(تأخر نشر هذا الجزء لحزن عميق وفقد فادح وخرق يستعصى على الرتق ألم بأسرتنا)
تفضل الأخ الصديق صبحى غندور مدير و مؤسس مركز الحوار العربى الأمريكى فى منطقة واشنطن العاصمة بنشر الجزء الأول من مقالتى هذه ” بعض إضاءات عن المزروعى الذى رحل!” على صفحة المركز الإلكترونية مشيراً إلى أن المركز كان قد استضاف المزروعى فى مقره فى السادس من ديسمبر من عام 1997 شافعاً ذلك بمقالة أكاديمية كان قد نشرها الراحل فى مجلة “شؤون دولية” المرموقة التى يصدرها مجلس الشؤون الدولية فى عدد سبتمبر/ أكتوبر لعام 1997 , جعلها المزروعى مادة لمحاضرته التى ألقاها فى المركز . ولما كانت تصب فى ميدان محاولة الفهم المشترك بين الإسلام والغرب خاصة وهى بعنوان “القيم الإسلامية والغربية.” رأيت أن أجعلها موضوع الحلقة الثانية فى شأن الفقيد الراحل على المزروعى تعميماً للفائدة. والمقالة جريئة فى منازلة الغرب واسترعاء إنتباهه للفوارق الهائلة بين
الإدعاءات المبدئية والتطبيق وأن البون ليس شاسعاً بينه وبين مجتمعات المسلمين فى كثير من قضايا المرأة والحريات. ومثلما أنه متقدم على المسلمين فى بعض الجوانب وبعض التطبيقات فإن مجتمعات المسلمين التى يرزح جلها تحت وطأة أنظمة سياسية متسلطة ومستبدة تبذ المجتمعات الغربية من حيث السلام الإجتماعى وتدنى نسب الجريمة والإدمان وتنعم بتماسك أسرى أكثر. وهو لا يستبعد أن تنحدر مجتمعات المسلمين إلى تلك المدارك بفعل الحداثة والنقل من الغرب فى نهاية المطاف إن لم تحاذر وتتحسس مواقع
أقدامها. والغاية من هذه الإضاءات ليس التباهى بأحوال المسلمين ولا تسجيل نقاط على الغرب لكن الطرق على ما ذهب إليه المزروعى مفيد فى حوار الحضارات وفى تفهم أفضل للغرب للمجتمعات الإسلامية.
وقبل أن نوغل التسفار فى عوالم المزروعى الفسيحة اشير إلى أن الأستاذ أحمد كمال الدين كان قد ذكر لى تعليقاً على مقالتى المذكورة أو قل الجزء الأول من هذه المقالة أن الدكتور منصور العجب قد اقترح عليه الإشارة إلى أن نجلى المزروعى معاقان وأنهما بوفاته قد فقدا العائل فعسى أن تقوم إحدى المؤسسات بالتكفل بهما.واذكر أن المزروعى كان قد اشار فى مسلسله الشهير بأنهما قد فقدا حاسة البصر بصورة مفاجئة. ها أنذا أفعل بإيمان راسخ بأن الخير باق فى الإنسانية ما بقيت وحق الرجل عليها فى التعريف وبالمساهمة فى
إحياء السلم بين الناس بالتعارف وجميل التسامح والقبول بالآخر كما خلقه الله وكما صاغته بيئته, يحتم عليها رد بعض دينه عليها برعاية نجليه المعاقين.
