والعديل والفال كلمتان محببتان فى عاميتنا السودانية مضمختان برائحة البخور والعطور تزفها اليك ايقاعات الطبول( الدلاليك) وزغاريد الأصوات الندية ولا تكاد تسمعهما حتى تقفز الى الذاكرة صور الحسان مبتهجات يعلو وجوهن البشر والحبور وتخالهن يرددن للتو:
الليلة العديل والزين
الليلة العديلة وياعديلة الله!
الليلة العديلة تقدمو وتبرى
والعديل يراد به الاستقامة على الجادة. وفى مختار أبي بكر الرازى أن ( تعديل الشىء) يعنى “تقويمه”. وفى العامية المصرية (عدل) بكسر العين و الدال. والفال تسهيل لكلمة الفأل المهموزة وهى صحيحة بالتسهيل أيضا كقولك فى ( رئم) أو ( ريم). وجاء فى الحديث الشريف أنه عليه السلام ” كان يحب الفأل ويكره الطيرة” أى أنه كان يحب التفاؤل ويكره التشاؤم. وفحواه أن المغنية فى العرس تتفاءل خيرا للعروس( العروس مثل كلمة زوج تصح فى حق الرجل والمرأة معا) أو العروسين بدخول عش الزوجية بالاستقامة على جادة فى الحياة الزوجية لا تعرف العوج تفضى الى السعادة وانجاب الولد ( والولد أيضا وفى هذا السياق تشمل الأنثى والذكر.) ! ليس ذلك وحسب بل ترجو الحسناء للعروس أو العروسين أن يكونا فى خفارة العديل والفال والزين من الأمام والخلف معا!
وفى الشمال شدت حسناء فى عرس مغنية:
بلالى أنا البلال على أماتك (أمهاتك) بخيت يالقدمو الله وسار
على أماتك بخيت!
ويبدو لى أن اسم “بلال” بفتح الباء غير “بلال” بكسرها الذى هو اسم الصحابى بلال بن رباح الذى يكثر فى بلاد الشام حيث ضريحه. ولعله من البلل والبلل مظنة الغيث والنماء وهو نقيض الجفاف و(المحل) ويتسع المعنى لكثرة الذرية أيضا. فى بعض أنحاء الجزيرة الخضراء( فى الحلاوين) تجد اسم “بلل” و”بلل الشيب”. ويغلب فى ظنى –لولا أن تفندون- أن منه اسم “بلة” بالفتح الشائع فى أنحاء الجزيرة وبعض مناطق كردفان رغم أن صحيحها بكسر الباء لا بفتحها وربما كانت جذوره مغاربية وأنه ذات الأسم الذى يحمله الرئيس الجزائرى الأسبق أحمد بن بلة رغم أنهم يكتبونه “بيلا”. و”البلال” وفق ما ذهبنا اليه اسم مشرب بمعان الفال والرجاء فى هطول الغيوث وما ينتج عنها من اندياح الخير العميم من نماء الزرع وامتلاء الضرع !
وبخيت من البخت وهوالحظ وهى من الصحيح الفصيح وهو اسم علم فى السودان وبدرجة أقل فى بعض أنحاء الجزيرة العربية. وقد تأتى معها كلمة عليك ” بخيت عليك!” وتعنى فى هذا السياق “مبروك” أو “مبارك” . وقد توصف شعرة بيضاء متمردة تظهر على رأس شاب حدث قبل أوانها بأنها شيبة ” بخاتة” أى أنها ليست علامة تقدم فى السن وانما سمة فأل حسن وسعادة لم تزل فى طيات الغيب. ويسميها العرب ” رائعة البياض” ورائعة هنا من الروع وهو الفزع والخوف ! واعتبار هذه الرائعة بأنها ” شيبة بخاتة ” ربما كان تخفيفا للروع وهذا حسن فى باب التأسى .ونقول حسن فى باب التأسى لأن الكبر وما يصاحبه من ضعف ووهن أدعى للخوف على الحياة وليس الحال كذلك بالنسبة للفتوة والشباب والجلد رغم أن أسباب الموت تصيب الفريقين ولا تفرق الحادثات المفضية للهلاك بين جذع مفتول العضل وشيخ قد هرم. والتأسى حوام حول الحمى مطلوب على كل حال. قالت الخنساء فى رثاء أخيها صخر:
ولو لا كثرة الباكين حولى على اخوانهم لقتلت نفس
وما يبكون مثل أخى ولكن أعزى النفس عنه بالتأسى
الا أن أبا الطيب رحمه الله قد حشرنا ونفسه فى زمرة من واساهم من أهل الشيب الكثيف ببيت جميل:
ولقد خبرت الحادثات فلا أرى يققا يميت ولا سوادا يعصم!
