حلوا بالمدينة الساحلية الكبيرة فى الخليج تماما مثلماحل آباؤهم من قبل بالخرطوم مثل دود الأرض من كل حدب وصوب, سحنات تتفاوت بين السمرة الداكنة والسواد الفاحم وملامح من كل الأعراق والأصقاع. حل آباؤهم بالعاصمة الخرطوم أواخر ثلاثينيات القرن الماضى ولما كان البيضان من كل جنس قد سبقوهم الى قلبها وأحالوه الي حديقة وارفة الظلال مدهامة الخضرة لم يكن لأولئك الغبش الأشاوس من ملجا يلجأون اليه سوى الأطراف المجدبة المتربة التى احالوها بعد حين الى شىء من قراهم فنشأت السجانة والديوم الشرقية والغربية والحلة الجديدة , بيوت من الطين الخالص تتدرع كل عام بالزبل الخالص وينتشى السكان بالعبير الفواح وينظرون الى السماء يتحدون المطر:
عيون الحلة فى عين الخريف لابسالا كاكى
مدرعة بالزبل عاجبانا نفخر بيها فوق سقف الزناكى
انت كركى يا الرعود وانقد يا سحب الخريف قدر الله جاكى
عظمتها أنها أنجبت رجالا فى قامة اسماعيل حسن قائل الأبيات آنفة الذكر الذى قال بين يدى هذه الأبيات: كان أهلنا الغلابة فى السجانة والديوم بعد أن ينجزوا مهمة كسوة بيوتهم بهذا الزبل ينظرون الى السماء يستمطرونها “آ ربى الليلى المطرة ما ها جايى واللا شنو!؟”
لقد تفنن الخلف من ذلك الجيل فبنوا داخل الحيشان الضيقة حمام الدش واقتنوا الأرائك وفيما بعد الثلاجات وأجهزة التلفزيون ليستقبلوا الأقنية الفضائية. ولكن رغم ذلك اتسعت هذه الحيشان الضيقة لحظائر الأغنام وأقفاص الحمام والدجاج وكثيرا ما اختلطت فى الأسماع أنغام الموسيقى الغربية الصادرة من الآلات النحاسية المنبعثة من قنوات التلفزة بثغاء الأغنام فى أول الليل وفى أواخره بصياح الدجاج! وكثيرا ما خالطت روائح بخور الصندل المحببة المثيرة للغرائز رائحة النتن المنبعث من روث البهائم. ومن هذه الدور المتواضعة يخرج فى الصباح الباكر الأفندية والأفنديات فى ملابس زاهية يفوح منها عبق البخور وأريج العطور المستوردة. جمع غريب بين النقائض والمتناقضات , حالة تتساهل فيها البندرة والحداثة فتعانقان البداوة القحة والتقليدية المحافظة . لا تقف الاشكالية عند حد الأشكال و الهياكل والمظاهر الخارجية فى رأى الاكاديمى البريطانى بى ام هولت بل تتعداها الى صميم فكر الأفندى السودانى نفسه الذى عالج اشكالية التناقض بين الثقافة المعاصرة التى أتته عبر التعليم الغربى و بين تقاليد المجتمع السودانى فحصر الحداثة والمعاصرة فى سلوكه العام الذى تقتضيه متطلبات الوظيفة الرسمية ليتقهقر بعد ساعات العمل الرسمية مسترخيا فى كنف ثقافته التقليدية متسربلا بمآكلها ومشاريبها ولباسها أيضا..
نعم حل أولئك الفتية وهم بعد فى ميعة الصبا وشرخ الشباب منتصف سبعينات القرن المنصرم بالمدينة الكبيرة فى الخليج وكانوا قد تخرجوا للتو من معاهد التعليم العليا فى السودان.. خرجوا وعيونهم دامعة وخواطرهم كسيرة وأفئدة بعضهم هواء! كيف لا وقد خرجوا كموسى من المدينة خائفا يترقب. كانوا على خلاف غيرهم لم يخرجهم بريق الذهب الوهاج الذى تلألأ فى سماء الخليج يومئذ والذى أخذ بالقلوب والأبصار وانما أخرجهم بطش النميرى الذى كان نظامه قد ترنح يوم اذن تحت وطأة ضربات موجعات من الثورات والانتفاضات توالت عليه أفقدته صوابه فطارت أجهزته القمعية فى كل اتجاه تنقب عن مصادر البلوى ومواطن البلاء فحصلت على قائمة خريجى عامى 1974 و1975 فجىء بهم من كل صوب وحدب حتى امتلأت بهم السجون وضاقت بهم المعتقلات. كان بعضهم قد ذاق لتوه (قبض المواهى) فأذاق الوالد المريض والأم المسنة حلاوة الكد والسهر والعرق الذى امتد سنين العمر الخاليات.
