دموع القطار!

القطار الطلقة الذي يسابق بحق الريح والذي شبهوه لسرعته تلك الفائقة بطلقة الرصاص تنطلق من سلاح فتاك لا تلوي علي شئ حتي تصيب هدفها ,لم يكن هو قطارنا الذي زعموا أن بإمكانه أن يسابق الريح فقد كان ذلك القطار المبتغي جنيناً في رحم الغيب أو ربما مجرد فكرة جالت في دماغ عبقري هناك في بلاد الشمس المشرقة في شرق الدنيا. أما قطارنا نحن الذي كنا نعرف ,فكان مثلنا خلقاً تمور في أحشائه النيران المحرقة تتأجج وهي تتغذي علي الفحم الحجري الصلد كما الصخور ويحتاج كما نحتاج لماء كثير فهو يصيبه الظمآ فيشرب مثلما. بلي يشرب حتي يرتوي وإذا ارتوي تكثف واستحال الماء إلي بخار, أي إلي طاقة بمقدورها تحريك هذه القاطرة التي تسحب خلفها العديد من المقطورات البيضاء الزاهية الألوان أو هكذا كنا نخالها, فيعدو في خفة منتشيا أو مغاضباً لا فرق, فتصدر من رزيم صدره النفثات بف.. بف.. لذا حاكاه المغني زنقار :
من بف نفسك يا القطار
ورزيم صدرك قلبي طار
وينو الحبيب انتو شلتوا
جيبوا يا القطار….
تلك كانت فعلات القطار خطف الحسنوات وكسر خواطر وقلوب العاشقين!
وقد سلم إلي حين من مصيرعرائس مثله كانت تسبح علي النيل. الجلاء وكربكان والزهرة وعطارد كانت تصيب بجمالها وبتطرية حضارة القرن العشرين الدهشة والسعادة معاً ولكن ولأنها كانت “تطفش” الجميلات إلي خارج الإقليم دعا عليها ضحايا ذلك الرحيل المشؤوم من العشاق الذين لم يظفروا( بلما) الحسناوات, فأصابوها جميعاً في مقتل فأصبحت أثراً بعد عين ثم لحق بها القطار:
وصميم مكناتا تلتهم الحريقة
تعيق في الناس إله الناس يعيقا
لكن القطار كان مصدر فرحنا وبهجاتنا نحن الصغار يومذاك يطربنا صرير عجلاته علي القضبان الحديدية وينقلنا إلي ربوع متشاكلة و أخري متباينة من أرض السودان الفسيح من قبل أن نعرف السينما والتلفزيون تلكم الوسائط التي بدأت تنقل إليك العالم وأنت ههنا ” لم تنتقل وكأن رأسك يحلم!”
وفوق ذلك كان هذا القطارهو الرابط الوحيد بين عالمنا وحضارة القرن العشرين. الصعود إليه وخاصة إلي (قمراته) مظنة الوجاهة والصيت خاصة إذا جاءت بتساريح (تصاريح) حكومية لآنها دالة علي وظيفة الراكب. لذا كان بعض الخفاف يقحمون ذكر (التسريح) في أنسهم في غير مقحتم فيجلبون لأنفسهم السخرية وربما الحسد!قالت احداهن تتباهي بزوجها ابن العم وبصنيعه الحسن معها:
بطرني و في القمرا ركبني!
هو الزوج إذن, ابن العم. وهل كان الزوج إلا ابن العم!
وقالت أخري تتوسل لزوجها, أما هذه المرة فهو ابن عمتها :
الرسول يا ود عمتي إن درتا راحتي وجمتي
رسل التسريح اللجي …..
وتأتي المقطورات تراتيبياً بعد الساحب أي القاطرة التي لم تكن تحمل جماليات تذكر فقد كانت أشبه ما تكون بالجاموس البري المتوحش: تبدأ بصالون(غرفة بمنافع) يكون مخصصاً لواحد من كبار المسؤولين أو لصراف يوزع المرتبات علي عمال وموظفي الحكومة في الأقاليم التي يمر بها القطار أو لعواصم تلك الأقاليم والمراكزثم عربة مكتوب عليها (نوم) ثم الدرجة الأولي فالثانية فالثالثة فالرابعة تليها في المؤخرة عربة الفرملة. وتتوسط هذه السلسلة عربة البوفيه أو السناطورالمجهزة بأطايب المأكولات والأشربة حلالها وحرامها! والقرن العشرون يتمثل في هذه الوسيلة الوحيدة التي لا تجرها خيول ودواب كالشأن في الناقلات في جل بنادر السودان يومئذ كما أنها مسرجة بالكهرباْ لا بالكيروسين وكان ذلك هو حال ما يقارب المائة بالمائة من بيوت السودانيين في الحواضر والأرياف! ألا تري يا صاح أنا كنا محقين في الحفاوة بهذا القطار؟!