يقول المزروعى فى تلك المقالة/ المحاضرة إن الغرب يتباهى إذا نظر إلى العالم الإسلامى إذ يرى تخلفاً و سطوة للدين على الحياة وتسلطاً للحكام على شعوبهم بينما تنعم مجتمعاته هو بالحرية والديمقراطية والعلمانية. يجادل المزروعى رداً على هذه التهمة بالقول إن معيار المقارنة بين حضارة الإسلام وبين الحضارة الغربية أكثر تعقيداً من أن يختزل على هذا النحو كما أن الفارق بين العالمين أضيق مما يتصور الغربيون: فالإسلام ليس مجرد دين كما أنه ليس حركة أصولية لكنه منظومة حضارية متكاملة ومنهاج حياة رغم أن تطبيقاته ووقعها على الحياة والأحياء يختلف من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر إلا أن حبلاً متيناً من قيم إنسانية رفيعة تشد أطرافه تلك رغم ما يكون فيها من تباين بأكثر مما يراه ويعرفه الغرب مثل جهل الغرب بأن مجتمعاته فشلت فى العيش وفق القيم الليبرالية المثالية التى يتباهون بها. وأكثر من ذلك أن زعم الغرب بان جوانب الحياة التى يعيشها العالم الإسلامى اليوم تعود إلى القرون الوسطى يتجاهل أن تلك الجوانب التى تعود إلى القرون الوسطى ظلت قائمة ومعاشة فى المجتمعات الغربية إلى وقت قريب وأن الغرب قد بارح محطاتها قبل عقود قليلة خلت وأن الشقة الإجتماعية والتكنولوجية بين الغرب وعالم الإسلام ليست بالإتساع الذى يظنه الغرب كما أن العبرة فى نهاية المطاف لا تقاس بإتساع تلك الشقة ولا بضيقها إذ أن التعويل ينبغى أن يكون على كون : أى النهجين يحقق أرفع درجة من العيش الكريم للمواطن البسيط ويتفادى ما هو أسوأ. الحضارة الغربية لا تملك الإجابة على العديد من الأسئلة من هذا القبيل والإسلام يستحق من الغرب إعتباراً أكبر و فهماً افضل لقيمه.
يقول إن الثورة فى عالم التكنلوجيا قد أحدثت تغيرات عميقة فى منظومة القيم والأخلاق التى كانت سائدة فى الغرب وذلك خلال عدة عقود. وإن المجتمعات الإسلامية تتعرض اليوم لذات التغيرات وربما ينتهى بها المطاف إلى ما انتهت إليه المجتمعات الغربية. من تلك التغيرات مثلا ً فإن ممارسة الجنس قبل الزواج كان أمرا مرفوضاً فى المجتمعات الغربية حتى بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ) انتهت بإنتصار الحلفاء عام 1945(. ولا تزال قوانين تحريم الجنس خارج قفص الزوجية قابعة فى بطون كتب القوانين وإن ندر إنفاذها. أما اليوم فإن ممارسة الجنس قبل الزواج وبموافقة وعلم الوالدين أصبحت أمر اً شائعاً فى المجتمعات الغربية وعادي اً. أما الشذوذ الجنسى فقد كان جريمة يعاقب عليها القانون فى بريطانيا حتى عام 1960 )لم يكن كذلك بالنسبة للسحاقيات( اما اليوم فهو مباح بنص القوانين فى الغرب وإن ظل محرماً فى معظم دول العالم الأخرى. ولما كان المزروعى ضدعقوبة الإعدام فقد أشار إلى قصور بعض الدول كالولايات المتحدة التى عادت فأعادت هذه العقوبة بل زادت من تنفيذها فى حق المحكوم عليهم بها .
ويخلص إلى أنه سياتى اليوم الذى تحذو فيه الولايات المتحدة حذو الآخرين فى تحريم هذه العقوبة وإعتبارها ضربا ً من إنتهاكات حقوق الإنسان .