و(اليقق )هوالبياض. يقول انه خبر من تجارب الحياة أن البياض ( أى الشيب) لا يقتل أحدا كما أن سواد الشعر لا يطيل عمرا! والتأسى والتعلق بالآمال أدوم لاستمرارية الحياة والفأل أليق بالحياة من الطيرة لأنه أدعى للبحث عن حلول للمشكلات أو هو دعوة تحث على فضيلة السعى للتغلب عليها. وكنت قد كتبت فى هذا الصدد قبل أعوام خلت والناس فى طيرة من أمرهم كما هم هذه الأيام وتحت عنوان ” أنت مدين لنفسك بفسحة أمل!” ما يلى:
” ترتعد فرائص المدينة من وطأة الألم.و ان الألم ليملأ الشوارع والأزقة , انه يتكدس فى غرف المعيشة أيضا.و ان الناس يعانون من الجوع والموت والوحدة وعدم المساواة. و المؤسسات الحضرية يهتز بنيانها من القواعد و نسبة الجريمة فى الشارع العام قد بلغت حدا خطيرا رغم جهود الشرطة فى السيطرة عليها. ان الجامعات تغلق أبوابها بسبب الاضرابات والعنف رغم الاصلاحات التى تطول أوضاعها. و الطلاب والأساتذة على السواء غدوا يهجرون الجامعات فى المدن الكبرى بسبب الاحباط والخوف. وهناك الأحياء الأكثر فقرا(القيتو) تموج بالعنف والحرائق بينما تتدفق الى داخلها أموال طائلة. و برامج الرعاية الاجتماعية تتعرض للهجوم من قبل أولئك الذين يفترض أنها أنشئت لمساعدتهم.
ان احساسنا بأننا نشكل نسيجا اجتماعيا واحدا قد تبدد. ان هذه الصرخة الحرى تسمع من كل ركن فى بلادنا لتحكى واقعنا على حقيقته وهو موت الوحدة الثقافية التى تربطنا كمجتمع واحد والتى كنا نشعر بها ونحسها.”
” ان الأقليات تشير بأصبع الاتهام الى أن التفرقة قد غدت جزءا لا يتجزأ من نسيج حياتنا و انها تطالب بمزيد من الأنصبة فى الثروات وبفرص متساوية حقيقة لا ادعاء بل يذهب البعض منهم الى المطالبة باقامة كيان خاص لهم منفصل يقوم على أسس ثقافية مختلفة. وفى المقابل فان سكان الضاحيات (الراقية) وآخرين من الطبقة الوسطى قد أعلنوا ولاءهم للقيم التقليدية ونادوابمزيد من سلطة القانون والنظام للحفاظ على الطمأنينة التى كانت سائدة بالأمس.”
هذه ليست افتتاحية لأحدى صحف الخرطوم اليومية بعد الأحداث المؤسفة التى وقعت عقب وفاة الدكتور جون قرنق مبيور خلال يوليو من عام 2005كما قد يتبادر لذهن القارىء للوهلة الأولى, لكنها فى حقيقة الأمر ترجمة لنص من كتاب أمريكى صدر عام 1970
يصف حالة الحواضر الكبرى فى الولايات المتحدة فى أعقاب ثورة الشباب فى ستينيات القرن الماضى على جملة موروثات الكبار من التفرقة العرقية والتفاوت الطبقى والحرب الجهنمية فى فيتنام.وقد حذفنا من النص عمدا كلمة (أمريكية) حتى نسترع انتباه القارىء للظروف المتشابهة التى تعيشها العاصمة الخرطوم هذه الأيام وتلك التى عاشتها كبريات المدن الأمريكية قبل نحو أربعين عاما خلت فى منعطف هام من المنعطفات التأريخية للأمة الأمريكية. ويعالج الكتاب اشكالية ثقافة فرعية ضمن منظومة الثقافات الفرعية هناك وهى ثقافة مدمنى الخمر الذين فقدوا الأسرة والمأوى هائمين على وجوههم حيثما اتفق هربا من الشرطة والقانون وقد اطلق عليهم الكاتب الأنثربولوجى جيمس سبرادلى مصطلح ” بدو البندر” فى كتاب يحمل عنوان أوغل فى الجدة والطرافة : ” أنت مدين لنفسك بمخمور”
You Owe Yourself A Drunkأو “أنت مدين لنفسك بمدمن شراب”. (نهاية الاقتباس).
والشاهد هنا أن أمريكا قد تجاوزت تلك المرحلة بسلام كما تجاوزنا نحن آثار الغضبة التى نتجت عن وفاة الدكتور جون قرنق لذلك تبقى فسحة الأمل والتعلق بأهدابه أمرا لازما لتجاوز الصعاب سيما و أن دواعى التشاؤم والاحباط اليوم هى الأعظم من أى وقت مضى على تاريخ السودان المستقل اذ أن شبح التقسيم بات شاخصا يوشك أن يقع بعد حين.