نعم قالت شاعرة من قريتنا تصورتعدد الأمكنة التي ينقلنا إليها علي اختلاف مناظرها :
نمشي في الكاب أب تسالي ويا ست الترمس تعالي!
والكاب كانت محطة عامرة في أرض المناصير لعلها المسكينة اليوم في قاع البحيرة التي تم بسببها التضحية بالكاب ليقوم سد مروي. كانت مصدراً لري القطار و بها فنطاز ضخم يساق إليه القطار للتزود بالماء فرحاً كما تخيلنا يصدر صافرته المجلجة كصفير الريح في ليلة شاتية. يقول لنا الكبار ذهب ليشرب! ومعني ذلك تمهلوا في شرب الشاي والجبنة وفي إزدراد حبات البيض المسلوق (جنا الجداد وقتها) فالحبتان كانتا بقرش ونصف و يا للرخاء يوم ذاك!
والمبتدأ كانت كريمة وكانت بندرا صغيرا لم تدخله الكهرباء بعد, لكن نادي السكة حديد القريب من المحطة كان مسرجاً بمصابيح النيون لبعض الليل ربما بمولد. كانت كريمة تستمد وهجها ومحبتها من هذا القطار فينتهي مشوار الرحلة من الخرطوم عندها لتتولي الباخرة النيلية بقية المهمة في النقل والتواصل عبر البريد (البوستة) وما أدراك ما البوستة التي من فرط أهميتها تناسي الناس اسم هذا الناقل الجميل فأسموه البوستة بينما البوستة بعض محمولاته. كانت تحمل المرتبات للموظفين والعمال أينما انتهي بهم الوظيف الحكومي في تلك الأنحاء والمصاريف للأهل القابعين هناك وربما طرود بمنقولات ثم الجوابات (والجواب) كان نصف المشاهدة فيه تسكب العبرات حنينا دافقا أو تعزية في عزيز قد رحل.
يا حليل الراحوا….
يتجمع ركاب المناطق القادمين من كل البلدات والقري الواقعة شمال كريمة حتي الحدود المصرية في كريمة يتفيأون ظلال النيم الوريفة عند مدخل المحطة حتي إذا فتحت الأبواب تسابقوا بالصفائح المجوز وطرود التمر والفول يقتحمون الأماكن في القطار ويثور شغب علي الشواغر في القطار ثم سرعان ما يهدأ إذا تحرك القطار فيجتمع الخصوم يشتركون في إلتهام أقراص القمح المنقوع عجينه بالتمر والمدهونة بالسمن البلدي (كسرة التمر) ملفوف فيها قطع اللحم المحمر تؤكل مع الدقة , تلك هي الزوادة كما يسمونها ولا سبيل إلي الشاي إلا في محطة الكاب. والقطار يتحرك من كريمة إلي الكاسنجر. والكاسنجرالبلدة تزدان ببساتين النخيل والفاكهة والجروف الخضراء وقبة المادح الأسطورة حاج الماحي إلا أن المحطة خلاء موحش في صحراء العتمور. تليه الدغفلي وهي مثل الكاسنجر لا شئ فيها وربما خصصت هذه المحطات وفقاً لطاقة القطار علي الأداء في ذلك الوقت بما يلزم معه التوقف من حين إلي حين لضرورات يعرفها الصانع. والقطار في انطلاقه نحو الجنوب في مساره الطويل إلي الخرطوم عند هذه المحطات ثقيل الحركة كعجوز أو كشيخ فان يتسلق جبلاً! لذلك صُور لنا ذلك بالقول:
الدغفلي قلبي انقطع ……الدغفلي قلبي انقطع!
وقطار كريمة في مواسم حصاد التمور مثقل مكدس بالتمور:
دا قطر كريمة مي ملان لا عينو ديما
والمنقة وكتين تستوي
تلقاه للوكاي زرد
في أشعار الرائع محمد جيب الله ود كدكي.
وعلي ذات الشاكلة كانت محطات كحيلة ومحيسة وأم رهو وأم غربان. لكن هذه المحطات البائسة تجلب الفرح وتستدر الدموع لمشتاق قادم للبلد للزواج ولقاء الأحبة والأهل فهي بشارات بقرب الوصول ونوال المبتغي: غني ود اليمني يصور فرح من وصل أم رهو وهو في طريقه إلي كريمة:
أم رهو أدوها الخبر
أحمد الله الخاتري انجبر
في الطريق ما يحصل خطر لا دعاش لا هوا لا مطر
أحمد الله الخاتري انجبر!
وغني قبله عثمان حسين بإيقاع الدليب:
بلالي يما الليلي بلالي وقساي
أم غربان ادوهو خبر شربنا الجبنة بالسكر!
