماً كالأساطير وتطلق ايضاً على حصاد أولئك المتفردين بالإنجاز كخرائد الأشعار وروائع القصص والروايات وبالجملة كل منتج متميز. وهى بذلك تختلف عن معنى الكلمة الأخرى التى تترجم ذات الترجمة لكنها بمعنى خرافة محضةmyth ( والفرق بين الكلمتين فى المعنى فرق مقدار). وبالمناسبة فإن معنى اسم رئيسة وزراء الباكستان السابقة ( بينظير بوتو), هو: التى لا نظير لها . فكأن كلمة (بى) فى الأردية تعنى (لا) لو لا أن تفندون. وهذا المعنى قريب من معنى أسطورة الذى يستخدم لوصف المتفردين فى الفنون والعلوم والمهارات قاطبة ومنهم من ينتهى صيته إلى سجلات (قنيس) الشهيرة.
والمعنى المراد من (الأنسنة) فى هذه المقالة هو المعنى الأول: نزع القداسة وتأكيد بشرية الموصوف من الناس. والتأكيد على بشرية المتفردين ينزع العذر عمن يتحاشى تقليدهم ومحاولة التشبه بهم فالتشبه بالرجال فلاح. فهم مع سمو أقدارهم بشر ممن خلق الخالق يلزم الإقتداء بهم فى الصبر على كظاظة المسعى ولو إنتفت عنهم صفة البشرية لإستحال الإقتداء بهم فنحن لا يمكن أن نحاكى الملائكة ولا نقدر على الإقتداء بهم. كتب رفيق الدكتور مارتن لوثر كنق زعيم حركة الحقوق المدنية (رالف أبارنثى) كتاباً فى أواخر أيام حياته , فى العقد الأخير من القرن الماضى عن رفيق دربه وكفاحه, الدكتور كنق عدد فيه مناقبه لكنه تحدث عن نواقص كانت عند الرجل منها علاقات له مع نساء خارج قفص الزوجية فووجه الكاتب و الكتاب بنقد حاد من مريدى ومحبى الرجل الأسطورة فدافع (ابارنثى) بأن ما قاله فى حق الرجل هو الحقيقة التى أراد بذكرها تحفيز ناشئة السود فى الأحياء الفقيرة بأن يتخذوا ( الدكتور كنق) قدوة بما أنه ليس ملاكاً وأنه مع تلك الصفات البشرية المشتملة على النواقص, أصبح رجلاً عظيماً قدم خدمة عظيمة للإنسانية جمعاء. وقبل عامين أوثلاثة صدر كتاب عن استاذ مارتن لوثر وقدوته فى فلسفة مقاومة الظلم دون عنف ,هو المهاتما غاندى.أورد الكاتب فيه إشارات معيبة فى حياة الرجل العظيم تتعلق بحياته الجنسية. ويأتى ذلك ايضاً فى سياق رفع القداسة عن الرجل وتأكيد بشريته أو فى محاولة ل (أنسنته) إن شئت.ولم يرق لى ما رأيت مؤخراً فى الأخبار فى شأن المتنافسين على رئاسة الحكومة فى إستراليا وهم يركضون على ساحل رملى بدون أقمصة تستر صدورهم العارية يتأنسنون! ورأيت فى ذلك إبتذال لا يليق.