يقول ايض اً إن الغربيين يرون أن المسلمين متخلفين فى شأن المرأة. و يعلق على ذلك بأن فى ذلك بعض الحق إذ أن التركيز الزائد على موضوع الإحتشام يفضى أحيان اً إلى عزل النساء وتقليل مشاركتهن فى الحياة العامة بل إلى تهميش دورهن فى الحياة. لكن يقارن بين أوضاع المرأة فى الإسلام وأوضاعها فى الغرب ليؤكد أن المسلمات يتفوقن على نظيراتهن الغربيات فى إكتساب حقوق أصيلة منذ البداية. فمثلاً سمحت القوانين البريطانية بحق التملك للمرأة المتزوجة لأول مرة عام 1870 بينما ظلت المسلمة تتمتع بذلك الحق منذ ظهور الإسلام. يقول لا ننسى أن الإسلام أنزل على رجل أعمال )الرسول محمد صلى الله عليه وسلم( الذى كان فى شراكة تجارية مع زوجته )خديجة(. يقول إن الذكور فى المجتمعات الغربية كانوا يستأثرون بكامل ورثة الأب بينما لا تنال الأخوات شيئاً. أما نصيب الأخوات فى الإسلام فقد كان محفوظاً على الدوام بالنصوص الشرعية. فى الغرب أيض اً كان الابن الأكبر هو الوارث الوحيد بينما كان الأبناء
الآخرون والبنات يرثون من نصيب الآباء والبناء لأربعة عشر قرناً. وفى جميع الأقطار الغربية عدا نيوزيلاندا لم تنل النساء حق التصويت إلا فى القرن العشرين. أجازته بريطانيا على مرحلتين فى عام 1918 وعام 1928 بينما أصبح قانون اً فى الولايات المتحدة بموجب تعديل دستورى عام 1920 وتم ذلك فى فرنسا عام 1944 أما فى سويسرا فلم تنل النساء ذلك الحق إلا عام 1971 بعد نساء أفغانستان وإيران وباكستان و)السودان.( ثم أفرد حيزاً مقدراً للمقارنة بين حرية التعبير فى العالمين الإسلامى والغربى مشيرا ً بإسهاب لأنماط الرقابة المتعددة على وسائل الإعلام بالحذف والمنع ) السنسرة ( فى الغرب. يقول إن )السنسرة( من حقائق الحياة فى الغرب تماماً مثلما أنها فى العالم الإسلامى. الفرق أنها فى العالم الإسلامى أنها سنسرة تتم بطريقة فجة وجافة ومباشرة )خام( خالية من التذويق والكياسة تفعلها حكومات وملالى وأئمة ومؤخراً جماعات إسلامية متشددة بينما تتم فى الغرب بنعومة وحذق,مذوقة ولا مركزية تمارسها بعض المؤسسات التى ترعى البرامج الثقافية والسياسية فى الوسائط الإعلامية .وهو عين ما شرحناه بإسهاب فى الحلقة الأولى فلا نعيده هنا.لكن الذى لم نشر إليه هو )سنسرة( دور النشر الأمريكية .
يقول إن دار النشر )ويست فيو( فى بولدر كلورادو كانت بصدد حذف ثلاثة فصول من كتاب له بعنوان “القوى الثقافية فى عالم السياسية .” يتحدث أحد تلك الفصول التى كانت مهددة بالحذف عن كتاب سلمان رشدى “الآيات الشيطانية ” بإعتباره نوعاً من الخيانة الدينية وفصل آخر يشبه الإنتفاضة الفلسطينية بما تم فى ميدان تياننمن فى الصين والثالث تشبيه المشروع الصهيونى فى فلسطين بنظام الميز العنصرى فى
جنوب إفريقيا. لذا قام بنشر الكتاب لدى دار نشر بريطانية. ويستدرك بالقول مقرظ اً إنه قد عنى باللامركزية أن دور اً تفعل ذلك ودوراً أخرى لا تمارس السنسرة ويعلق بأن هذه اللامركزية أمر إيجابى على الأقل .
يقول أيض اً إنه حتى وقت قريب كان من الصعب فى الجامعات الأمريكية المرموقة تثبيت الأستاذ الجامعى فى وظائف التدريس إذا كان صاحب ميول ماركسية أو كان ناقداً لإسرائيل أو للصهيونية.
