هذه مقالة معدة للوسائط السيارة وليست ورقة علمية تبحث في تفاصيل إسهام الرجلين فذلك شأن المختصين في علمي الاجتماع والثقافة فضلا عن كون أن محل ذلك الدوريات الأكاديمية المحكمة. فقط تروم المقالة بحث الفكرة المحورية لدي المفكرين التي أقاما عليها جملة أفكارهما وسبب المقاربة أنهما يتفقان تماما عليها ويختلفان في التفاصيل اختلاف ثقافتين وحضارتين.
ماكس فيبر فيلسوف واقتصادي ومؤرخ ألماني يعتبر هو وإميل دوركايم وأوغست كنت ويضيف إليهم البعض كارل ماركس بمثابة آباء لعلم الاجتماع الحديث. ولد ماكس فيبر في مدينة فيربرت في ألمانيا عام ١٨٦٤ وتوفي في ميونخ في العام ١٩٢٠. شهد في صغره بلاده تتغير بسرعة مذهلة بسبب الثورة الصناعية، مدن تتسع بشواهق الأبنية وشركات ضخمة تقوم يحل مدراؤها محل الطبقة الارستقراطية القديمة من حيث الأهمية والتأثير. ذلك هو بزوغ فجر الرأسمالية . وقد عبر عن هذا التطور المذهل في أوروبا والانتقال من اقتصاد خامل ساكن يسيطر عليه اقطاعيون في مجتمعات تنظر إلي الثراء كما لوكان رجساً من عمل الشيطان، إلي ما يشبه الانفجار الهائل (بيق بانق)، روبرت هايلبرونر في كتابه ” الفلاسفة الدنيويون” الذي رصد الفلاسفة الذين أسهموا في تأسيس الاقتصاد الحديث(آدم اسمث، ديفيد ريكاردو جون مينارد كنز، كارل ماركس …) بالقول ” ما هي تلك القوي التي تملك من القدرة الكافية لتحطيم نظام مستقر لتقيم مكانه عالماً تؤسس عليه مجتمعاً جديداً لا يرغب فيه أحد؟ ليس هناك ثمة سبب بالغ القهر وحيد يفسر ذلك، إنما الذي حدث أن عالماً قديماً تخلق في أحشائه النظام الجديد وخرج منه كما تخرج الفراشة من الشرنقة”! ترجمة ما جاء ص٣٣.
هذه النقلة الهائلة جعلت الاعتقاد السائد أن الرأسمالية هي الوليد الشرعي لتطور التكنولوجيا و تحديداً لاكتشاف قوة البخار في تحريك ما كنتها . أما ماكس فيبر فقد كان وفياً للتراث العقلاني الغالب في ألمانيا ،تراث كأنط وهيقل الذي تصدي للحسية البريطانية وعظم دور العقل وما ينتجه من أفكار وجاء بثنائية تجعل العقل والحس عنصران لا غني عنهما للمعرفة فاستنتج معارضاً لكارل ماكس بأن الناس لم يحتملوا الرأسمالية مخدرين بأفيون الدين بل الدين هو الذي قادهم للرأسمالية. والمادية كانت هي الغالبة علي جل مفكري تلك الحقبة الذين استعصموا بالمحسوس المادي لتفسير الظواهر الاجتماعية . يري ماكس فيبر خلافاً لهم بأن النظام الرأسمالي الذي بدأ يتشكل ويقود خطام الإنسانية بهذه المخترعات نحو التقدم والرفاهية قد بدأ بحزمة من الأفكار التي ينتجها العقل البشري وتحديداً الأفكار الدينية، وليس كل الأفكار الدينية بل فقط البروتستانتية المسيحية وبتحديد أدق الكالفينية.(نسبة للقس الفرنسي جون كالفن وهو معاصر لمارتن لوثر في القرن السادس عشر ويختلف معه في بعض التفاصيل).