وفى سياق هذه (الأنسنة), جعلت مجلة “شؤون خارجية” موضوع غلافها لعدد سبتمبر/ أكتوبر 2013
مرشد الثورة الإيرانية على خامئنى بصورة فوتوغرافية بحجم الغلاف بحثاً تقول فى تجويفات عقله لمعرفة ما يدور فيه خاصة فيما يتعلق بعلاقة إيران بالغرب عموماً وبالولايات المتحدة بوجه خاص. ولأن كاتب المقالة الطويلة (23) صفحة, هو السيد أكبر قانجى وهو صحافى ومعارض إيرانى مكث فى سجون إيران ست سنوات من 2000 إلى 2006 وأن كتاباته ممنوعة من التداول هناك , فالمرشد ليس عنده من الأساطير على النحو الذى شرحنا آنفاً إلا أنه رجل يبدو لغزاً بالنسبة للغرب يلزمحل طلاسمه ومن ذلك (أنسنته). ويبدو أن الأمر مرتبط بوصول رجل إلى رئاسة إيران محسوب على تيار الإعتدال هو السيد حسين روحانى,و أن مجرد موافقة المرشد الأعلى للنظام– وهو السلطة المطلقة فى البلاد- على الموافقة على ترشيح روحانى للإنتخابات وفوزه يمثل تغييراً فى رؤية المرشد على خامئنى للعلاقات مع أمريكا تحديداً لذلك يأتى جهد تسليط الضؤ على الجوانب الإنسانية للرجل الغامض توطئة لتسويق فكرة التغيير تلك والإيماء بأن الرجل حسب تكوينه ليس صخرة صلدة من (الدوقما) التى لا تلين ولكنه رجل (براقماتى) مثقف يعيش عصره ويمكن بالتالى التعامل معه : لنتابع:
ولد المرشد على خامئنى عام 1939 فى مدينة مشهد لأب من صغار علماء الدين اقتفى أثره الابن بالإنخراط فى التعليم الدينى ثم انضم وهو شاب للمعارضة الدينية لنظام الشاه عام 1962 وكان قبل ذلك وثيق الصلة بالإنتلجينسيا العلمانية المبغضة للغرب بسبب وأده لحكم مصدق بل إن شكوكه إزاء الغرب نتجت عبر إحتكاكه بتلك المعارضة العلمانية.وكان بين القلائل من رجال الدين المحبين للشعر والموسيقى إلى جانب القانون الإسلامى وقد قرأ روايات الكتاب الإيرانيين ثم قرأ الروايات العالمية لتولستوى وميخائيل شولوكوف وقرا لفيكتور هوغو روايته ذائعة الصيت “البؤساء” وقال عنها:
” فى رأيى تعد رواية فيكتور هوجو, أفضل رواية كتبت على مدار التأريخ. إننى لم أقرأ بالطبع كل الروايات , لكنى قرأت العديدمن الروايات المتصلة بالعديدمن القرون التى خلت. قرأت الكوميدياء الإلهية لدانتى وقرأت أمير أرسلان وكذلك ألف ليلة وليلة… لكن البؤساء تعد معجزة فى عالم كتابة الرواية. لقد قلت مراراً وتكراراً اذهبوا فاقرأوا البؤساء. إن كتاب البؤساء يعد كتاباً فى علم الإجتماع وكتاباً فى التأريخ وكتاباً فى النقد وكتاباً فى الروحانيات والحب والمشاعر.”
وكان يتخذ قراءة الروايات مدخلاً لمعرفة الحياة والفكر فى الغرب. وقد نصح الشباب فى حديث له عام 1996 بقراءة روايات مثل “كابينة العم توم”. و”أعناب الغضب” وغيرها. أما فى نسخته الراديكالية فقد تاثر بسيد قطب وترجم بعض كتبه للفارسية وكان معجباً بكتابه “المستقبل لهذا الدين”وكتب فى مقدمة الترجمة كلمة قرظ فيها الكتاب والمؤلف. وقد تاثر بتقسيم سيد قطب للعالم لدارين فقط : دار الإسلام ودار الحرب.
ومع ذلك فالرجل يقرب الريادة للغرب. قال للشباب فى مدينة (رشت) على بحر قزوين عام 2001 ” إن من الخصائص الحسنة لدى الأوربيين استعدادهم لإقتحام المخاطر وصبرهم على العمل الشاق… إن عظماء الغرب من المخترعين عاشوا حياة شاقة وهم عاكفون على البحث حتى حققوا الإختراعات…”
وعن أمريكا قال عام 2004 ” إن أمريكا تمثل قمة الرقى المادى للحضارة فى مجالات العلوم وتجميع الثروات والقوة العسكرية والجهود السياسية والدبلوماسية. إنها البلد الذى يملك ثروة اسطورية وقوة عسكرية وحراك سياسي فوق العادة.” وقال إن العلم والتكنولوجيا هما السر فى قوة ورفاه الغرب بينما الأنظمة الإستبدادية فى العالم الثالث هى سبب تخلفه.