وعن تباهى الغرب بالعلمانية واعتبارها ترياقاً لإقصاء الأقليات الدينية والعرقية , يقول إن تجربة الغرب فى هذا المضمار لم تؤكد ذلك فالعلمانية فى ألمانيا لم تمنع النازية من التنكيل باليهود ولم تطفئ نار معاداة السامية فى شرق أوروبا. أما فى الولايات المتحدة فلم يفز بالرئاسة سوى كاثوليكى واحد هو جون كنيدي بأغلبية ضئيلة وانه ليس من المنظور فى المستقبل القريب أن يصل مسلم لرئاسة ذلك البلد. وفى المقابل يشير إلى أن اليهود والمسيحيين حظوا بأرفع المناصب فى الدولة الإسلامية فى الأندلس وفى الدولة العثمانية وفى الهند المغولية ويشير فى العصر الحديث إلى طارق عزيز وبطرسبطرس غالى ليؤكد بذلك تفوق
المجتمعات الإسلامية فى ميدان التسامح الدينى.) ذكر البروفسور عبد الله الطيب أن الأوربيين تعجبوا عند زيارتهم لعاصمة الخلافة العثمانية لوجود قضاة سود فى تلك العاصمة!.”
يقول إن الديمقراطية الليبرالية الغربية قد مكنت المجتمعات الغربية من الإنفتاح ومراقبة الحكومات ومحاسبتها ومكنت من المشاركة الشعبية فى إدارة الشأن العام ومكنت من تحقيق معدلات إقتصادية عالية لكن التعددية فيها خلقت فى ذات الوقت مناخاً أفرخت فيه العنصرية والإبادة الجماعية و الفاشية والإستغلال .
يقول إنه يتعين على الغرب أن ينظر بعين فاحصة إلى مجتمعات المسلمين التى تفوقت على كافة الحضارات فى النجاة من أسوأ أمراض العصر الحديث كإدمان الكحول والمخدرات وتفشى مرض نقص المناعة والعنصرية و عنف الشوارع والقتل حيث دلت الإحصاءات عند المقارنة على قلة هذه الظواهر السالبة فى معظم المدن الإسلامية الكبرى بالمقارنة مع نظيراتها فى المجتمعات غير المسلمة. ويندرج ذلك عنده فى سياق التفرقة بين المبادئ الديمقراطية والمبادئ الإنسانية.بمعنى أن الإسلام متفوق فى هذا المضمار.
وفى حق المسلمين ونصحاً يقول لعله بالإمكان تجاوز الحداثة تسامياً إلى ما بعدها, أى إلى ما بعد الحداثة دون التقهقر إلى الماضى وإلتماس الحلول هناك لعللها السياسية والإقتصادية حصاداً لثمرات العولمة الإيجابية دون السقوط فى علل المجتمعات الغربية.
وبعد… فهذا موجز لتلك المقالة الجيدة لا يغنى عن الإطلاع عليها فى مظانها المذكورة آنف اً
ولعلكم ترون كما أرى أن المزروعى رحمه الله قد صوب النظر إلى نصف الكوب الملآن فى مجتمعات المسلمين وإلى نصف الكوب الفارغ لدى المجتمعات الغربية ليحفز الظالع فى مؤخرة الركب مترنحاً بأن لديه ما يساهم به ويسرع بخطاه فقط عليه اعمال الفكر فى الكيفيات المناسبة الفعالة, وليقول للمجتمع الغربى الضليع , رغم أن الظالع ليس كالضليع, حنانيكم فإن الكمال لله وحده. فتجملوا والتمسوا الحكمة لدى هؤلاء الذين تظنون بهم الظنون و الذين لهم على الحضارة الإنسانية يد سلفت ودين مستحق حتى ينصلح حال الإنسان… كل الإنسان!
بعض إضاءات عن المزروعى الذى رحل! (2-2)
0