كان عمر هذا الخدر اللذيذ جد قصير فسرعان ما انتشر المخبرون فى الوزارات والمصالح الحكومية والمدارس يحصدون هذا الشباب الغض ويسوقونهم الى المعتقلات بتهم التآمر على الدولة بانتمائهم لأحزاب وهيئات تناصب الحكومة العداء. فجعت الأمهات المسنات ومات بعضهن تحت وطأة الصدمة القاسية وتهاوت عزائم الآباء الوقورين وأحسوا أن حصاد السنين قد تسرب من بين أيديهم وهم فى مسيس الحاجة اليه وقد وهن العظم وانهد الحيل فبكوا كالأطفال وأبكوا . ورغم أن فترات الاعتقال بجل هؤلاء الشباب لم تمتد سوى لأشهر معدودات الى أن أرزاقهم كانت قد قطعت وظل سيف الاعتقال مسلطا على الرقاب كلما صاح صبية صغار فى الشوارع الفسيحة أو الأزقة الضيقة:
( سفاح …سفاح …. يا نميرى) وما أكثر ما كانوا يفعلون. وبدأ همس الأمهات الضعيف فى آذان الأبناء يعلو ليصبح كالصياح وهن يذبن ألما وتتفطر أفئدتهن أسى:
— يابا سافر الله يعدله عليك!
ويجيب الابن بذات العذف الحزين:
– يما أسافر وين واسافر كيف وأبويا كبير واخوانى صغار؟!
تقول المكلومة تطرز قولها العبرات والآهات:
-يابا قتلك سافر نحن خا.. خا .. خايفين لك من السجن. الله ما بيضيع عبادو.. دحين سافر حبيبى الله ما بيضيع عبادو.
ما عهد الناس فى السودان الأمهات محرضات على سفر.
والذى لم يذق غيابات السجن خشى عليه ذووه أن يؤخذ اليه فحثوه على السفر وباعوا بعض المتاع ليوفروا له متطلباته من تذاكر ومصاريف وصرفت بعض الأمهات الحلى والمصاغ لتحقيق تلك الغاية. قال العم ود شبو صاحب دكان فى الحى يحرض أحدهم على السفر:
– يا ولدى الماب يخاف الله خافو!
وهكذا تقاطر الرعيل الأول من المغتربين الى بلاد الخليج وهم كارهون. قال ( أرصد) وهو يسترجع ذكرى خروجه من الخرطوم حزينا :
” قضيت ليلة سفرى عند شقيقتى فى الكلاكلة وعند الصباح حملت حقيبتى الى الخرطوم لأتوجه منها الى المطار على متن احدى باصات أبو الرجيلة الصفراء الزاهية وكانت لم تزل عروسا بهية الطلعة. وما أن استقر بى المقام على احد المقاعد حتى انطلق من مذياع البص صوت الرائع محمد كرم الله:
أقيف ياطيف هى كدى استنانى وين فايتنى عابر
أنا شن حارس وراك أنا تانى يانى معاك مسافر
وين حتى الطيف رحل خلانى ما طيب لى خاطر”
قال وهو أديب ذواقة مرهف الحس:
“كادت نفسى تزهق من وطأة الحزن فلعنت فى نفسى السفر وأسبابه ولم أعبأ بمن حولى فى الحافلة الكبيرة فبكيت فى صمت وأطلقت لدمعى العنان ثم رفعت رأسى لأجد بعض الوجوه تتطلع الى فى شفقة بادية فازداد حزنى على مفارقة هذه الوجوه الحبيبة الخيرة التى لا أعرفها. رأيتهم جميعا بعين الخيال يبكون فراقى ويشكون لوعته.”
وهكذا استدار الزمان كهيئة يوم أن حل آباؤهم ببلد (الترك) الخرطوم فماثل حلولهم بالمدينة الكبيرة فى الخليج حلول آبائهم بالخرطوم: غرباء يتوجسون من مجمل حال تلك المدينة التى لم تكن أحن عليهم من الخرطوم على آبائهم ولا أكثر حفاوة ولا دفئا فلفظتهم مثلما فعلت الخرطوم بآبائهم الى أطرافها المتربة المتعبة وبدأت صفحة جديدة عجيبة فى حيواتهم!