وفى عام 2007 خاطب خامئنى تجمعاً للطلاب فى مدينة (يزد) قائلاً:
” إن أحد ثوابتنا السياسية قطع العلاقات مع أمريكا. لكننا لم نقل أبدا إننا سنبقى عليها مقطوعة إلى الأبد. كلا لايوجد سبب لقطع العلاقات إلى الأبد مع أى دولة من الدول.”
لكنه استدرك بأن العلاقات مع أمريكا مضرة ببقاء واستقرار إيران وأن وجود علاقات دبلوماسية بين العراق وأمريكا لم يعصم العراق من الغزو الأمريكى وأن أمريكا تريد العلاقات مع إيران بحثاً عن موضع قدم لزعزعة الإستقرار فيها.
ومع ذلك يخلص الكاتب إلى أن تحسين العلاقات بين البلدين رغم صعوبته ليس مستحيلاً فى إشارة إلى ما قاله المرشد الأعلى آنفاً وأن بإمكان أمريكا رفع العقوبات الإقتصادية عن إيران وتأكيد أنها لا تستهدف النظام وفى المقابل يتعين على النظام بسط الحريات ودمقرطة الحياة السياسية وإقناع أمريكا والغرب بسلمية البرنامج النووى الإيرانى.
ورغم التوقعات بأن يصافح الرئيس الإيرانى حسين روحانى نظيره الأمريكى الرئيس أوباما فى نيويورك الثلاثاء 24 سبتمبر على هامش إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة , موعد مخاطبتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة , إلا أن ذلك لم يحدث حيث تحاشى الرئيس الإيرانى ذلك خوفاً من ردة فعل المتشددين فى بلده قائلاً يجب أن نعطى الدبلوماسية وقتها مشيراً إلى إجتماع سيضم وزيرى خارجية البلدين لأول مرة ليشكل البداية للتعاطى الدبلوماسى بين البلدين. ومع ذلك فقد أسمع كل منهما صاحبه ما يريد سماعه عبر خطابيهما للعالم إذ أكد أوباما أن بلاده لا تستهدف النظام فى إيران وفى المقابل أكد روحانى أن بلاده لا تريد مطلقاً صنع قنبلة نووية وأن ذلك يتناقض مع معتقداتها الدينية. وكان روحانى قد نشر مقالة فى 22 سبتمبر الحالى بيومية ” واشنطن بوست” ذات نبرة تصالحية للغاية تجاه أمريكا والغرب مشيراً إلى أنه يحمل تفويضاً من الشعب الإيرانى لإصلاح العلاقات مع أمريكا والغرب عبر الدبلوماسية . يشار أيضاً إلى أنه تبادل الخطابات مع الرئيس أوباما كما أطلق تغريدة مهنئاً اليهود فى العالم ببداية السنة اليهودية (روش هاشاناه).و أوردت فضائيات أخرى أن روحانى قد تلقى تفويضاً من المرشد الأعلى ومباركة من الحرس الثورى الإيرانى عشية مغادرته إلى نيويورك للقيام بأى خطوات دبلوماسية يقتضيها الحال لتحسين العلاقات مع الغرب . من جانبه أكد الرئيس روحانى أنه مستعد لحوار بناء فى ذلك الشأن دون شروط مسبقة.وعلق خبير إيرانى قريب من النظام هناك أن الأمر قد يصل حد وقف تخصيب اليورانيوم مؤقتاً كبادرة حسن نية من جانب إيران لبناء الثقة بين إيران والغرب…
هل هناك من صفقة تطبخ تشمل الأوضاع فى سوريا؟ ولم لا إذا كانت السياسة هى فن الممكن! ومع ذلك
نقول مع طرفة بن العبد:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
فى (أنسنة) الأساطير!
0