لكن الشباب والكهول ربما ابتهجوا وهم يعودون إلي أعمالهم أو معاهد تعليمهم في البنادر بعد أن قضوا أوطارهم وأصابوا من دفء الأهل والعشيرة ما يمدهم بأسباب البقاء عاماً آخر بعيدين عنهم! وهل كانت مفارقتهم إلا ضرورة فرضها كسب العيش الشريف وطلب المعارف؟!
ويسير القطار مارا ببلاد الرباطاب :دقش , أبو هشيم يصور لك الخيال جزائر مخضرة في قلب النهر. والشريك محطة يجملها وقوعها علي النيل لكنك لا تجد فيها حتي الشاي! جل سكان هذه المناطق علي الضفة الغربية أو في الجزائر وما أجمل (كجبي) جوار مقرات! ثم يصل القطار إلي (أبوحمد) وقد يصادف وصوله وصول القطار السريع الاكسبريس القادم من حلفها أو الخرطوم فلا تجد شيئاً في سوقها الذي تهبط إليه من عل فتجده غاصاً بما تريد فهناك ودلقاي وود خطيب والشاي والرغيف البلدي. ويقع السمع علي مساومات تصيب بها طرفاً من سرعة بديهة الرباطاب : الجردقة بي كم أجنا ؟
بي  ر يال؟
الواطة دي بي  ر يال؟!
إن بقت واطه مات دنقر خم!
أما عطبره وإن شئت أتبرا فيترجل فيها ركاب بورتسودان وناس الخرطوم يستقبلهم الأقارب وناس البلد جميعأ بالترحاب والدموع وربما بفول وعيش وطعمية, أصنافاً تميزت بها عطبره وبرع في صنعها الأشقاء من اليمن السعيد. ثم المحمية والموالح والمنقة والطباقة المزركشة وغير المزركشة التي تستقر في بطونها طرقات الكسرة المرة ثم عصي مزينة محنوفة الرأس (حنوفة أو بمبقاية)كانت تصنع للأطفال. وتلك مقدمة لدخول شندي التي اشتهرت بالطواقي والمناديل والطعمية وسلطة الباذنجان. وبعد شندي ليس هناك ما يستدعي الذكر سوي نهاية الرحلة في الخرطوم عموم.
وهناك طاب العيش واتسعت الدنيا والمعارف في البندر لأسرة جاءت من أعماق الريف للعمل في السكة حديد قوامها خمسة أطفال وثلاثة بالغين. وترسب في الوجدان هذا المزيج القروى المدني واتسع لقبول مكوناته معاً . والحياة يتعاقب عليها الخير والشر والفرح والأحزان وذلك ما كان. ترقي الوالد حتي استحق بيتاً من بيوت السكك الحديدية واستحق السفر علي القطار والبواخر في القمرا الدرجة الثانية وانتظم الابن في الدراسة بنجاح باهر. ثم عبس الزمان فمرضت الأم الشابة الحنون وفجأة مات الأب الذي لم يكن قد بلغ الستين. وبذلك انقطعت الصلة بالبندروكان لزاماً أن تعود الأسرة من حيث أتت .وكانت الدموع هذه المرة في محطة الخرطوم, دموع القطار, دموع جراحات عميقة تفيض بالأسي الذي استوطن فلم يرحل أبداً رغم كثير من الفرح والحبور والنجاحات ساقتها الرحمة الإلهية, فالله لطيف بعباده , فيما تبقي من أعمار من بقي من أولئك النفر, بقي الجرح الغائر المستوطن لم يندمل شأنه أعمق من شأن ما عبر عنه شاعر عاشق, فليس العشق كالأحزان:
الجرح نوسر بي
غور في الضمير
في قلبي خلف الكي
يا ناس الله لي
يحسه صاحب البصيرة النافذة في ضحكاتهم فتبدو لديه كالبكاء يختلط فيها الفرح والأحزان القديمة في الأغوار وتعبر عنه محبة لكل الناس كأنهم يخشون عليهم مصيبة الموت. تلكم لم تكن كدموع القطار المعتادة للفراق المؤقت الذي يحمل في طياته الخيركاكتساب معيشة أو علم أو حج وزيارة بل هو قرين المناحة الباكية:
اتكسر المرق واشتت الرصاص
وانهدم الركن وين البلم الناس
أطفال كصغار الحطيئة كعصافيرزقب الحواصل أعينهم زائغة باكية تتلفت لا تكاد تدرك أي معني لما وقع وأم مريضة مشفقة علي مصيرهم قتلها ذلك الإشفاق بعد علمين اثنين! يا رحمة الله! والصبي الذي أبقوه ليواصل التحصيل يكاد يقتله الحزن وشقيقه الأصغر ممسك برقبته لا يريده أن يتخلف وراءهم. أسي مر عليه أكثر من نصف قرن وبقي ساكناً لا يبرح يحز كحد المدي!

تعليقات الفيسبوك