ومحور الفكرة يقوم علي دعامة أن البروتستانتية قد ألغت فكرة الوسيط بين الخالق والمخلوق المعمول بها في المذهب الكاثوليكي حيث يلجأ المذنب للقسيس في الكنيسة الذي يتولى حمل توبته عنه ليرفعها إلي الله فيتخلص من إثمها وتأنيب ضميره عليها وينتظر يوم الحساب في القيامة مطمئناً خلواً من الخوف والقلق. لكن حركة الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر الألماني ومعاصره الفرنسي جون كالفن قد ألغت هذه الوساطة . (يري بعض الباحثين أن ذلك من تأثيرات الإسلام في الأندلس).وقالت بإمكان كل فرد من الناس أن يتواصل مع الخالق مباشرة دون وسيط. ولما كان الحساب والعقاب مؤجلان إلي يوم القيامة ،يشعر البروتستانتي بالقلق والخوف من مصيره يوم القيامة من رب منتقم جبار ولا يعرف وهو حي يرزق في هذه الحياة الدنيا ما إذا كان الرب راضياً عنه أم أنه ناقم عليه يوم يلقاه يوم البعث والنشور. وهذا الخوف يدفعه للعمل الصالح يقدمه للخالق بين يديه عند الحساب وبينما العمل المطلوب لدي الكاثوليكي هو العمل الديني في الكنيسة أو الدعوة للمسيحية الكاثوليكية، فالعمل الديني لدي البروتستنتية هو كل عمل مفيد للمجتمع وللبشرية فالنجار والحائك والمزارع كلهم يثابون علي عمل لا ينحصر نفعه في العائلة الصغيرة بل يتعداها للمجموعة . وأطلق علي هذا المفهوم ” السلوك الأخلاقي البروتستانتي” وألف عدداً من الكتب في هذا المعني منها كتابه الذي طبع في العام ١٩٠٥بعنوان، “الأخلاق البرتستانية وروح الرأسمالية”. وبهذه الروح يعيش البروتستانتي حياة نشطة قليلة القيود مقبلة علي النعم إذا نأي عن الرذائل فتتطور الحياة ويحقق المرء بذلك مراد الله من الخلق. وقد حصر القدرة علي التقدم والتصنيع علي الدول الأوروبية البروتستانية في أوروبا وأمريكا الشمالية وتبرز فرنسا وهي كاثوليكية لكنها متقدمة فيرجع البعض ذلك إلي أثر ابنها البروتستانتي جون كالفن .وخلص إلي أن الدول والشعوب الأخرى ليست مؤهلة للتقدم والصناعة والرقي لأنها لا تملك تلك العقيدة البروتستانية المحفزة للعمل بل تنتظر المعجزات والخوارق والبروتستانية قد ألغت من قاموسها المعجزات ولا تري سبيلاً للرقي إلا عبر العمل العلمي الدؤوب المنتج للتقانة والصناعات.و ألف كتبا عن الديانات الشرقية لتأكيد رؤيته في عدم أهليتها لصناعة التقدم وشرع في كتابة كتاب عن الإسلام ليطبق عليه نظريته تلك لكنه مات قبل أن يكمله بسبب تفشي جائحة الانفلونزا الأسبانية. علي هذه القاعدة أقام ماكس فيبر فلسفته في تحليل الظاهرة الاجتماعية فتحدث عن البيروقراطية و أهميتها في تنظيم المجتمعات الحديثة و تقسيم العمل في المجتمعات الصغيرة والكبيرة وتناول بالتحليل مفهوم الكاريزما وأن الدولة هي المؤسسة الوحيدة المصرح لها باحتكار استخدام العنف.