ولما كان أمر انفصال الجنوب أو بقاء السودان موحدا يحدده أبناء الجنوب وحدهم وفقا لاتتفاق السلام الشامل , فليس فى وسع أمثالنا من الكهول والشيوخ ممن تغنوا ببلد المليون ميل مربع وباخاء( منقو زمبيزى) وممن ظنوا أن اتفاقية السلام قمن بها أن تصبح اطارا تقوم عليه الوحدة على أسس جديدة بعد معالجة قضايا التهميش, أقول لم يبق لجيلنا الا الفأل الحسن فى ألا يترتب على قرار الأشقاء فى الجنوب ان اختاروا مفارقتنا, بذر بذور جديدة للشقاق والمآسى والاقتتال تعانى منها ذرارينا والأجيال القادمة ويبقى البؤس والفقر والمسغبة.كان المأمول ان يكون معيار المحاصصة فى اقتسام السلطة والثروة لفترة انتقال محددة يعقبها مسار ديمقراطى حر, كفيلا بالتعجيل بمعالجة تشوهات التنمية اللا متوازنة بين أجزاء البلاد أيا كانت أسبابها وجعل الساحة السياسية بعد ذلك مضمارا مفتوحا للسباق والتنافس على كسب ثقة الناس وتفويضهم للقيام بأعباء الحكم نيابة عنهم وتحت رقابتهم و أن يكون فى اعتماد الاتفاقية المواطنة وحدها بقطع النظر عن العرق والدين والثقافة والجهة مندوحة عن الخلوص الى استفتاء على تقرير المصير اذ أن اقرار تلك القواعد الصلبة التى تقوم عليها الدولة العصرية فى كل مكان يعد بداية الطريق لا نهايته اذ أن اقامة الدولة الحديثة يعد مشروعاprocess يتكامل كل يوم ويمضى قدما الى غاياته فى تحقيق المساواة وازالة المرارات التاريخية المتراكمة و لا ينتظر عاقل رشيد من مجرد تضمين تلك القواعد فى الدستور والقوانين المنبثقة عنه, تحقيق الغايات المرجوة منه فى بضع سنين.وتجارب البلدان المتقدمة لهى أبلغ دليل على ذلك فبناء الدولة الحديثة التى يتساوى فيها الناس دون ميز بدأ لديها بالنص فى الدساتير على المساواة أمام القانون والنص على ازالة كافة الفوارق التى تحول بين أى قسم من المواطنين وبين حقوقهم كاملة غير منقوصة بل و القضاء على المناطق الرمادية فى التشريعات والنظم التى تخلق شعورا بالتمييز حتى وان لم يكن مقصودا أو موجودا حتى تكامل عبر القرون والحقب والنضالات فأصاب اليوم حظا مقدرا من بلوغ الغايات دون أن يبلغ حد الكمال ولا تزال تلك المجتمعات تستعين بتدابير أخرى تتخذ عبر برامج التعليم وأدوات التثقيف المستمرة لتحقيق تلك الغايات. وهكذا يتدرج المشروع process فى مدارج الكمال يوما بعد يوم. ولا توجد اليوم دولة من الدول فى العالم الأول أو الثالث يشعر مواطنوها جميعا أنهم متساوون تمام المساواة رغم النصوص الواضحة فى القوانين على ذلك. لذلك تجد فى العديد من الدول المتعددة الثقافات برامج محاصصات للأقليات لزيادة وتيرة دمجها فى التيار العريض للمجتمع للتكفل بمعالجة الأسباب التاريخية التى قعدت بها. وتكون هذه المحاصصات فى مجالات العمل والتعليم وربما الاسكان أيضا. هذه المحاصاصات أو الquotas تعد أبلغ دليل على اعتراف تلك المجتمعات بأن مجرد النص فى قوانينها وأنظمتها على التساوى فى الحقوق والواجبات ليس كافيا لتحقيق ذلك نظرا لعوامل تاريخية صاحبت وجود ونمو الأقليات داخل تلك المجتمعات. وفى هذا السياق أرى أن أعظم انجازات اتفاقية السلام الشامل هو اقرار مبدأ اقتسام السلطة والثروة والنص على أحقية كل سودانى بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى فى تقلد كافة المناصب فى الدولة بما فى ذلك رئاسة الجمهورية. وكان المأمول وقد اعتمد هذا الاطار الجديد لتطور الدولة السودانية أن تنحصر النضالات فى الحرص على تطبيقه من قبل جميع من فى الساحة السياسية حكاما ومعارضين وجعل تلك النضالات بديلا