كان أرصد , سارية, عبد العزيز وأصيفر من زمرة أولئك الأفندية الذين ذكرنا فى مقدمة هذا الحديث الذين يخرجون من بيوت الطين فى السجانة والديوم والقوز والمايقوما فى الصباحات الندية وغير الندية فى كامل الاناقة يعلوا وجوههم البشر وتفوح من أعطافهم العطور الباريسية وربما نسوا فى بعض الأحيان وخاصة فى الأيام التاليات لقبض المواهى من أين خرجوا قبل حين فغشيهم طائف من مس الغطرسة فتأففوا من صعود الباصات ومزاحمة الغبش الأشاوس فامتطوا صهوات التكاسى أو الطراحات الى حيث يعملون .
استأجروا معا, أرصد وسارية وعبدالعزيز أما أصيفر فكان لا يزال ضيفا طوحت به النوى , بيتا صغيرا بل متناه الصغر لا يوجد نظير له فى ذلك حتى فى ديوم الخرطوم. أرصد من ذكرنا آنفا كان فارعا ممتلأ يحفظ كثيرا من شعر العرب والفرنجة تخالط عربيته أحياتا لكنة الدناقلة المحببة. هالة من نبل تتحرك بقلب طفل برىء. أما سارية فقد كان فارعا وعلى عكس أرصد كان نحيلا متناه النحافة فى سحنة ( الشوكلاتة) دقيق الملامح بأنف أقنى متأنقا فى الملبس دمث الأخلاق فيه دعابة قاسية أحيانا. أما عبد العزيز فقد كان ممتلأ فاحم اللون يتمتع بعاطفة صادقة وكان ضحوكا ودودا. أصيفر لم يكن بالقصير المشذب ولا بالطويل الذى طوله قد بان. أقرب الى النحافة أو قل الهزال كان أفتحهم لونا يبدو أكثر شبها بأهل عمان أو حضرموت. مزيج عجيب من جد وهزل, دين ودنيا كانوا يسأنسون به وبأحاديثه.
كان البيت الذى استؤجر فى أطراف المدينة مكونا من غرفتين أزيل الجدار الفاصل بينهما فبدتا معا كغرفة واحدة متوسطة الحجم. وهناك مطبخ شديد الصغر وحمام بلا سقف مزود بحنفية واحدة شحيحة العطاء خصصت للنظافة والاستحمام معا وربما فى زاوية منه كان المرحاض وهو بئر كسائر الآبار التى نسميها بتسميتها الفارسية والتركية ( أدب خانة) أى بيت الأدب حيث يكره الكلام ويستحب الصمت تأدبا. هذا البيت الصغير الحقير استؤجر من رجل لا يمت اسمه الى مسماه بسبب. كان اسمه( فيصلا) ابتلاه الله بمرض أضاع ملامحه. ولما كان مكثرا ملحاحا سىء المقاضاة فقد ضن عليه سارية الذى أبرم معه العقد باسم الفيصل فسماه ( أبو مركوب) وأبو مركوب هو مالك الحزين فى عامية أهل السودان.وهكذا أصبحت التسمية علما على الرجل ( جاء أبو مركوب ذهب أبو مركوب).
كان هذا البيت خلوا من كل زينة فلا يوجد به أى نوع من أنواع الأثاث. كان النوم على مراتب الأسفنج المبسوطة على الأرض. وكان الشراب من (سبيل) فى سوق قريبة. والسبيل كان عبارة عن حنفية شاخصة من جدار يعود لأحد الموسرين تصب ماء كثير الملوحة الا أنه بارد شديد البرودة مما كان يساعد على تجرعه. قال عبد العزيز: كان الكسل يحمل ( أصيفر) على التسلل ليلا ليرتوى من ذلك السبيل دون أن يحمل اناء خشية أن يكلف بجلب بعض الماء معه أو لعله كان يروم أن يكون خفيفا ليعدو اذا استوقفه ( العساس).
ثم ضاق هذا البيت الصغير بأهله فكان كل ما خرج أحدهم الى العمل جاء بصديق وجده على أرصفة المطار أو الميناء يفترش الأرض ويلتحف السماء فامتلأت الغرفتان بنحو عشرة أشخاص كانوا اذا ناموا باليل تسمع لهم غطيطا خارجه. ولعلنا نجد فسحة من العمر وفائضا من الأوقات لنقص عليكم ما كان من أمر أولئك النفر. والى لقاء.