مالك بن نبي الجزائري المسلم ولد في مدينة قسنطينة في العام ١٩٠٥ وتوفي في العام ١٩٧٣ .تخرج في الجامعات الفرنسية مهندساً واهتم بقضايا الفكر والثقافة في العالم العربي والإسلامي محارباً واقع القابلية للاستعمار فيه واستنهاض المسلمين لاستئناف دورهم في النهضة . وهو يتفق مع ماكس فيبر في محورية الدين كمحرك رئيس لكافة الحضارات ويختلف معه في نظرة فيبر المعتمدة علي المركزية الثقافية الأوروبية والمتحيزة لها لدرجة إمكانية وصفها بالعنصرية .ويري أن كل الحضارات كانت بواعثها الأولي دينية. يقول إن الحضارة تشبه معادلة رياضية من ثلاث متغيرات هي إنسان+ تراب + زمن والتفاعل بين هذه المكونات لا يكون إلا بإيدولجية تلعب دور الوسيط الكيمائي بين أطراف هذه المعادلة. ومثله مثل ماكس فيبر جعل ذلك محور كتاباته العديدة : الظاهرة القرآنية، شروط النهضة، القضايا الكبرى : مشكلات الحضارة ، مشكلة الثقافة وغيرها.
وهو يري أن صناعة الحضارة متاحة فالإنسان موجود والتراب موجود والزمن متاح إذا توفرت الإيدولوجية أو العقيدة المحفزة والمفجرة للطاقات الفعالة في الإنسان. فالحضارة لديه إنتاج بشري لذلك فالتخلف الذي يعيشه المسلمون ينبع في الأساس من داخلهم. ويشير كأنه يرد علي ماكس فيبر إلي تأثير الحضارة العربية في الأندلس وغيرها علي الفكر الغربي وعلي عصر النهضة الأوروبية فيقول “إن وحدة الزمن لم يتم تحديدها وكان علي الإنسانية أن تنتظر الحضارة العربية لتري الزمان يقاس في النهاية قياساً رياضيا، لأن أحد الفلكيين المسلمين بالمغرب ( أبو الحسن المراكشي) قد اخترع وحدته حين حدد (الساعات المتساوية ) أعني حين قسم مدة دوران الأرض أربع وعشرين جزءاً متساوياً. فمنذ ذلك الحين انتقل تحديد الزمن من المرحلة التجريبية للمرحلة العلمية.” مشكلة الثقافة ص ٢٣
وحول أصل الدين في الحضارة الغربية يقول: ” إن شبابنا لينظرون إلي المدنية الغربية في يومها الراهن ويضربون صفحاً عن أمسها الغابر حين نبتت أولي بذورها وتلونت في تطورها ونموها ألواناً مختلفة وما فتئت تتلون عبر السنين حتي استوت علي لونها الحاضر فحسبناها نباتاً جديداً.” مشكلة الثقافة ص٨٠
ويضرب لذلك مثلاً بجمعية حضانة الأطفال في فرنسا. قال تبدو لنا “من أول وهلة أنها جمعية تقوم علي شؤونها دولة مدنية، ونحكم بأنها مؤسسة نشأت في بادي أمرها علي أسس مدنية (لا دينية). بينما لو درسنا تاريخها ورجعنا إلي أصول فكرتها الأولي لوجدناها ذات أصل مسيحي، فهي تدين بالفضل للقديس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين خلال النصف الأول من القرن السابع عشر. ٨١:
” ولسوف نصل في النهاية -إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلي الروابط الدينية الأولي التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة.”
وفي مسعاه لاستنهاض شبيبة المسلمين يشخص أزمتهم في فصل كامل من كتابه مشكلة الثقافة تحت عنوان ” الحَرفية في الثقافة”
[الحقيقة أننا منذ خمسين عاماً نعرف مرضاً واحدا يمكن علاجه هو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نري مرضاً جديداً مستعصياً هو (التعالم) وإن شئت فقل الحرفية في التعلم والصعوبة كل الصعوبة في مداواته. وهكذا أتيح لجيلنا أن يشهد خلال النصف الأخير من هذا القرن ، ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الأطمار البالية، وحامل اللافتات العملية. فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يتقن العلم ليصيره ضميراً فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش وسلماً يصعد به منصة البرلمان.}
بين ماكس فيبر ومالك بن نبي
0