عن مبدأ تقرير المصير لا أن يصار الى جعل مصير أكبر بلد فى افريقيا جنوب الصحراء وأسبقها نيلا لاستقلاله يقوم على تجريب اطار ناجع لرفع المظالم وازالة التشوهات فى مدى ستة أعوام فقط لا غير الا أن يكون العزم قد انعقد ابتداء على تقطيع أوصال الوطن وأن النص على أولوية الوحدة الجاذبة لم يكن سوى خدمة لفظية كما تقول الفرنجة. لا يسارع متعجل فيظن أننا نقترح على اخوتنا فى الجنوب الانتظار عقودا من الزمان متطاولة حتى يتحقق سعيهم المشروع فى العيش فى السودان القائم فى كنف وطن يعتزون بالانتماء اليه فقد تلاحقت الكتوف وتبددت الكثير من الصور النمطية المتبادلة حتى لم يعد أحد يستكثر علي أحد منهم تقلد موقع من الواقع وان علا وتطاول .وأعجب العجب كله للمنظمة الافريقية التى باسمها تم الاتفاق و لم لم تستميت دفاعا عن مبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعماروهو مبدأ أقرته منظمة الوحدة الافريقية منذ قيامها طالما أن هناك من الوسائل ما يعالج التشوهات التاريخية الموروثة عن الاستعمار أو الأهلية التى سبقت مجيئه. وتنحصر نضالات الأقليات فى الدول المتقدمة والدول سريعة النمو فى العالم النام اليوم و عبر الوسائل السلمية فى تسريع عمليات مساواتها الكاملة و دمجها فى التيار العريض وتثبيت وتقوية انتصاراتها فى هذا المسعى الانسانى النبيل. ويحار الحليم فى المقصود بالوحدة الجاذبة. هل هى حزمة من تدابير تنموية تنجز فى جنوب البلاد لردم بعض الهوى التنموية بين شطرى القطر؟ أم المراد منها ازالة الجفوة ونزع ما فى الصدور من غل تراكم لحقب عديدة من الزمان لأسباب حقيقية أو متصورة؟ اذ لا يقبل العقل أن المراد بها هو مجرد احترام نصوص الاتفاق رغم أهمية ذلك القصوى فى بناء الثقة بين الشريكين . فلئن كانت الوحدة غير جاذبة ساعة جرى التوقيع على الاتفاق بسبب المرارات التى يحس بها الجنوبى تجاه الشمال فالستة أعوام المنصوص عليها كفترة انتقالية ليست كافية لازالة ركامات من تلك المرارت أدت لاستمرار الحرب لأكثر من أربعين عاما بين الشطرين. وان كان المراد تحقيق قدر محدد من التنمية خلال تلك الفترة فلماذا لم ينص عليه بالكم فى صلب الاتفاق كتحديد كيلومترات بعينها من الطرق ونسبة محددة لاقامة بنى تحتية للصحة والتعليم والخدمات الضرورية مثلا حتى يمكن قياس ما تحقق من ذلك فى نهاية الفترة المحددة وعلى أساس ذلك يقاس مقدار الجاذبية المتوخاة!؟ وفى هذه الحالة كان يمكن رفع بعض العتب عن الشريكين و تحميل الأسرة الدولية وزر تقاعسها عن الوفاء بالتزاماتها التى وعدت بها فى أوسلو مرتين.وان كانت النوايا صادقة فى جعل الوحدة جاذبة فلماذا كانت أشرس معارك الشريكين فى ترسيم الحدود وانسحابات القوات ؟
وعلى كل فان أوان القاء الملام على الجهات والأفراد والحكومات التى أدت لوضع بلادنا فى مأزق التقسيم لم يحن بعد فسيحصى التاريخ كل صغيرة وكبيرة خاصة والوثائق الدامغة أكثر من أن تحصى لكن المهم أن تنهيأ لاحتمال التقسيم الذى يؤكد لنا المسؤولون فى الجانبين أنه أرجح الاحتمالات. وعوضا أن يغرق المؤمنون ( ونحن منهم )بامكانية الحفاظ على البلد موحدا فى مستنقع القنوط والأحزان دعونا نتهيأ للاحتمال الخطير برباطة جأش وأن نجعل من وقوع التقسيم فعلا حضاريا يتم عبر التراضى ودون اراقة دماء وأن لا يكون مدخلا لمزيد من التقسيم فى الشمال والجنوب. والله يعيننا على اجترار الحسرات واحتمال آلام تشريح أعضاء الوطن وهو حى لم يمت عسى أن يدفعنا ذلك لاقامة جوار أخوى خلو من الضغائن.
(نقلا عن يومية الرأى العام)